مواعظ لزمن التريودي

أحد الأرثوذكسية – الأحد الأول من الصوم
المسيح أمسى غريباً

ها قد قطعنا الأسبوع الأول من الصوم الأربعيني المقدس. الصائم ليس ذلك الإنسان الذي يعطي ربه مِنَّة، الصائم هو ذلك الإنسان الذي يفرح لأنه يفتح قلبه لاستقبال الرب وبذلك يبتهج في فترة الصوم الأربعيني المقدس.

المناخ الذي خلقته القراءات اليوم حولنا، والقطعة التي سمعناها من الرسالة إلى العبرانيين، كان التشديد فيها على الإيمان. الرسالة إلى العبرانيين كتبت حديثاً موجهاً إلى المسيحيين بعد مجيء المسيح. كانت موجهة لأناس لم يشاهدوا الرب يسوع ماثلاً أمامهم بالجسد كما كان أوائل المؤمنين. من يدري، فلربما كانوا يتساءلون مثلما يتساءل الكثيرون اليوم: أين الرب يسوع ؟ فكان الجواب الذي أعطاه الكاتب: إن الرب يسوع لا تراه بعينيك الخارجيتين بعد أن صعد إلى السماء، ولكنك تراه بعينيك الداخليتين، تراه في الداخل.

المسيح لا يُفتش عنه في الزوايا، ولا في الغرفة هنا وهناك. المسيح في القلب. المسيح مسيح الأعماق. والصوم هو عملية تنظيف لنفوسنا، تنظيف لعيوننا، مسح الغبار عنها لكي تصبح قادرة على رؤية الرب يسوع وعلى مشاهدة تألق وجهه. لقد تقززت العيون، أيها الأحباء، وما عادت قادرة أن تبصر إلاّ اللحم والعظم والحجارة وما إليها. تقززت عيوننا لأننا لا نمسحها.

تقول الكنيسة ينبغي أن نصوم، يجب أن نُدخل الطهارة إلى القلوب. من لا يتدرّب على الشيء لا يمكنه أن يقوم به. ومن لا يمرّن عينيه على رؤية شعاع المسيح، فلن يتمكن من رؤية الشعاع وإن مرَّ قريباً منه. صرنا جامدين. صرنا جامدين دهريين. لم يعد يرضينا أن نُغمّض العين على ما في هذا العالم لنفتحها على ما هو في عالم الله. ولم يعد يشبعنا أكل الطعام الذي ليس من هذا العالم، أعني الخبز السماوي وكأس الخلاص، بل نأكل ونأكل. نأكل ونأكل من أكل هذا العالم.

لماذا نصوم ؟ ما علاقة الشفاه، ما علاقة الأكل، ما علاقة العينين بالصوم والصلاة ؟

الإنسان لا يصلّي بشفتيه وحدهما. حتى التحيّة من إنسان لإنسان بالشفتين فقط، غير مقبولة. فكيف يكون الحديث مع الله أوتوماتيكياً، آلياً مجرد شفاه تتحرك ؟ ما هكذا تكون الصلاة. بالصوم يتقدس الإنسان بكليته. تتقدس الشفاه. تتقدس العيون. يتقدس الطعام. نتبارك بكليتنا. من يقول إنه لا يحتاج إلى أن يتقدس بجسده ؟ فإذا كنت تريد أن يتقدس جسدك فقدِّمْه مقدساً.

المسيح ليس في السحاب وليس مجرد فكرة. المسيح ليس غباراً منفوضاً في الجو. المسيح ليس بعيداً. في الصوم أنت تتهيأ لقبول الرب يسوع فيك.

أنت، الناس، أنتم، نحن، كأننا جميعاً لا نأخذ شأن المسيح بجديةٍ فعليةٍ… كثيراً ما يسأل الإنسان نفسه عن حق: المسيحيون أنفسهم أين أصبحوا بالنسبة إلى المسيح ؟ وعندئذٍ أذكر تلك الترنيمة حيث المسيح الرب يُصوَّر لنا غريباً بين الناس، غريباً وهو ذاهب إلى الصليب، غريباً وهو في قبره. غريب المسيح ؟ نعم. غريب عند المسيحيين. غريب عندكم. عن البيت غريب. عن الطعام غريب. عن صداقتنا غريب. عن أحاديثنا غريب. عن فكرنا غريب. عن اهتماماتنا غريب.

أين المسيح إذا كان خارجاً عن هذه كلها ؟ بالله عليكم أيها المسيحيون، أين المسيح بالنسبة إليكم إذا أمسى غريباً عن هذه كلها ؟

بالصوم أنا أعترف أمام الرب بأني أحتاج إلى التقديس من الرأس حتى القدمين. أحتاج إلى التقديس وإلى النعمة الإلهية من الخارج ومن الداخل. أحتاج إلى التقديس في الفكر، وفي القلب، وفي النيّة، وفي كل شيء. هذا هو الصيام. ولذلك نحن نأتي إلى المسيح بالطبيعة التي بها خرجنا من يده الإلهية. نأتي إليه بالأكل، والشرب، والنوم، والفرح، والحزن، والفكر، والقول، وفي كل شيء. نتقدم إليه بالطبيعة التي أعطانا هو، ببساطة الوجود والحياة.

لعلّ هذه الكلمات توقظ الشرارة بإذكاء نار الإيمان.

تكلّم الرسول عن عُزَّل قهروا ممالك، عن ودعاء واجهوا الموت افتراساً بالإيمان. هذا الإيمان هو إيمانكم أنتم. تبارك الله بكم آمين.

{ أُلقيت في دمشق في 15/3/1981}.

arArabic
انتقل إلى أعلى