مواعظ لزمن التريودي

أحد السجود للصليب الكريم – الأحد الثالث من الصوم
للصليب خشبتان

(من أراد أن يتبعني فليكفر بنفسه وليحمل صليبه ويتبعني). أن (يكفر بنفسه) معناها أن يجحد نفسه، أن يجحد لها مطاليبها، رغباتها، أن يجحد نفسه في أفراحها، أن يجحد نفسه في أحزانها. فاتّباع المسيح لا يكون بلا ثمن، والثمن هو: أنه عندما يبتهج العالم، لا بل يُجنّ ابتهاجاً، تستغني النفس التابعة للمسيح عن نصف ابتهاجها لا بل عن ثلاثة أرباعه، بل قل تسعين في المائة منه، تصلبه. وبينما يهزج الباقون هزجاً صاخباً تكتفي هي من ذاك بأقله. وما يصحّ في الفرح يصح في الحزن، وما يصح في اللذة يصح في الآلام. غير المؤمن يقرع الصدر، بينما المؤمن الحقيقي مدعو إلى التعالي فوق كل ما في فؤاده من حرقة وحزن ولوعة وأسى، فيصلب معظمها ويعيش أقلها ولا يني سيراً في اتجاه مسيحه.

صليب المسيح تألّف من خشبتين لا من خشبة واحدة. الخشبة الواحدة تمتد أفقياً. تلتف حول عالمنا، تلف الكرة الأرضية، تحتضن العوالم بأسرها، ولكنها أفقية، لا تعرف إلاّ هذا البعد، والبعد الأفقي أرضي، إنساني صرف. هذا البعد عندما عرّفه الكتبة القدماء والمفكرون، بين الإغريق مثلاً، رأوا العالم دنيا مغلقة لا فرح فيها ولا رجاء، فكتبوا ما سمّوه بالمأساة، التراجيديا، وكانوا يفهمون بالمأساة، حالات ضيقة لا أمل في الخروج منها. وكانوا يصوّرون أوضاع حياتية أليمة يستحيل على الإنسان الخروج منها لأن الباب مسدود. هذا معنى المأساة الأصلي وقد امتد هذا المعنى إلى المسرحيات في كل العصور، هذا إذا كانت نهايتها أليمة.

الصليب يدخل في الوجود عنصراً آخر، أيها الأحباء، إنه الخشبة التي تنتصب عمودياً. المأساة نراها إذا كنا ننظر إلى الأمور أفقياً فقط، وعندئذ يبدو كل شيء وكأنه يدور حول نفسه وحول الأرض والدائرة تنتهي دائماً حيثما بدأت وليس من مخرج. أمّا خشبة الصليب العمودية فرأسها في السماء، في العلاء مع أن قاعدتها ترتكز في التراب، وتتأصل في الأرض.

هذه الخشبة رمز لتعليمنا: إن من يحمل الصليب لا يحمل فقط شيئاً من النوع الإنساني البشري الأفقي. بل الصليب أيضاً وبصورة رئيسية، قاعدته أرضية وسقفه سماوي والمصلوب بين القاعدة والرأس يتصل بكليهما. في الصليب السماء تحمل عن الأرض، السماء تخفف عن الأرض، والأرض التي تئن ترفع همها إلى السماء. (من أراد أن يتبعني فليكفر بنفسه ويحمل صليبه ويتبعني) لأنه إذا حمل خشبته الأفقية فقط لا شك أنه يرزح تحتها، لا شك بأنه قد يسحقه ثقلها وينهار انهياراً.

(من أراد أن يتبعني فليكفر بنفسه). فليكفر بنفسه. ليست الأرض وحدها ملكاً لنا، فليكفر بنفسه فيما يحض الأرض ويحمل الخشبة المنتصبة فيكون في السماء رأسه وفي الأرض فقط قاعدته. المؤمن حامل الصليب لا يعرف باباً موصداً يتعذر فتحه، لا يعرف مأزقاً لا يمكن الخروج منه، ولا يعرف مصيبة لا يمكن التغلّب عليها وإن بعد حين.

أيها الأحباء، السماء هنا ليست كلمة تطلق شعرياً. الذي يحمل صليبه ويمتد بقلبه مع الصليب أفقياً وعمودياً هذا أينما التفت وجد تعزية لقلبه. إذا التفت حوله ألقى الأخوة والأحباء، الأقرباء والمشاركين، الأصدقاء والزملاء، ووجد من يشاركه حمل الصليب في الإنسانية جمعاء. وإذا رفع أنظاره إلى فوق علم ما لم يعلم وفهم ما لم يفهم وذلك أن العالم صائر إلى زوال، كل ما في العالم باطل، ووجه الله هو الأوحد الباقي، ونحن نبقى وندوم بمقدار ما نرى ذلك الوجه الإلهي. عبثاً نركّز تقديرنا وتقييمنا، عبثاً نركّزهما إن في إنسان أو في مؤسسة، أو في بيت ولو كان ذاك البيت، البيت الإلهي الحجري بالذات، هذه لا يجوز أن تمسي في نفوسنا بديلاً عن الوجه الإلهي في القلوب والأفئدة. الله وحده هو الباقي، الصليب يقول هذا القول أيضاً.

وأيضاً يا أحباء حمل الصليب أمام إخوتنا هو دعوة لإخوتنا وطلب منهم أن نتعزى باسمهم، أن نتعزى من أجلهم، أن نجعلهم يشعرون بأننا إخوة لهم، وأن نلقي بحملنا على أكتافهم كما نلقي بالحمل على أكتاف ربنا وربهم. لذلك لا يليق بنا ولا يجدر أن ننعزل عنهم في مآسينا وكأن ما ألمَّ بنا وحدنا. لا. الكل يشاركون. الصليب اليوم يعلِّمنا بأن كل عين تنظر إليكم أيها الحزانى، أن هذه العين هي أيضاً تشارككم الدمع، وأن كل قلب ينبض بالحياة أمامكم ينبض بحبكم، يلهف إلى مساعدتكم. الصليب ليس قتلاً للذات، قتلاً انتحارياً، الصليب حَمْل مع الآخرين، مساعدة للآخرين.

في فترة الصوم الأربعيني المقدس الكنيسة الأولى كانت تعد أولئك الذين يستعدون للمعمودية إعداداً كثيفاً بإعطائهم روح الإيمان، بإعطائهم مضمون الإيمان، بإعطائهم كلمة الإيمان أيضاً.

نحن اليوم، الصليب المرتفع أمامنا وفي قلوبنا، فليكن لنا أمثولة، أفقياً تضم الجميع، عمودياً ترفعنا إلى الله، ويكون تعزيتنا الكبرى.

{ أُلقيت في اللاذقية في 6/4/1975}.

arArabic
انتقل إلى أعلى