مواعظ لزمن التريودي

يوم الجمعة العظيم
فليكن عبور المخلّص بقربنا خميرة

اليوم العظيم هذا نجد معناه في صلواتنا. لا ننسينّ، أيها الأحباء، أن مأساة قد حصلت لنا يوماً ما في الفردوس. هذه المأساة ما كان الله ليريدها أن تستمر. في البستان – انتبهوا – في البستان هنالك سيّدة هي أم كل واحد منّا بدون استثناء، هذه السيّدة أخذتها التجربة بشجرة، بغصن، بعود. هذه الشجرة كانت بمثابة وعد للإنسان آدم وللإنسان حواء أن يصبحا كإلهين. كانت النتيجة، كما نعرف، أن الإنسان، طالِبَ الألوهية، سقط، واستطراداً النتيجة كل إنسان يطلب أن يؤلِّه نفسه السقوط. وكلما توهّم نفسه إلهاً تدهور، مما يدعو الإنسان إلى أن يتعلّم من هذه المأساة الكبرى، إنه لن يحل محل الإله، لن يحل محل الخالق، لكنه على العكس يجب أن يكون دائم التواضع، أن يكون دائم الاعتراف بمحدوديته. اليوم نحن نعيِّد للمائت العظيم، الذي هو أيضاً، امرأة ولدته، هو أيضاً في بستان دُفن، هو أيضاً بواسطة عود، بواسطة خشبة، تماماً كما حصل في المأساة الأولى، بواسطة هذه الخشبة، سجّل الخلاص للعالم.

كل قائل بأن الإنسان هو إله نقول له: لا. ولكن القائل بأن الإنسان عبد لمحدوديته، عبد للضعف البشري، مقدَّر له أن يبقى دائماً حيث كان، وبالتالي أن يتحجر ويتقزز وييأس، هذا القائل نرد عليه: أنت مخطئ يا صاحبي. فإن ما تذهب إليه كان صحيحاً، ولكن في زمن مضى. هذا كان صحيحاً قبل أن تتنازل الألوهة نفسها من أجل الإنسان. هذا كان صحيحاً عندما كان خصام بينه وبين القوة العظمى، بينه وبين الخالق. أمّا منذ هذه الساعة التي لذكراها نعيِّد، نحن نعلن أن الإنسان لم يعد وحده. نحن نعلن أن الإنسان أصبح حبيب الله، أصبح المقرَّب إليه، ولذلك فلن يقف في طريقه شيء، ولن يحول شيء دون وصوله إلى مرتبة النعمة الإلهية.

نعم، نحن نشعر بأننا خطأة ولكننا لا نسمح لشعورنا هذا أن يبردنا ويجمدنا ويميتنا. هذا شأن اليائسين، هذا شأن الذين لا يدركون عظم التضحية التي تمت من أجلهم وعزيز الثمن الذي دفع من أجل تحريرهم. شأننا أننا نعرف أن كل خطيئة، وإن وقعت، تدفعنا بالإيمان خطوة جديدة على طريق الله وفي معارج التقدم وسبيل الابتهاج. نحن ليس أمامنا مدى محدود ولا وقت محدد. المسيح اليوم على خشبة الصليب فتح الآفاق ووسّعها إلى ما لا نهاية وجعل كل واحد منّا طاقة جبارة من الأمل والرجاء. لذلك فذكرى هذا العيد يجب أن تُزرع وتُفرع في القلب وفي الأعماق. الذي يخرج من هذه الكنيسة وقلبه خالٍ، خالٍ من الأمل، خالٍ من الرجاء، خالٍ من تذوّق الفرح المسبق، إن القلب الذي لا يتفجّر عزاً بالنصر على الخطيئة فيه وفي العالم وعلى كل مظلمة وعلى كل جور وعلى كل سوء هذا إذا خرج اليوم من الكنيسة دون التزود بهذه كلها فلن يكون له عيد.

يا أحباء، جدير بكل منّا عندما ندور نحن في الكنيسة ويقترب جسد الرب من المصلّين (وجسد الرب أقرب إلينا مما نظن، لأننا نأخذه أخذاً في القربان المقدس)، عندما يمرُّ جسد الرب بكم، أرجوكم أن تُفتح القلوب ليمرّ الرب لا بجانبنا، أعني سطحياً ومن الخارج، بل في هذا القلب القاسي المتحجر، هذا القلب الذي لا يؤمن إيماناً كافياً ولا يحب محبة كافية، وبالتالي لا يضحّي تضحية كافية.

عندما يمر هذا الجسد على الأقل فلتهمس الشفاه قائلة: (يا رب جُز في نفسي. يا رب طهِّر هذا الداخل، هذه الأعماق وهذه الأحشاء). عندئذ يخرج كل واحد منا مباركاً بالمسيح، مبتهجاً به.

لقد صوّر الرسول المسيح خميرة. الخميرة تدخل بصمت ولكنها تتخلل العجنة كلها وتخمرها. هكذا فليكن عبور المخلص بقرب كل واحد منّا، خميرة تتخلل كيانه بجملته.

{ ألقيت في اللاذقية في يوم الجمعة العظيم لسنة 1975}.


(*) لقد صدرت لغبطته الكتب التالية في منشورات النور: (التعليم القويم) (بثلاثة أجزاء)، (أؤمن)، (فتح كلامك ينير)، (القيامة والإنسان المعاصر) (بالفرنسية)، (نظرة رعائية إلى الكنيسة) في (آراء أرثوذكسية في الكنيسة)، وقد عرَّب غبطته (القصد الإلهي) و (كنيسة المشرق العربي). أمّا العظات التي ننشرها في هذا الكتاب فألقي بعضها في الكاتدرائية المريمية في دمشق والبعض الآخر في اللاذقية عندما كان غبطته مطراناً عليها قبل توليه السدّة البطريركية.

arArabic
انتقل إلى أعلى