Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
Email
☦︎
☦︎

” طأطأ السماوات ونزل وغمام تحت رجليه” (مز 17، 9)

لا شكّ أنّ فكرة الله عند الإنسان تبدو “فطريّة”، وملتصقة بحياته، ولا خلاف على ذلك. لكن الاختلاف عبر العصور كان حول كيف نتعرف على الله، وكيف يظهر لنا. إن الله بطبيعته غير منظور ومن خارج هذا العالم المخلوق، فكيف يتمكّن إذن هذا العالم من معرفته؟ وكيف نكتشفه؟

إنّ هناك طريقتَين نكتشف بهما الله. الطريقة الأولى هي ما نسمّيه “الكشف الطبيعيّ”، ونعني به الاستنتاج الطبيعيّ البشريّ لوجود الله ولصفاته، وذلك لأن الإنسان دون مجهود وبمجرّد المنطق يستدلّ على الله من أعماله والطبيعة المخلوقة حول الإنسان والموضوعة في خدمته. لذلك إنكار وجود الله هو استنتاج غير منطقيّ! وضمن إطار هذا الكشف وضعت الفلسفاتُ والأديانُ تعاليمَها عن الله.

لكن هناك طريقة “الكشف فوق الطبيعيّ”، والمعني بها تدخّل الله في التاريخ. وهنا نعرف الله كما يجيء هو وليس من مخلوقاته. الكتاب المقدّس اعتمد على هذه الطريقة في الكشف، بمعنى ظهور الله أكثر ممّا هو استكشاف الإنسان. وهذا الكشف فوق الطبيعيّ تمّ في الكتاب المقدّس على مراحل، بدأت بنبوءات العهد القديم وأنبيائه. إذ كانت النبوءة تشكّل غالباً خبراً يتجاوز أو يخالف المعرفة المنطقيّة الإنسانيّة لزمنها، إذ تأتي المعرفة من الكشف الإلهيّ، أي من إظهار الله لذاته، الأمر الذي بلغ ذروته في تجسّد الكلمة، الربّ يسوع.

إنّ كنيستنا الأرثوذكسيّة تعتمد في كلامها عن الله على الطريقة الواقعية والتاريخيّة. إنّ الربّ يسوع قسَم التاريخ إلى شطرين، ما قبله وما بعده. ولقد حاولت عصور النهضة والتنوير في أوروبا في القرن الثامن عشر– عبثاً- أن تطعن بهذا الكشف فوق الطبيعيّ وأن تمسخ المسيحيّة إلى مجرّد نظام (system) ديني كغيره نازعة إيّاه من إطاره التاريخيّ كحدث. بينما لكنيستنا الأرثوذكسيّة، يبقى الإيمان مبنيّاً على الأحداث وليس على الأبحاث. فنحن عاينّا “الذي كان من البدء، الذي سمعناه، الذي رأيناه بعيوننا الذي شاهدناه ولمسته أيدينا… فإنّ الحياة أُظهرتْ وقد رأينا ونشهد ونخبركم” (1 يوحنا 1، 1-2). عندما ينحصر الدين في معرفة الله على أساس الكشف الطبيعيّ، ينحسر عندها إلى نظام ديني من خلق البشر. لكن عندما تبني المسيحيّة إيمانها على الأحداث التاريخيّة تصير علماً واقعيّاً. إن إلهنا شخص دخل التاريخ لأجلنا ويشاركنا تاريخنا.

ولقد تأثرت بعض التيّارات الفكريّة المسيحيّة في العالم البروتستانتيّ والكاثوليكيّ بعصور السخولاستيك والتنوير الغربيّة. لذلك مال البروتستانت والمتحرّرون منهم خاصّة إلى العودة للكشف الطبيعيّ، والاعتماد على دور المنطق البشريّ في اكتشاف الله من خلال أعماله. وهكذا نفهم كيف يستخدمون فنّ الأيقونة لكن يستبدلون الشخص الإلهيّ بالخليقة. فهم يستخدمون الفنّ لكن للتعبير عن الكشف الطبيعيّ حول الله، وليس للتعبير عن الله مباشرة كما جاء هو. وهناك أمثلة عديدة في العبادة واللاهوت ناتجة عن ذلك.

أما التيّارات “البروتستانتية الوجودية” فلقد استفادت من الأحداث الإلهيّة- التاريخيّة بما يفيد حياة الإنسان الداخليّة. وهكذا تعاملت مع هذه الأحداث وكأنها ميثولوجية –أسطورة مفيدة، تؤثر على حياة الإنسان الروحيّة وتعطيه العِبَر والقوّة لمتابعة حياته بما يتوافق مع التعاليم المسيحيّة. وتكون هكذا قد قبلت التاريخ كأسطورة وليس كحدث. وبذلك لا تختلف عن الأديان والفلسفات التي ترتكز على الكشف الطبيعيّ متجاهلةً تدخّل الله في تاريخ البشريّة، أي دخوله إلى تاريخنا.

إنّنا نؤمن أنّ الله شخصٌ. لذلك لا يمكن لأحد أن يعرفه إذا لم يعرِّف هو عن ذاته. أضفْ إلى ذلك أنّ الله من طبيعة غير طبيعتنا وعالم غير عالمنا. لذلك إن لم يأتِ هو إلينا لا يمكننا أن نرسم الصورة الصحيحة عنه. كيف يمكن للإنسان أن يعرف أمراً من خارج عالمه؟ إلا إذا عرّف الله بصفات عالمه ومحدوديّاته، فيعرف عنه ما في معرفته ولا يعرفه كما هو وكما جاء وعرَّفنا عن ذاته بما هو فوق معرفتنا.

ولقد قبل الفكر المسيحيّ الكاثوليكيّ بوجود درجتين للكشف: الطبيعيّ والإلهيّ فوق الطبيعيّ، لكنّه نظر إليهما كدرجتين مختلفتين.

إنّ كنيستنا الأرثوذكسيّة ترى الكشف الإلهيّ واحداً، بدأ بإظهار أعمال الله في خليقته (الكشف الطبيعيّ) وتطوّر إلى الكشف الإلهيّ فوق الطبيعيّ، هكذا تمثل الطرق الطبيعيّة لمعرفة الله الأساس والدرجات الأولى لكشف الله النهائي، بدخوله هو في النهاية إلى العالم.

لقد قلب تجسّد يسوع منهجيّات الأديان في معرفة الله. فالله هو الظاهر لنا وليس المكتَشف منّا. إله الكتاب المقدّس إله استقبلناه وليس إلهاً اخترعناه. ولهذه الحقيقة نتائج كبيرة جدّاً. وأُولاها هو أنّنا نقبل الله كما هو وليس كما نحن، فالله ليس صورة عن المثل البشريّة، تلك المثل التي تتطوّر وتتضارب وتتبدّل. والنتيجة الثانية الهامّة هي أنّ معرفة الله في طبيعتها هي “استقبال” لذلك ترتبط بأمر هامّ جدّاً وهو “القبول”. وهنا تلعب حريّة الإنسان الأهميّة ذاتها التي للرغبة الإلهيّة. فقبول الإنسان يوازي ظهور الله. ومحبّة الله وحدها لا تكفي دون حريّة الإنسان الإيجابيّة. إنّ هذا الجسر الذي سيصل بين المخلوق وغير المخلوق، وبين المدرك وغير المدرك، والمحصور وغير المحصور، لا يمكن أن يرتكز على قاعدة واحدة وهي المحبّة الإلهيّة للبشر، وإنّما يحتاج للقاعدة من الضفة الثانيّة، وهي تقبّل الإنسان الحرّ لهذا الحوار الإلهيّ الإنسانيّ الذي يبادر الله فيه ويتجاوب الإنسان معه.

هكذا يبدأ الكشف الإلهيّ كظهور، أي بكشف الله لذاته للإنسان، وهذا الكشف هو هديّة الحبّ الإلهيّ وليس ثمرة الجهد البشريّ. لكنّ هذا الكشف لا يتحقّق إلا عندما يصير “مشاركة” أي حياة مشتركة بين الله والإنسان. لذلك كشفَ الله عن ذاته للإنسان ليس كمعرفة ولكن كشركة. وهذا ما يفترضه التعارف بين الأشخاص. إذ الإنسان كما الله (وهو على صورته) شخص. فالله يقدّم ذاته والإنسان يستقبله بالعلاقة الحرّة. لهذا يهتف المرنّم “المسيح أتى من السماوات فاستقبلوه”. لذلك لا فاعليّة للمحبّة الإلهيّة عندما ترفضها الحريّة البشريّة. هكذا إنّنا لا نعرف الله من الدين بل من العِشرة والشركة في حياته. الله في منهجيّات الأديان يكاد يصير مجرّد “نظريّة”، يمكننا أن نؤمن بها دون أن تبدّل في حياتنا إلا القليل الذي يقتضيه الالتزام بمبادئها. لكنّ “إله التاريخ” الذي طأطأ السماوات ونزل هو إلهٌ عندما نعرفه نعرف ذواتنا بطريقة جديدة، نعرفه إلهنا ونعرف ذواتنا عشراءه.

آمين

Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
☦︎

معلومات حول الصفحة

عناوين المقال

محتويات القسم

وسوم الصفحة

انتقل إلى أعلى