Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
☦︎
☦︎

القسم الأول، الله والإنسان

يقول أحد الكتّاب المسيحيّين: “لا أحد لا يحبّ الله إلاّ لأنّه يجهله”.

لا يوجد عقل بشريّ يستطيع إنكار وجود الله. إنّ حقيقة وجود الله هي بديهيّة لاشكّ فيها على مستوى المنطق. إن التشكيك بوجود الله هو مسألة لا منطقية. كون الإنسان يعرف أنّه لاحقٌ في الخليقة وليس سابقاً لها، هذا الأمر يجعله يعترف بأنّ للخليقة علّةَ وجودٍ وليست هي الإنسان ذاته. الخليقة تبقى لكنّ الإنسان يأتي ويرحل. إذن هناك خالق غير الإنسان! وهذا ما يسمّيه الناس “الله”. لكنّ السؤال العميق هو ليس إذا ما كان الله موجوداً أم لا. وإنّما الأسئلة الحقيقيّة هي: من هو هذا الإله؟ ما هي صفاته؟ ما هي غاياته من خلقنا وخلق العالم؟ وهل بالنهاية هو يتدخل في حياتنا، وهل يتدخل لصالحنا أم لصالحه؟ وأخيراً، هل هذا “الله” يستحقّ أن نحسب له حساباً في حياتنا؟ هذه هي الأسئلة الجوهريّة التي تخصّ أهمّ موضوع في حياة الناس، أي الله.

من هو الله؟ هناك إجابات عديدة جدّاً على هذا السؤال، منها المتقارب ومنها المتباعد. كلّ الأديان عبر التاريخ البشريّ هي محاولات بشريّة في تفسير هذا السؤال: من هو الله؟ في الوثنيّة، أعطت هذه المحاولات البشريّة كلّها لله صفتَي الكمال والقوّة، وذلك كحاجة طبيعيّة أمام شعور الإنسان بنقصه وضعفه. فالله فيه مالا نقدر عليه نحن البشر. إنّ إله الجمال يحمل مالا يستطيع الإنسان جمعه في ذاته من جمال… وبالنهاية “الإله” في الوثنيّة هو “الرجاء”، أي أنّ المُثُلَ البشريّة (منها الصالح ومنها غير الصالح) هي مُثُلٌ موجودةٌ ويمكن تحقيقها، ولكن إن لم يكنْ ذلك عند البشر فهناك آلهةٌ لها تحملها في كمالها. الله هو القويّ والكامل يلجأ إليه الإنسان، الذي يعرف شوقاً لهذه الصفات الإلهية ويعرف بالوقت ذاته فشله النسبي بذلك. ففي الوثنيّة الله هو أشبه بفكرة أو قدرة أو قوّة تضمن أنّ المثل البشريّة ممكنة ولو في عالم الآلهة، وبالتالي أوّلاً يمكن السعي للتشبّه بها، وثانياً يمكننا الالتجاء إلى الآلهة لتساعدنا في تحقيقها أو امتلاكها ولو جزئياً. لهذا كانت ذبائح الغفران والاسترضاء في الوثنيّة هي العناصر الأساسيّة للعبادة.

إله الكتاب المقدّس يظهر بشكل مغاير، إنّه الإله “الشخص” وليس الفكرة أو المثل. إنه الله الذي يأتي هو ويكشف ذاته لنا وليس نحن مَن يخترعه بسبب من شعورنا بوجوده. إنّه “هو” يدخل إلى حياتنا وفي لحظات وأشكال لا نعرفها ولا ننتظرها أحياناً عديدة. هكذا تبدو قصة الإيمان الأولى مع أبي المؤمنين “إبراهيم”؛ تبدو على أنّها تدخّل إلهيّ في حياة إبراهيم بحيث يطلب اللهُ إبراهيمَ قبل أن يطلبه إبراهيمُ. ويأمر اللهُ إبراهيمَ ويغيّر له حياته كلّها وكل مجراها، فآمن إبراهيم بالله، أي آمن بطلباته ومواعيده وسار في سبيل تحقيق وصايا الله. لا يبدو أبداً أنّ إبراهيم أعطى أوصافاً عن إله يؤمن بأنّه موجود. وإنّما العكس، يبدو أنّ الله كلّمه وسار به إلى أرض وحياة جديدتَين. إذا كان “الله” في الوثنيّة هو اكتشافٌ أو “اختراعٌ” إنساني، فالله في الكتاب المقدّس هو “كشف الهي”. لذلك إذا كان الله في الوثنيّة هو قوّة أو مُثُلٌ نريدها نحن، أي أنّ الله هو “ما نرغبه نحن”، فإنّ إله الكتاب المقدّس “هو هو”. وقد جاء والعديد منّا ومن السابقين لم يقبلوه كما هو، لقد جاء ليس كما يرغبون “بل كما هو”. فإذا كان للآلهة في الوثنيّة أسماء عديدة تعبّر عن المثل والقوى التي تنقصنا، فإن الله أعطى لموسى اسمه قائلاً أنا “هو الكائن”، أي لم يقبل أن يحمل اسماً من صنع البشر بل سعى ليكشف حقيقته لنا كما هو فعلاً، وليس كما نتصوّر نحن كمالاته بسبب من ضعفنا. فالإنسان منْ هو على صورة الله وشبهه وليس الله منْ هو على شبهنا ومثالنا.

إذن الله شخص وليس فكرة. ولهذه الحقيقة في المسيحيّة نتائج وتوابع تتصل بحياتنا اليوميّة بعمق. فالله بالنسبة لنا ليس كما بالنسبة للأبيقوريين، الذين قالوا إنّ الله موجود لكنّه لا يريد شيئاً منّا وليست هناك حياة ثانية وبالتالي لا علاقة لوجودنا بوجوده ولا يهمّ إن كان موجوداً أو غير موجود. لذلك كانت عبارتهم الشهيرة: كلوا اشربوا اليوم نحيا غداً نموت.

إنّ وجود الله الشخص بالنسبة لنا هي مسألة لا تقبل “الحياد” فإمّا الإيمان أو الإلحاد. إمّا أن نجيب على وجوده بالقبول أو أن نتحداّه. الله موجود يعني لنا أنه يسعى إلينا، ينادينا ويريد شيئاً منّا، وله غاية محدّدة من خلقه لنا. الله موجود هي مسألة تُخرجنا من ستاتيكيّتنا، إنّها حقيقة تبدّل حياتنا وحياتنا كلّها في ألوانها وغايتها. وهذا التبديل عميق جدّاً حتّى أنّ الله – كما يعبّر عنه بولس الرسول- يصيرُ معنى حياتنا وسببَها وقوامَها، إذ يقول: “به نوجد ونحيا ونتحرّك”. الله موجود يعني ذلك حدثاً في الحياة له من القوّة والأهميّة بحيث يصير الله محورَ حياتي، لا بل هو حركتها وموجّهها ووجهتها.

لكنّ هذه الكلمات بحدّ ذاتها قد لا تُطمئن. فقد يكون هذا الحضور “المالئ الكلّ” مزعجاً ومربكاً للبعض! لكن يا فرحي، كما يقول القدّيسون، إنّ الله هنا ومعنا ولكن أيضاً “لأجلنا”. “لأجلنا” هي الكلمة التي نردّدها في كلّ صلواتنا ونختم بها كلّ الطقوس. لقد ولد لأجلنا وتألّم كذلك وقام أيضاً. هذا الإله الذي يملأ محيطنا ويوّجه ويحرّك حياتنا يمتاز بأمرَين: الأمر الأوّل أنّه بصفاته هذه لا يعني أبداً أنّه يلغي حريّتنا، والأمر الثاني أنّه الأكبر بمعنى الخادم وليس المتسلّط:”سادة الأمم يتسلّطون عليهم، ولكن لا يكنْ بينكم كذلك، بل الأكبر فيكم ليكنْ للكلّ خادماً”. إنّه “الفادي” وليس “القاضي”. إنّ حضرة الله هذه ليست تدخّلاً سلبيّاً في حياة الإنسان ولكنّها فرصة إيجابيّة، ليست ثقلاً بل تحرير، ليست حكماً بل سعادة.

أساءت كثيراً بعضُ الأديان والفلسفات إلى الله حين شيّعت عنه صورةَ القويّ العادل. وبالتالي بالمقابل، ينصِّب ضعفُ الإنسان اللهَ مُجازياً وديّاناً، وتصوّره لنا أخطاءُ الإنسان معاقِباً؛ والله ليس كذلك. إنه من “حمل آلامنا وأخذ عنّا أوجاعنا، وبآلامه شفينا”. صفات إله الكتاب أنّه: “الأب”، لذلك عندما سأل التلاميذ المعلّم قائلين علّمْنا أن نصلي، أجاب:”أبانا الذي في السماوات…”، ولطالما قال: “لا أدعوكم بعد عبيداً… بل إخوةً”، أي أبناءً مثله، كما هو ابن لله الآب. وبولس الرسول أصلح الشائعات القديمة عن الله كقاضٍ بشرحه المسهب عن لاهوت التبني، فنحن أبناء لا بل أكثر من ذلك، نحن “أعضاء جسده”! يرى بولس الكنيسة (نحن) جسماً رأسه يسوع، لذلك يتكلّم بولس عن رفع العداوة القديمة، وعن المصالحة، وعن عهد جديد.

 ليس أجمل من صورة الآب- الفادي والخادم في ذهن البشر. ولكن حتّى هذه الصورة ليست كافية للكتاب المقدّس لوصف الله؛ لذلك احتار اللسان البشريّ فلم يستطع أن يصف الله بالنهاية إلا على لسان يوحنا الحبيب: “الله محبّة”. لو كان الله غير ذلك لكانت حياتنا جحيماً، لأنّ الله في كلّ مكان، مالئ الكلّ. ولكن يا بشرانا “الله محبّة”، ليت الله يكون الكلّ في الكلّ، والكلّ للكلّ! يا ليت هذه الأمنية المسيحيّة تتحقّق. هكذا نصلّي دائماً “ليأتِ ملكوتك، لتكنْ مشيئتك”، ولتصرْ الأرض كالسماء، لا يكون فيها إلا إرادتك كما في السماء كذلك على الأرض. هذا هو الفردوس مسيحيّاً، إنه الحضرة الإلهيّة بغياب ما هو سواها. الحضرة الإلهيّة هي السعادة، وكل ما نراه في دنيانا عكس ذلك هو دخيل عليها بسبب من حريّتنا وجهلنا وضعفنا، إنّه شغب (parasite) على الهرمونيّة الأصليّة، إنّه غريب عن الأصل الحقيقيّ. ما أبشع ذلك المشهد حين صار فيه الدخيلُ مسيطراً وصاحبُ الدار يعامَل كالغريب. ما أغرب ذلك الواقع الذي عاملْنا فيه الدخيلَ كالسيد والسيدَ نحّيناه جانباً كالغريب! ألم يقل الشيطان (وهو الغريب) ليسوع (وهو الخالق والسيد) اسجدْ لي فأعطيك كلّ ممالك الأمم؟ لقد ظهر السارق سيدا،ً والسيد دخيلاً!

“الله محبّة”، هذا يعني أنّ ملكوت الله “سعادة”، وأنّ صلاتنا ليأتِ ملكوتك تعني ليذهبْ كلّ بغض وكل ألم، وكما يقول الأدب النسكيّ بجملة مختصرة: “ليذهب العالم (بصورته الحاليّة المشوّهة) وليأتِ ملكوتك (العالم بصورته المنتظرة)”. كيف يأتي هذا الملكوت؟ وكيف يتحقّق هذا الهدف؟ وكيف تصل المسيحيّة بالعالم إلى غايته هذه الحقيقيّة؟ يوضح الكتاب المقدّس والتاريخ البشريّ أنّ المحاولة الإنسانيّة لم تكن دائماً صادقة، ولم تكن أيضاً على الدوام ناجحة! وما يوضحه الكتاب أيضاً أنّ الله لم يترك هذه التجارب تتوه، لذلك دخل هو إلى التاريخ بجانبنا، لا ليلغيَ إرادتنا لكنّه ليسندَ ضعفنا ويحيطنا بوصاياه، ويحفظنا مساهماً بشكل جذريّ في إعانة خياراتنا، وتقوية إرادتنا الخيرة. “لم يأنفْ” حتّى من حمل بشرتنا في تجسّده، ليشاركنا طبيعتنا البشريّة، ليدخل في النهاية إلى تاريخنا ويثبت طريقنا في دروب السّلام “بعد أن ضللنا”. لقد شاء إلهنا حين عاديناه أن يحبّنا أكثر ويأتي إلينا. إله لا يجازي ضعفنا وخطايانا، لا بل “حيثما تكثر الخطيئة تكثر النعمة” وحين نضلّ يأتي، وحين نعادي يفدي، إنّه صاحب مبدأ “الابن الضالّ” و”الخروف الشارد في الجبال” و”الراعي الصالح” الذي يبذل نفسه عن الخراف.

 الكلمة الأولى بالأهميّة بعد “الله محبّة” هي “العناية الإلهيّة”. وهذا طبيعيّ لأن كلمة “الله محبّة” هي فعل وليس مجرّد صفة فقط جامدة في الله، فمحبّة الله تعني على الفور “عنايته”. حضرة الله جميلة، لذلك حين يبتغي الإنسان في النسك “الصلاة الدائمة”، كما أوصى بولس الرسول “صلّوا بلا انقطاع”، يعني ذلك أنّ الإنسان يريد أن يسافر في زمن حياته، ولكن بصحبة الله دائما،ً وبرفقة هذا الأب والخادم. يا فرحي الله موجود! يا فرحي الله يعتني بنا! يا فرحي الله يسند ضعفنا لكنّه لا يلغي حريّتنا! يا فرحي هذه هي مشيئته أن يعود الخاطئ ويحيا وليس أن يحاكمنا! يا فرحي الله يطلبنا حين نكون ضالّين ولا يتركنا! يا فرحي لسنا وحدنا! يا فرحي الله معنا! هذه كلّها فرحة واحدة ومعنى واحد، إنّ الله موجود والله محبّة. الله معنا، وعمانوئيل اسمه.

آمين

Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF

معلومات حول الصفحة

عناوين الصفحة

محتويات القسم

الوسوم

arArabic
انتقل إلى أعلى