Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
☦︎
☦︎

“هذا الكتاب ليس للمطالعة”، تتصدّر هذه الفاتحة مقدّمة كتاب “السلّم إلى الله”. ولعلّها تشير إلى المعنى العميق للمطالعة الروحيّة. إنّ أوّل ما يتوجّب علينا توضيحه هنا هو معنى “الحياة الروحيّة” بالذات؟ فليست هي الحياة الرومنطيقيّة بالطبع، أو مجرّد الاهتمام بالأمور والنصوص الإنسانيّة… الخ. لكنّها باختصار هي حياة “الروح” فينا. كما يقول بولس الرسول “لست أنا أحيا بعد بل المسيح يحيا (بالروح) فيَّ”. وهذه غاية الحياة المسيحيّة بحسب القدّيس سيرافيم ساروف: “أن نقتني الروح القدس”. لذلك تتأجّج الحياة الروحيّة (تحيا) في الإنسان بطرق عديدة. من ضمن هذه الطرق هي الأعمال اليوميّة أيضاً. فالمهن والأعمال والأشغال لم توضع لكي تصير سبباً لنسيان الله، وإنّما بالأصل قال الربّ لآدم، الذي نسي الوصّية الإلهيّة في الفردوس: “بعرق جبينك تأكل خبزك”، وذلك لكي يقوده الجهد وعرق الجبين إلى تذكّر الله. يجب أن تكون أعمالُنا ومهنُنا مندرجةً في إطار “الرياضات الروحيّة”.

لا شكّ أنّ “الصلاة” هي الصلة المباشرة التي تفتح قلبنا على نِعم الروح القدس. فالصلاة هي، كما يعرّفها السلميّ، “العشرة مع الله”، وهي “الاتّحاد به تعالى”. وهذه الصلاة والأعمال هي أطرٌ للقاء النعمة الإلهيّة. ولكن نودّ هنا التوقّف أكثر عند إطار آخر.

 تشكلّ المطالعة الروحيّة الإطار الضروريّ جدّاً، والذي تظلمه دوماً ظروفُ الحياة بالإضافة إلى إهمال المؤمنين، أو ربّما أيضاً الخلط بين المفيد من الكتب وبين العديد المتعب من الكتب ولربما أحياناً المعثِّر.

ينصح القدّيس إفاغريوس الرهبان والمسيحيّين قائلاً: “لا تدع الشمس تراك إلا والكتاب المقدّس في يديك” (9). وهناك قوانين شريفة توعز إلى الكهنة حثَّ المؤمنين على المطالعة الروحيّة وقراءة الكتاب المقدّس المتواترة.

يعتبر القدّيس يوحنا الذهبيّ الفمّ أنّ مطالعةَ الكتاب المقدّس والكتب الروحيّة ضروريّةٌ جدّاً للرهبان، لكنّها ليست أقلّ أهميّة عند العائشين بالعالم: “نحن (العائشين بالعالم). بحاجةٍ أكثر للمطالعة من هؤلاء، لأن الجروحات الدائمة بسبب الاهتمامات تتطلّب الاستخدام الأكثر للأدوية” (10). ويؤمن أوريجنّس أنّ المطالعة ليست نشاطاً إضافيّاً بل إحدى مقوّمات الحياة الروحيّة الأساسيّة. لأنّها الطريق الذي يدرّجنا على الحياة الروحيّة وينمّينا فيها (11). إنّ مطالعة الكتاب المقدّس والكتب الروحيّة هي شيء من تكويننا الروحيّ (12).

تربطنا المطالعة الروحيّة بتقليدنا وتجعلنا نطّلع بواسطة حياة القدّيسين على طريقة حياتنا. المطالعة هي البيئة التي ننشأ فيها بتقليد آبائنا وليس في أوساطنا الدهريّة، التي لا تترك لله والحياة الروحيّة مكاناً.

ليس غريباً إذن أن نرى مثلاً القدّيس غريغوريوس بالاماس (القرن 14) يفكّر تماماً بروح الذهبيّ الفمّ (القرن 4)، وليس حسناً أن نفكّر نحن (القرن الـ 21) إلاّ كما فكّر هؤلاء والرسل القدّيسون في المسائل الجوهريّة للحياة. فالأخلاق المسيحيّة هي هي بروحها وتقليدها، وإن كانت تتماشى مع الظروف، لأنّها بالنهاية أعمالٌ وليست مقولات، لهذا لا يمكنها إلاّ أن تنطبق على الوقائع الحاليّة لتظهر فيها خُلقاً روحيّاً مسيحيّاً.

“الإيمان بمعرفة” هي الصيغة الحقيقيّة للإيمان. الإيمان المسيحيّ ليس تسليماً مبهماً، بل إنّه إيمان يحاكي العقل البشريّ ويجيبه على الحقائق، إنّه بالنهاية “الحقيقة”. وهذا لا يلغي أنّ هذا الإيمان وإن كان يخاطب العقل سيذهب إلى ما بعده ولكن به وليس يتجاوزه. يتبادر إلى ذهن كثير من الشباب في سنّ المراهقة وما بعده (سنوات الدراسة الجامعيّة) أسئلة عديدة حول وجود الله والخلق والثالوث والكنيسة…الخ ويظن البعض منهم أحياناً كثيرة أنّ هذه هي مظاهر عدم إيمان أو شيء من الإلحاد! على العكس، إنّ هذه الأسئلة هي طبيعيّة، لا بل ضروريّة، وهي دليل على وجود الإيمان وليس على غيابه. فهذه هي تساؤلات حقانيّة وليست شكوكاً إيمانيّة. إنّها المرحلة التي يطلبُ فيها الإنسانُ تحويلَ إيمانه من الإيمان الفطريّ والموروث دون أسئلة إلى نوعيّة الإيمان “بمعرفة”، الثابت والراسخ والذي اختارته القناعة الشخصيّة، للالتزام به ونشره. هذه هي السنوات من العمر البشريّ التي يُمكن للإيمان فيها أن يصير بدلَ مجرّد عادات دوافعاً بشاريّة، وعندها يلهج القلب البشريّ بعبارة الكتاب “مجاناً أخذتم مجاناً أعطوا”. ويكرّر كلّ شاب عبارة فيلبس لنثنائيل “تعالَ وانظرْ، لقد وجدنا مسيّا الذي سمعنا عنه بموسى والأنبياء والعهد الجديد…”(13). عندها يصير التعبير عن الإيمان (بمعرفة) يتمّ بفعل “وجدنا” وليس “سمعنا”. هذه المعرفة لعمق وحقيقة وأبعاد إيماننا لا يمكنها أن تتمّ دون المطالعة، والمطالعة الحكيمة والمختارة. ولكن، ما دامت ضرورة المطالعة الروحيّة كبيرة، يبقى هناك السؤال المهمّ: كيف نطالع الكتب الروحيّة؟

لا شكّ أنّ هناك نوعين من القراءات. النوع الأول هو القراءة المعلوماتيّة والدينيّة. عندما نطالع مثلاً دراسات علميّة وجغرافيّة وديموغرافيّة… تخصّ أيّة مسألة حول الإيمان أو تفاسير الكتاب المقدّس. وهذه يمكن أن يكتبها ويقرؤها حتّى الملحدون أنفسهم. هذه يجب- بالحالة السليمة- أن تقودنا إلى المطالعات الروحيّة وتساعدنا عليها. من هذه الكتب “المعلوماتيّة” العديد من المؤلفات عن تاريخ الكنيسة والحقّ الكنسيّ وحتّى بعضها في شرح الكتاب المقدّس ذاته؛ وسواها.

ولكن هناك المطالعة الروحيّة، تلك التي تنقلنا من القراءة إلى الصلاة. هناك إذن- بحسب القدّيس اسحق السريانيّ- ثلاثة درجات لقراءة الكتاب المقدّس والكتب الروحيّة.

فالقراءة الأولى هي “السطحيّة” أي “القراءة” بحدّ ذاتها. حين “نطّلع” على أقوال وأحداث الكتاب المقدّس أو الكتب الأخرى. وبذلك نعرف الحدث أو الكلمة بمعنى “نتعرّف لأوّل مرّة” (نطّلع). ومن هذا المنظور فإنّ قراءة نصٍّ ما لمرّة تكفي وتغنينا عن قراءته للمرّة الثانية. هكذا يمكنني مثلاً أن أقول أنّي أعرف مثَل الفريسيّ والعشار وأعرف قصّة السامريّ الصالح وأعرف كلّ الوصايا (منذ صباي كما قال الشابّ الغنيّ للمسيح). وهكذا نعلّم الأطفال على “حفظ الأحداث” أي الحفاظ عليها “بالذاكرة” والتعرّف عليها.

أما الدرجة الثانية من المطالعة الروحيّة، فهي الدرجة “العقلانيّة”. عندها نبحث في الكتب ونطّلع ليس على الحدث بل على ما يريد أن يشير إليه. فكلمة “فريسيّ” مثلاً تحتوي على كثير من المعاني الضروريّة لفهم الحدث وتفسيره… هنا يشترك العقل في تحليل النصوص وفهمها وكشف معانيها العميقة. وتحتاج هذه المرحلة للدراسة والمطالعة الكثيرة.

والدرجة الحقيقة الكاملة والثالثة في المطالعة، هي الدرجة “الروحيّة”. عندها نقرأ الأمور التي تخصّنا من هذه السطور والكلمات والصفحات. وتصير الكتب “رسالةً” لنا، أي تنقلب من نصّ إلى سؤال، ومن صفحات إلى حوار. هكذا يقول الذهبيّ الفمّ، إنّ مَن يعرف لغة أجنبيّة بشكل سطحيّ بسيط، عندما تصله رسالة بتلك اللغة، يحاول فكّ رموزها، ويمكنه أن يتكلّم عنها قليلاً. أمّا من يعرف ويفهم تلك اللغة فعلاً، فإنّه يقرأ في الرسالة معانيها الكاملة والغنيّة. لكن أخيراً، عندما يقرأ الإنسان الروحانيّ الرسالةَ “يتّصل بالمرسِل”. هنا تصير المطالعةُ صلاةً والقراءةُ حواراً.

لهذا علينا ألاّ نمسخ القراءات الروحيّة إلى حدود العقل أو السطحيّة. مطالعة الكتاب المقدّس، مثلاً، ليست محاولةً للاطّلاع على ما فيه، ولكنّها عشرةٌ مع يسوع. الكتاب المقدّس ليس كتاباً نقرأ فيه نحن ولكنّه “مطالعة” يتكلّم فيها هو (يسوع). هكذا عندما نجلس بخشوع ونطالع الكتاب المقدّس يتكلّم فيه يسوع إلينا. وهذا الحوار هو المعنى الحقيقيّ للكتاب، ودونه نكون في قراءة حروف والسير على سطور دون لمس المعنى الحقيقيّ الذي هو اللقاء بالربّ. فقط في الحالة الأخيرة ندخل أحداث الكتاب المقدّس ونحياها حين نطالعها. عدا ذلك فإنّنا نقرأ الكتاب تاريخيّاً كرواية، وهذه ليست مطالعة روحيّة.

إنّ الصوم والصلاة والمطالعة الروحيّة هي رياضات روحيّة متكاملة وفيها يطرح الإنسان السؤال ويجيب الله، فيها يبحث الإنسان ويكشف الله (14). هكذا تصير المطالعة اكتشافاً للحبّ والتدبير الإلهيّين.

لهذا إنّ الوضعيّة الحقيقيّة والأسلم للمطالعة هي الحالة التي تصير فيها المطالعة “عشرة” أي صلاة. مطالعة الكتاب المقدّس مثلاً هي شكل آخر للصلاة ننصتُ فيه إلى يسوع (15). فالكتاب المقدّس هو صفحات “نلتقي فيها مع يسوع” ويرسلنا منها يسوع. إنّ الشهداء هم أكثر مَن فهموا وفسرّوا الكتاب المقدّس، وليس العلماء والبحّاث.

“الكلمة” الإلهيّة التي في الكتب الروحيّة ليست “الكلمات” والحروف. من هذه الأخيرة يجب أن نذهب إلى “الخطاب” الذي فيها أي إلى “الكلمة”. الكلمة ليست “للاطلاع” بل “للطاعة”، لذلك لا تحرّك فينا المطالعة الذهن وإنّما القلب ولا تبدّل فينا المعلومات فتغيّرها أو تُغنيها بل تبدّل فينا الحياة ذاتها. لهذا لا نشرح نحن الكلمة (وإن كانت الشروحات ضروريّة) بل الكلمة تقودنا. نحن نطالع (نقرأ) ونفهم (نصغي) ونسمع (نطيع) الكلمة الخارجة إلينا من كلمات وحروف الكتب الإلهيّة.

لذلك لا تتمّ المطالعة الروحيّة بمحاولتنا الشخصيّة والفرديّة، إنّما تتحقّق “بالروح” القدس، الذي ينير أذهاننا. يتلو الكاهن في القدّاس الإلهيّ تضرّعاً قبل تلاوة النصّ الإنجيليّ على المؤمنين: “أيّها السيّد المحبّ البشر، أشرق في قلوبنا نور معرفتك الإلهيّة الذي لا يضمحلّ، وافتحْ حدقتَي ذهننا لفهم تعليم إنجيلك… لكي نسلك سلوكاً روحيّاً، فنتفكر بكلّ ما يرضيك ونعمله…”. وتدرج كتب الصلوات اليوميّة هذا التوّسل فيها لنصليه قبل مطالعة الكتاب المقدّس والكتب الروحيّة عامّة. إننا نطلب “أن يشرق الله فينا نور المعرفة” لكي نقرأ ونفهم ونحيا فنعمل ما يرضيه. ينصح القدّيس أفرام السريانيّ أن نصلّي إلى الربّ ليكشف لنا قبل المطالعة الروحيّة إرادته بواسطتها.

 “المطالعة الروحيّة” إذن، بعد كلّ ما سبق، هي ليست مجرد قراءة وإنّما “غذاءٌ” نتناول بواسطته خبزنا الجوهريّ وحصتنا الضروريّة من النعمة الإلهيّة، لأنّه “ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكلّ كلمة تخرج من فم الله”. إذن الكتاب المقدّس هو مائدة وليس روايات. إنّ اللقاءات والمصادفات التي تتمّ خلال المطالعة الروحيّة مع الله والقدّيسين والذات، هي نفحات نعمة وحياة وهي غذاء روحيّ.

يُقسم القدّاس الإلهيّ إلى قسمين، الأوّل يدور حول الكلمة والثاني حول التقدمة. نتناول فيه بالقسم الأوّل النعمة بالكلمة، ونتناول النعمة منه بالقسم الثاني بواسطة جسد الربّ ودمه الكريمَين (16). لذلك يجري الكلام ليس عن مطالعة الكتاب المقدّس بل عن “تناول الكتاب المقدّس” عند أوريجنّس (17). وهكذا عندما كلّم الله الأنبياء ناولهم كتابه كسفر ليأكلوه (18)، فنحن “نكسر الخبز” و “نكسر الكلمة” (19). من هنا تأتي أهمية الصلاة قبل المطالعة، أي أن نطلب حضور الروح القدس “ليفتح حدقتي ذهننا” لأننا نقرأ هذه الكلمات كبذار حياة. بناء على ذلك رتبت الكنيسة أن نقرأ الكلمة قبل أن نتناول “الكلمة” في القدّاس الإلهيّ.

لا تكفي الشروحات لكي “نقرأ” فعلاً الكلمة الروحية التي في الإنجيل أو الكتب الروحية. هناك حدث مميز تم مع تلميذي عماوس، لقد كانا منطلقين فجر يوم القيامة إلى تلك القرية، وكان نسوة قد أخبرنهم أن يسوع قد قام. وجاء يسوع وسطهم وسار معهم “وشرح لهما الكتب” أي كل ما نطقت به الأنبياء عنه. “ولكن أُمسكت أعينهما عن معرفته” كما تقول ترانيم السحر. ولم يفهموا، حتّى “فتح أذهانهم”. لا يمكن إذن أن نفهم الكتاب دون أن يفتح الله أذهاننا (20).

إذن إن المطالعة الروحية هي محاولة تريد أن تضعنا في حالة الصلاة. لهذا يسمّيها الآباء القدّيسون “نصف صلاة”. فهي بالواقع تُدخلنا إلى الصلاة. ليس من السهل أن يخرج الإنسان من ضجيج حياته اليوميّة على الفور ليقف أمام الحضرة الإلهيّة التي نساها أو تناساها طيلة اليوم. لذلك تعبُر بنا المطالعة الروحيّة من الدهر إلى الملكوت ومن الضجيج إلى الصلاة. فالمطالعة الروحيّة هي خير سلم نرتقيه لكي نقف أمام الله بالصلاة.

وما بعد الصلاة! نخرج لنعود إلى عالمنا المضطرب، وما أسرع أن نؤخذ به ونُسلم الرفقة الإلهيّة إلى النسيان. وهنا تأتي المطالعة كضرورة لكي تحمل نعمة الصلاة وتمدّها على مسافة أطول من النهار والزمان.

تصل المطالعة إلى غايتها عندما تصير “هذيذاً”، أي حين يتشبّع الذهن من الكلمات الروحيّة فترافقه بعد وقت المطالعة طيلة وقت العمل والأشغال. وأمام كلّ موقف تعود هذه الكلمات لتنزع من قلبه صرخة الصلاة التي هي قادرة أن تقرّر فيه قراراً بحسب الإرادة الإلهيّة وليس بحسب الغواية الدنيويّة. “تذكرتُ وصاياك فما زللتُ” يقول داؤود في المزامير. كما أنّ المطالعة هي مدخل إلى الصلاة هي أيضاً امتداد لها. إنّ المطالعة الروحيّة تخمّر زمن النهار كلّه فتحّضر للصلاة وتمتدّ بها، تحوّل المطالعة ساعات اليوم إلى زمن الملكوت.

تخصّب المطالعة ذهنَ الإنسان وتجعله فاهماً لمعاني الحياة والصلاة، يلتقط بذار النعمة ولا يضيّعها. لهذا الذهنُ الخصيب يجد في كلمات الصلوات معانٍ عديدة غنيّة، ويجني منها الانكسار والخشوع بسهولة. على عكس الذهن الفقير الذي تمرّ عليه الكلمات الروحيّة ولا تستقرّ فيه لأنهّا غريبة في طبيعتها عنه. تعطي إذن المطالعة للإنسان “الحسّ الروحي” وتجعل نفسه شفافة متحمّسة تجاه الحضرة الإلهيّة لا تجرحها، وفي حال أدنى تقصير إنسانيّ أمام النعمة فإنّ الحسّ الروحيّ يقود الإنسان إلى الصلاة بعمق وبتوبة.

هذه الـ”نصف صلاة” عند المبتدئين تسمح لهم بعيش الملكوت وسلامه على مساحات أوسع من النهار، لما كان هؤلاء لا يجيدون بعدُ فنَّ الصلاة الدائمة. لذلك تُعتبر المطالعة الأداة الأساسيّة في عيش السلام الداخليّ، وهذا السلام هو سلام الله وليس سلام العالم “سلامي أعطيكم لا كما يعطيكم العالم السلام”. إنّه السلام الناتج عن لحمة الإنسان بالنعمة والجلوس والحياة في الحضرة الإلهيّة.

وأخيراً وليس آخراً، تصوِّرنا المطالعة الروحية على صورة كاتبيها. فهي لا تصلنا بالتقليد المعلوماتيّ فقط، أي النصوص، وإنّما تصبغنا بصبغته. فمَن يطالع حياة القدّيسين يتلون بطيفهم. لذلك أولى ثمار المطالعة الروحيّة هي “الحكمة”، إلى جانب الصلاة والسلام. زار مرّة بعض الدارسين والبحّاث الألمان جبل أثوس. فصادفوا هناك راهباً طاعناً في السنّ لم يسمح له لا عمره ولا ظروفه بدراسة اللغات والفلسفات، وكان يطالع كتاباً روحياً عند باب قلايته وهو “السلّم إلى الله”! وهذا ما أدهش هؤلاء العلماء، فالكتاب عميق وصعب! ولما سألوه: “أتفهم هذا الكتاب؟” جاءهم جوابه مدهشاً أكثر، فقال لهم: “إن شئتم خذوه وأكتب لكم مثله”! لقد طالع هذا الراهب سنوات فانتقلت إليه تلك الخبرة الروحيّة التي في الكتب، وحاز عليها. ولا نستغرب أن “المطالعات” العديدة تلزم المبتدئين أكثر من المتقدمين. ونحن نعرف أنّه كلّما تقدّم الإنسان في الحياة الروحية كلّما تقدمت الصلاة على المطالعات. وقضى السائح الروسي حياته كلّها على كتاب واحد هو “الفيلوكاليا”، ولكن كان كل وقته في “الصلاة الدائمة”.

تعرّفنا المطالعات المتنوعة غير الروحيّة على أشياء عديدة. والكتب والروايات والمجلّدات كلّها أشبه بالنوافذ المحيطة بعالم الإنسان، يطّل منها على أشياء جديدة وجديدة، ويزور بواسطتها عوالمَ أخرى ليست من عالمه. إلاّ أنّ المطالعة الروحيّة هي غير ذلك. إنّها نوافذ ليس إلى الخارج وإنّما نوافذ على الداخل. إنّها ليست نافذة بالأحرى بل مرآة. نقرأ “السلّم إلى الله” ونعاين ذاتنا. كان التلاميذ يتساءلون عن ملكوت الله، وكان على الكتب الإلهية أن تدلهّم إليه. لكن يسوع أجاب بوضوح: “ملكوت الله في داخلكم”. لهذا المطالعات شيء والمطالعة الروحيّة شيء آخر.

إذا كانت المطالعة إطّلاعاً فهي لا تحتاج لتكرار، ونقرأ الكتاب مرة ونضعه جانباً، لكن لما كانت المطالعة الروحيّة صلاةً وغذاءً وسلاماً واكتشافاً للملكوت وتبنّياً للحكمة الروحيّة، فإن الكتاب الروحيّ “ليس للمطالعة” بل هو سرُّ حياة نتناوله فنجده مرّاً في الشفاه وعذباً في الجوف. وكلّما تناولناه كلّما ازدادت الحاجة إلى الاغتذاء منة مرّة ومرّات.

“هذا الكتاب ليس للمطالعة” إذن هو كتاب حياة نتناوله غذاءً ونقرؤه صلاةً.


(9) PG 40, 1283 A.

(10) “في شرح متى”، 2، 5.

(11) أكليمندس الإسكندري، “البساط”، 1، 20.

(12) نيلوس، PG 79, 213 C.

(13) راجع، يوحنا 1، 45.

(14) أنظر، سمعان اللاهوتي الحديث، PG 120, 385.

(15) نقولا كاباسيلاس، “في تفسير القدّاس الإلهيّ”، 20، 1 و62، 2.

(16) أكليمندرس الاسكندري، “البساط”، 1، 1.

(17) PG 13, 130.

(18) حزقيال 3؛ رؤيا 10.

(19) أوريجبنس، PG 13, 1714؛ الذهبي الفم، “في شرح التكوين”، 6، 2؛ غريغوريوس اللاهوتي، كلمة 45، 16؛ إيرونيموس، “شرح الجامعة” 3، 13.

(20) لوقا 24، 30.

Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF

معلومات حول الصفحة

عناوين الصفحة

محتويات القسم

الوسوم

arArabic
انتقل إلى أعلى