Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
☦︎
☦︎

1. لاهوتيّون وغير لاهوتيّين

 من الأخطاء الشائعة في حياتنا الكنسيّة هو تحديد هويّة اللاهوتيّ أوّلاً؛ وثانياً، نتيجة ذلك، فصل الناس بين لاهوتيّين (علماء) وعامّة (جهلاء) في الأمور الكنسيّة.

فالخطأ في تعريف اللاهوتيّ يبدأ من اللحظة التي نحدّد فيها المعيار بمجموعة المعارف التي يملكها، إن كان من تحصيل جامعي لاهوتيّ وعلميّ حقّقه أو من برنامج طويل من المطالعات لبعض الكتب والمجلات، ولربّما بلغات متعدّدة تعطيه القناعة أنّه ملَكَ المعرفة من أطرافها الأربعة. لذلك لاهوتيّ من هذه النظرة القاصرة، هو مَن يعرف عن الكنيسة أموراً لا نعرفها، مثل التفاصيل الدقيقة في تاريخ الكنيسة، أو دراسات نقديّة في زمن ولغة وتركيب الكتاب المقدّس، أو يملك قاموساً من المعلومات الليتورجية والعقائدية، وما إلى ذلك من “معارف” تعني بالأساس أنّه “مهتمّ” أو “متفرّغ” أو “متخصّص” بجمع ودراسة العلوم الكنسيّة. الأمر الذي لا يتوفّر “للعامّة” من الناس، الذين تفرّغوا لتأمين خبز يومهم. بناءً على ذلك يحتلّ هؤلاء “العلماء” مكانة المعلّمين في الكنيسة ولطالما يريدون أن يملكوا صولجان السلطة والأحكام وينصّبوا ذواتهم في سدّة المسؤوليّة الأولى، وتصير لهم هذه الأحلام مهنة حياتهم.

وما يساعد على خلق هذه الهوّة العميقة بين هؤلاء “المتخصّصين” و”العامّة” من المؤمنين هو تكاسل المؤمنين عامّة أيضاً عن مطالعة المعارف الأساسيّة أحياناً في شؤون الكنيسة وتاريخها وأسرارها وعبادتها؛ لسببين، إمّا ظنّاً منهم أنّها ليست للإيمان بل للدراسة، أو تكاسلاً وانشغالاً عنها بدقائق الحياة المعيشيّة. لا نبالغ إذا قلنا أنّه ما زلنا حتّى أيّامنا هذه نشهد “عقدة المعارف”، أي أنّ مجتمعاتنا ترفع وتمدح أصحاب الموسوعات العلميّة والمعرفيّة، ويتراكض الناس لطلب معارف عديدة من أجل تبوّؤ مجالس المعرفة والكلام. علماً أنّ العالم يسير إلى التخصّص قليلاً فقليلاً. إلاّ أنّ المؤسف هو، أنّ المسيحيّين يقصّرون في امتلاك شيئاً من المعارف الكنسيّة الضروريّة، ويتركون ذلك لـ”لاهوتيّين” كما يظنّون.

ويبدو خطأً، أنّ “اللاهوتيّ” هو مَن يعرف الكثير ممّا هو ليس من عالمنا. وكأنّه رجل من عالم آخر يكلّمنا عن حقائق تدهشنا أو تخجلنا. وهذا طبيعيّ عندما تزداد التطرّفات من الجهتين. من الجهة اللاهوتيّة، إذ يقتصر تعريف اللاهوت على تحصيل المعارف. ومن الجهة الثانية حين يتخلّى المؤمنون عن مطالعة وفهم حقائق إيمانهم مكتفِين بممارسات عباديّة، قد تغدو سطحيّة، تاركين المعرفة الروحيّة وكأنّها مجرّد فلسفة دينيّة لها رجالها المختصّون بها. فتبتعد هكذا المعارف عن الحياة، وتصير “موسوعات”، وتتسطّح الحياة العباديّة إذ تفقد المعرفة الحقيقيّة، لتطفو على سطح مياه العادة، حيث لا نصطاد لآلئ الروح الراسخة في أعماق بحر معاني الصلوات والعبادات الروحيّة.

وينفصل هكذا اللاهوت عن الحياة، وتتشكّل في الكنيسة فئتان من الناس، فئة اللاهوتيّين وفئة العامّة، تلك من أساتذة وهذه من طلاب، تلك فئة منظّرين وهذه فئة جهلة. ويغدو المنظّرون- “اللاهوتيّون” يتكلّمون عمّا لا يهمّ “العامّة”. ويبدو عامّة الناس بعيدين عن حقيقة الكنيسة. وتتعلْمَن روحانيّتها وتنقلب الكنيسة إلى منظّمة دنيويّة لكنّها تقبل وتريد وجود طبقة فكريّة أرستقراطيّة لا يفهمها المؤمنون لكنّهم يجلّونها، وقد يتباهون بها. ويغدو اللاهوت إلى ما ليس هو، أي إلى معضلة فكريّة فلسفيّة، وتتعلْمن الحياة الكنسيّة على ما ليست هي، أي تنحصر وتتحجّم في أطر الحياة الاجتماعيّة والتنظيميّة، إذ فقدت الروح والبنية اللاهوتيّة منها.

مَن هو “اللاهوتيّ” إذن؟ وما هو “اللاهوت”؟ ليس اللاهوت “الفلسفة”، أي معادلات فكريّة معقّدة تصعب على المؤمنين “العاديّين”. لاهوت الله هو “البساطة”. صفة اللاهوت الحقيقيّ هي الوضوح وليس الغموض. واللاهوت الحقيقيّ هو “الحقيقة” وليس “المسألة” كما في الفلسفة. لذلك الحقيقيّ من اللاهوت هو ما يفهمه الناس وليس ما يصعب عليهم. إذن اللاهوتيّ هو القريب وليس البعيد. اللاهوتيّ هو من يصل للناس وليس من ينفصل عنهم.

لذلك، المقياس الذي ننطلق منه لتحديد اللاهوت واللاهوتيّ ليس المعرفة “ومجموعة المعارف”! وإلاّ لَوقَعْنا في الأخطاء السابق ذكرها حتماً. اللاهوتيّ هو “الراعي” وهو “المصلّي” وهو “الممارس” في الحياة الكنسيّة. في هذا الإطار تأتي المعارف والموسوعات كأداة صقل وبلورة، للخدمة وللتعليم. وخارج هذا الإطار تصير “المعرفة كاذبة”. نعم كاذبة وغاشّة لأنّها تغدو علماً لا يحقّق غايتَه. اللاهوت هو “دواء”، فإذا فقد قدرته على الشفاء غدا كاذباً وفاسداً. اللاهوت هو أداة الرعاية والوصول إلى الناس لإرسالهم إلى الله، فإذا ما ابتعد اللاهوت عن تحقيق هذه الغاية فسد وصار “معرفة كاذبة” أو معارف عديدة “غير خلاصيّة” وبالتالي غاشّة!

للبعض، الإنسان هو “كائن حيّ” غرائزيّ يشبع من “الخبز”. وهذا ليس الإنسان الذي نؤمن به نحن. لآخرين الإنسان هو “مَن يفكّر” أي يملك المعارف والعلوم وحتى الإنسانيّة والاجتماعيّة منها، وهذه حال أغلب المجتمعات اليوم، وحال بعض المجتمعات المسيحيّة الراقية والمتمدّنة، وهذه ما ننعتها بالمجتمعات المسيحيّة الملحدة والمعلمنة. حيث هناك حياة خلقيّة مسيحيّة لا ضرورة للمسيح فيها إلاّ كرمز ومعلّم، نأخذ تعاليمه ولا حاجة بعد ذلك إليه. لا بل تلغي تعاليمه حاجة وجوده!

لذلك التعريف الحقيقيّ والأوضح لـ”اللاهوتيّ”، مقابل كلّ هذه الأخطاء السابقة، هو: “اللاهوتيّ هو المصلّي”. الإنسان ليس غريزة، ولا عقلاً، الإنسان “صلاة”. “الله محبّة وأنا صلاة”. الحبّ الإلهيّ في الخلق والعناية بالعالم يجعل الإنسان كائناً فوق غرائزيّ وفوق منطقيّ، يجعله كائناً شكريّاً، أي يرفع صلاة الشكر لله.

اللاهوت ليس “الكلامَ” عن الله ولا “المعرفةَ” حوله. اللاهوت هو الاحتكاك بلاهوت الله، أي الشركة بحياته الإلهيّة. اللاهوت هو “رؤية الله”، وهذه تتمّ على درجات متدرّجة. وستكتمل، كما قال بولس الرسول، هناك حيث نعاينه وجهاً لوجه “كما هو”.

إذن الطريق إلى اللاهوت بالأساس لا يمرّ من الموسوعات بقدر ما يتحقّق من الرياضات والجهادات الروحيّة التي تجعل الإنسان بسيطاً وليس معقّداً “ونقيّ القلب”، يستطيع أن يعاين الله، وبعدها يكلّمنا عن خبراته بدل أن يكرز لنا ما قرأ في كتبه. الطريق إلى اللاهوت مفتوح للجميع وليس للبحّاثة فقط. إنّه ممارسة الأسرار الكنسيّة، ممارسة الأصوام والصلوات والفضائل. “لاهوتيّ” هو من “طهّر” ويطهّر ذاته وصار مسكناً للروح القدس.

ليس اللاهوتيّ من أنهى “دراسات لاهوتيّة” فقط، لأنّه إنْ حصل وأنهى “دراسات” دون “نسك” فلن يصبح لاهوتيّاً فعلاً. ولكنّ الدراسات حين تملّح بالنسك تجعل اللاهوتيّ معلّماً عميقاً، فالمعرفة العلميّة اللاهوتيّة يجب أن تكون إضافة على طريق اللاهوت الحقيقيّ وهو النسك.

لذلك إنّ الدعوة للاهوت- مشاركة الله حياته الإلهيّة هي للجميع. ولا تفصل الكنيسة بين لاهوتيّ وعلمانيّ أو لاهوتيّ متخصّص وعامّة من الناس. كلّنا مدعوّون إلى عيش اللاهوت وتملكه كغاية للحياة المسيحيّة.

يختار البعض طريقهم إلى هذه “الشركة – اللاهوت” عن طريق دراسة لاهوتيّة إلى جانب حياتهم الأسراريّة في الكنيسة، ونستطيع أن نقول إنّ هذه البيئة هي المثاليّة للتدرّج في عالم اللاهوت. ويختار البعض طريقهم إلى ذلك ببناء العائلة وممارسة الخدم الإنسانيّة والاجتماعيّة والمهنيّة. على الأوّلين ألاّ ينعزلوا بحياتهم النظريّة وعلى الآخرين ألاّ يكتفوا بالحياة العمليّة.

الأسرار الكنسيّة هي المعمل الحقيقيّ للاهوت، وهي ممدودة أمام الجميع بالتساوي. المعرفة تنمّي وتعمّق الممارسة. ولكن أيضاً ممارسة المهنة والحياة اليوميّة والتعب وبناء العائلة حين تقترن مع المعارف الأولى والأساسيّة التي تعمّق الممارسة العباديّة أيضاً هذه كافية لتدفع المؤمن إلى مشاركة الله في حياته الإلهيّة واكتساب اللاهوت والسعي إليه كغاية أولى في الحياة.

2. متصوّفون ومبشّرون، تأمّل وعمل!

 ومن الأخطاء الشائعة في حياتنا الكنسيّة هو الخلط ما بين المواهب المتعدّدة في الكنيسة وما بين الغاية الواحدة لكلّ الطرق والمواهب. الخطأ يحصل حين نفصل ليس بين طرائق الحياة ولكن بين روحانيّة هذه الطرق عينها. هناك فعلاً نساك في البريّة وهناك خدّام في الرعيّة، وهذا صحيح. لكن الخطأ هو أن نعتبر أن روحانيّة أهل البريّة غير روحانيّة خدّام الرعيّة. ويبلغ هذا التطرّف حدّ قبول انعزال أهل البريّة لدرجة انقطاعهم عن الواقع وعن حياة الكنيسة، وأيضاً قبول سطحيّة خدّام الرعيّة لدرجة فساد الملح الذي بدونه لا يملّح! فللبعض ليس من لقاء بين البريّة والرعيّة! ولا مشترك بين التأمّل والخدمة، ولا تشابه بين الرؤيا والعمل. فالأولى تهتمّ بالنظريّات والثانية تختص بالأمور العمليّة. ومن هذا المنظار الخاطئ للأمور ينقلب التعليم الكنسيّ عن أولويّة الرؤيا على العمل والتأمّل على الخدمة كما قال يسوع لمرتا ومريم، إذ صرّح أنّ الرؤيا والتأمّل هما النصيب الصالح وفضّله على خدمة الموائد. هكذا عندما نفهم التأمّل كانشغال بالنظريّات وكسهوٍ عن شؤون الأرض للتأمّل بشؤون السماء، يحقّ لأيّ إنسان “عمليّ” وواقعيّ أن يسمّي “خدمة” الناس بالنصيب الصالح عكس يسوع!

هذه النظرة الخاطئة لحقيقة معنى الرؤيا والعمل، ولحقيقة كلّ من البريّة والرعيّة، وحقيقة التأمّل والخدمة، تقودنا إلى أحد طرفين خطرين. ففئة التأمّل تصير جماعة نظريّات تنقطع عن غايتها وهي الإنسان. وذلك بحجّة التخصّص بالإلهيّات، التي تصير لغةً غير مفهومة وغير عمليّة للإنسان. وهذه الفئة تطرد الله من حياة الإنسان بسبب من طريقة المبالغة الخاطئة في البحث عنه. أو من الجهة الثانية، ترى هذه النظرة “الخدام” كفعلة تبرّر لهم أعمالهم البشاريّة القيّمة جدّاً غيابَ الروحانيّة، في سبيل الإنسان والآخر. وتقودنا إلى علمنة في الكنيسة خطرة، وكأنّ الخادم يجب أن يصاب “بالخفّة” والناسك أن يعيش في “الغيبوبة”. فلا هذا ينفع ولا ذاك يفيد. وكلا الطرفين وإن ظهرا متناقضين تماماً هما في العمق عمل واحد، وهو إخراج الله من حياة الإنسان وجعله مبدأً يُخدم أو يُدرس.

كلا الحلّين يتطرّفان ويجهلان أنّ “ملكوت الله في داخلنا”. فللغائب في تأمّلاته يغدو ملكوت الله في السماء، وللغائص في الخدمة يصير ملكوت الله في المجتمع. وتنقطع هكذا المعركة الداخليّة بين الله والإنسان كتلك المعركة التي قامت بين يعقوب والملاك! فذاك يروح يتصارع مع أفكاره ودراساته وهذا يتصارع مع حيثيّات حياة الناس وكأنّ حلّها (على ضرورته) هو نهاية المطاف. هذه هي المعركة الداخليّة العميقة التي يسمّيها الكتاب “التقديس”، والأدب النسكيّ يعرّفها بـ: “التطهير”، إنّها المعركة المطلوبة من طريق “التأمّل” ومن طريق “الخدمة” ويجب أن تكون السبب المحرّك في هذين الطريقين.

يدخل الله إلى داخلنا، فيصير هذا الداخل “ملكوتاً” له، لا بل ساحة معركة يقوم فيها الله ويتبدّد جميع أعدائه. هذه هي غاية الحياة المسيحيّة: التطهير أو التقديس. ولهذه الغاية هناك طرق متعدّدة. قد تكون البريّة كما الرعيّة، وقد تكون الوحدة كما الخدمة. هكذا يمكننا أن نميّز بين المواهب المتعدّدة ولكن علينا ألاّ نفرق بين غايات هذه المواهب، وهي غاية واحدة، التماس وجه الربّ في الملكوت داخلنا. ليس الزواج مثلاً سبباً ليجعل داخلنا مهجوراً من الله ومسكوناً من أشياء أخرى. ولا البريّة مفيدة حين تكون مسكناً للذّات وليست ملتقى لله بالإنسان.

حين نركّز اهتمامنا بالحياة الداخليّة في “ملكوت الله” عندها تلتقي البريّة بالرعيّة، ويقود العمل إلى الرؤيا، وتدفعنا الرؤيا إلى العمل. إنّ الساحة الحقيقيّة للحياة هي “الداخل” إن كان في برية أو وسط الرعيّة. عدا ذلك تنفكّ حلقة الوصل وتتباعد كلّ فئة بسرعة باتّجاه عكس اتجاه الأخرى. إنّ القلب الذي يعمل يصل إلى التأمّل. والقلب المتأمل يعطيه الروح أن يعمل. هذه هي الحركة الحقيقيّة للحياة التي يجب علينا تعلُّمها في البريّة وتعليمها في الرعيّة.

هنا في الداخل في “ملكوت الله” يجب أن نزور البريّة أو نلتقي الرعيّة. هذا الملكوت يحضِرُ الله في البريّة وهذا القلب يخدم الإنسان في الرعيّة. ليس الموضوع مسألة غيبيّات عقائديّة أو ميستيكيّة تُدرس في برية، ولا هو أيضاً التزام شؤون اجتماعيّة. الموضوع هو اتّحاد الإنسان بالله، أكان في بريّة أو في مجتمع. وهذا الاتّحاد لا يحصل في البريّة ولا في الشارع، بل في “الداخل”.

هناك إذن روحانيّة واحدة للحياة المسيحيّة، وهي غاية كلّ مسيحيّ ومطلوبة من كلّ واحد. إنّها روحانيّة التقديس، روحانيّة بناء الإنسان هيكلاً للروح. الحياة المسيحيّة مسيرة واحدة، هي فتح الذّات أمام سكب الروح القدس. وهذه المسيرة يمكن أن تتدرج على رمل البراري كما في شوارع المدن. المسألة ليست المكان ولكن الرفقة. فحيث يرافقنا يسوع هناك الملكوت.

لذلك، في كنيستنا الأرثوذكسيّة، كلمتا “عمل” و”رؤيا”، أو خدمة وتأمّل، ليستا معنيَين لطرفين متباينين ولا لمواهب مختلفة، إنّما يعنيان درجتين مختلفتين من الحياة الروحيّة ذاتها، فالواحدة هي مقدّمة الأخرى، والثانية تنبع من الأولى وتتلوها. فالعمل أو الخدمة يعني حياة الجهاد الداخليّ من صلوات وأسهار وأصوام، إنّها مرحلة الابتداء. إمّا التأمّل والرؤيا، فيعنيان المرحلة اللاحقة حيث يصل الإنسان بعد مرحلة العمل والخدمة إلى حالة رؤية الله في كلّ عمل وخدمة. في المرحلة الأولى تبرز صورة الجهاد والأعمال، في المرحلة الثانية تسيطر صورة النعمة والله. التأمّل هو غاية الخدمة والرؤيا غاية العمل. فخدمة لا تصل إلى تأمّل هي عاقر، وعمل لا يصل لرؤيا هو باطل. يمكننا أن نعمل أو نخدم حيثما نختار، ولكن علينا من الخدمة والعمل أن نصل إلى الرؤيا والتأمّل.

إنّ الأمثلة والنماذج الأولى في حياة الكنيسة هي نماذج الرعاة الذين عملوا في البريّة وتأملوا في الرعاية. أي تعبوا وأعدّوا ذواتهم (مرحلة الخدمة والعمل) في البريّة ثم انطلقوا يرعون الناس (رؤية الله والتأمّل به) في المدن. إنّ الأقمار الثلاثة وكبار القدّيسين أعدّوا ذواتهم في البريّة وليس في المدن، وقدّموا وتأمّلوا بالله وعاينوه في المدن وليس في البريّة. نعم، البريّة هي الأنسب للمرحلة الأولى، دون الحصر. ولكن مَن يعمل يمكنه أن يتأمّل بعدها في مدينة كما في المغاور والمناسك.

 لقد دخل هذا الفصل العنيف بين الخدمة والتأمّل، وكأنّهما نوعَي حياة وليس درجتَي جهاد، منذ القرون الوسطى في العالم الغربيّ. فنرى عالمنا الشرقيّ وكنيستنا الأرثوذكسيّة تتأثّر أحياناً هنا أو هناك بهذه المفاهيم وتعاني من نتائج هذا الفصل الخاطئ.

إنّ غاية كلّ عمل هو التأمّل ونهاية كلّ خدمة هي الرؤيا. لذلك- وكما يقول الكثيرون- إنّ العمل بين الناس هو صلاة أيضاً. ويمكنك أن تعمل وتخدم الناس وكأنّك صلّيت. هذا صحيح وخاطئ بالوقت ذاته. لأنّ في هذه النظرة تصير الصلاة محل العمل والعمل يساوي الصلاة، من حيث قيمتها الأخلاقيّة أمام الله. وهذا خطأ. فليست الصلاة مساوية للعمل أو العمل يساوي الصلاة، ويمكننا الاختيار بينهما. على العكس إنّ العمل يجب أن يصير صلاة ويجب أن تكون الصلاة عملاً.

لذلك علينا هنا أن نميّز بين “الصلاة” وبين الصلوات. أي بين الصلاة، كحركة عشرة داخليّة مع الله، وبين الصلوات. أحياناً “نتلو” صلوات ولا نصلّي. وأحياناً نعمل خدمة ويلتهب قلبنا فينا وتزورنا النعمة، وهذه هي الصلاة. “فالصلوات” كنصوص وكطقوس هي أدوات قد ويجب أن تقودنا إلى “الصلاة”. وكذلك الأعمال والخدم والتزام شؤون الناس هي أداة قد ويجب أن تقودنا إلى “الصلاة”، وإلى استدعاء الربّ ليسكن في داخلنا. إذن كما الطقوس والصلوات هكذا الخدم والنشاطات يجب أن تفتح في “داخلنا” هذه المعركة بين الله وبين الغرباء، أي تقودنا الصلوات كما الخدمة إلى جهاد التطهير، لطرد كلّ ما هو غريب ولتوطين الله في القلب كحالة صلاة دائمة. فعلى من يخدم مريضاً أو من يمدّ يده لإحسان عليه أن يلتهب قلبه ويخاطب الربّ بالشكر والاسترحام. وعلى مَن “يتلو” صلوات أن يفتح قلبه لسكنى السيّد فيه.

هذه الصورة بين “الصلوات والصلاة” تفسّر صورة ومعنى “الخدمة والتأمّل” وصورة “العمل والرؤيا”. فالمرحلة الأولى هي مرحلة الجهد الإنسانيّ أينما وكيفما كان، والمرحلة الثانية هي مرحلة اللقاء الإلهيّ بالإنسان وزمن فيض النعمة على القلب. تلك هي مرحلة العمل للتطبيب وهذه مرحلة العمل بعد الصحّة. في الرؤيا يستمرّ العمل وفي العمل هناك عربون رؤيا، لكن بدايةً يكون العمل تطهيراً ونهايةً يصير تمجيداً. بدايةً نعمل ونهاية نتأمّل، نبدأ بالخدم وننتهي بالتأمّل. هذا يحقّقه كلّ واحد بالموهبة التي نالها والطريق التي اختارها. يتدرّب كلّ منّا على التأمّل والرؤيا عاملاً وخادماً في طرق متعدّدة هي المواهب المختلفة في جسد المسيح الكنيسة، وكلها مقدّسة. ولكن كلّ عمل يجب أن يربطنا بالرأس بالتأمّل والرؤيا.

Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF

معلومات حول الصفحة

عناوين الصفحة

محتويات القسم

الوسوم

arArabic
انتقل إلى أعلى