“من بولس إلى فيليمون المحبوب… والكنيسة التي في بيتكَ” فيليمون 2
كان فيليمونُ سيداً موفوراً، طرد عبداً من منزله قد أخطأ إليه. لكن العبد صار مسيحياً وتاب. يأمر هنا بولس في رسالته إلى “فيليمون المحبوب” أن يستعيد هذا العبدُ مكانتَه الأولى وعمله! “فإن كنت تحسبني شريكاً لك فاقبله نظيري”، يقول بولس لفيليمون! ويزيد بولس: “إن كان قد ظلمك بشيءٌ أنا أوفي لك، إحسب ذلك علي… حتى لا أقول لكَ أنك مديون لي بنفسك أيضاً”
كان بولس بمثابة أسقف يجول مبشراً، وله سلطة المحبة في تنظيم الكنيسة. ولكننا نتفاجأ هنا أنه “يتدّخل بسلطة (الأب)” في حياة المؤمنين حتى في شؤونهم “الخاصة”، في أعمالهم ومنازلهم…! يعتبر بولس أن فيليمون يراه “شريكاً”! شريكاً بماذا؟
هل هذا التدخل من بولس في حياة فيليمون داخل بيته هو “تدخل سافر” في شؤون لا تعنيه؟ قد نعترف أن للأسقف أو الكاهن أو الرعاة سلطةً أبوية ليأمروا بشأن التنظيم الكنسي، لكن حياتنا “الخاصة” في “بيوتنا” هذه حياتنا نحن!
أين يُعبد الله؟ في الكنيسة طبعاً! أين الكنيسة وما هي؟ هل هي في المعبد؟ لقد رفض الله في العهد القديم أن يسكن في معابد من صنع أيادي البشر! بولس الرسول سمانا نحن البشر “هياكلَ لله الحيِّ”. الله الميت يُعبدُ ويَسْكنُ في هياكل. الله الحي يسكن فينا فيحركنّا.
لاشك أن المعابد ضرورية. لكن المعبد ليس مكان سكنى الله، بل مكان اجتماع المؤمنين ليعبدوه ويسبحوه معاً. المعبد مكان العبادة الجماعية. لكن هذه العبادة هي لحظات من جملة زمن عبادتنا لله. يُعبد الله في كل مكان وزمان، وهذا ما نردده في صلواتنا “يا من في كل وقت في السماء وعلى الأرض (كل مكان) مسجود له وممجد…” (من صلاة النوم). فأين هي معابد الله للحظات الأغلب الأخرى؟ العبادة الجماعية في الكنيسة- المعابد هي عبادة لا تتجاوز ساعات قليلة جداً في الأسبوع، حين تسمح الظروف أو نستفيد منها!
الخطر الأبشع في حياتنا المسيحية هو أن نجعل الله صنماً وأن نعبده وثنيّاً! حين نسجنه في معبد، أو نقدم له بعضاً من ساعات أو بعضاً من قرابين، كانت إحسانات أو تسابيح أو … ما كانت! أن نعطي لله حصتَّه من حياتنا ثم نحيا الباقي بطريقتنا الخاصة، هذه شريعة ليست من الحياة المسيحية. لقد خرج الله في العهد الجديد من “قفصه” الكبير الذي سجنه فيه البشر لسنين (السماء)، وجاء لتصير الأرض كلُّها بيتاً له. لقد هدّد الحاكم مرة الشهيد المسيحي الأنطاكي بابيلا: “سأهدم بيتك”، أجابه الشهيد: “الأرض كلها بيت لي”. لأن بيت الشهيد كان حيث الله يطوف ويوجد.
لا نوثّنن العبادة! ليس اللهُ كائناً نذهب إليه، بل هو أبٌ محب يأتي إلينا، حيث نحن وكل لحظة. وهناك بيته. من هذه الناحية تغدو بيوتنا- منازلنا- مكاناً لعبادته أيضاً. وقد تكاد تحتل هذه الكنيسة – البيت المكانة الأولى في حياتنا، لولا أنها تفتقد إلى ممارسة بعض الأسرار والحياة الليتورجية. الله قريب، الله يرافقنا، إننا به ونحيا ونتحرك ونوجد. كيف نجعل منازلنا- ومن ثم معاملنا ومدارسنا ومشاغلنا …- بيوتاً وهياكلَ لله؟ يعوزنا أن ننتبه إلى أمرين:
الأمر الأول هو، أن ندرك بأنَّ كلَّ لحظة من زمن حياتنا وُجدتْ لكي تكون مقدسةً. شاع التقليد الوثني، وحتى يومنا وعندنا، أن “المقدّس” هو ما ننزعه من حياتنا غير الطاهرة… ونقدمه لله الطاهر والقدوس، فيصير مُقدَّساً. فهناك مثلاً أعياد مقدسة وذبائح مقدسة وأوان مقدسة… هي التي تُقَّدم لله وليس لنا. وبهذا المعنى طُلب قديماً أن نقدس يوم الرب، فلا نعمل لأنفسنا…! لكن في المسيحية، المقدَّسُ ليس ما يخصص لله، بل هو ما لنا حين نشارك الرَّب فيه. يسمي بولس (كسيّده الرب يسوع) نفسه “شريكاً” لفيليمون. وهذا “الشراكة” تأتي من الرباط الروحي الذي اختاره كل مسيحي بحريته حين اعتمد وآمن وشرب من الكأس المشتركة وأكل من الجسد الكريم. هذه “الشراكة” مع الله ومع أعضاء الكنيسة وكل المؤمنين لا تنحصر في الشؤون الروحية- حاشى، لأنها شركة بالحياة والمستقبل. تندرج في هذه الشراكة مع الله وشعبه في الكنيسة كل أمور حياتنا.
إذا عرفنا أننا شاركنا الله ليس ببعض من وقتنا أو ببعض من أملاكنا بل بـ”قلبنا”، عندها نعرف أن “للرب الأرض بكمالها المسكونة وكل الساكنين فيها”، وأن بيتنا كنيسةٌ له أو أن كنيستَه في بيتنا. “فإن كنت تحسبني شريكاً”: هذه كلماتُ بولس لفيليمون، وهذه أخذها بولس عن السيد الذي يوجهها إلى كل واحد منا! هذه الشراكة في كل آن ومكان هي ما نسميه “حياة التقديس” وعندما تكتمل تصبح “قداسة”. لذلك القداسة ليست حصةَّ الله مما لنا، بل هي غاية لكل ما لنا. كل شيء إذن، مهما كان مهّماً أو تافهاً، صغيراً أم كبيراً، “لنا أو عندنا”، كلّه بالنهاية مهم جداً لأنه أداة ينتظر الله أن نستخدمها في العلاقة معه، فتغدو مقدَّسةً. كل شيء – حتى ما نعتبره تافهاً في نظرنا- هام جداً لأن علينا أن نقدّسه، حين نشارك الله به.
الأمر الثاني هو، أن نبسط مسؤوليتنا المسيحية إلى كل مكان ينتظرنا اللهُ فيه كمسؤولين وليس كعابرين أو لا مبالين. والله ينتظرنا هناك والآن. المسيحي معنيٌّ بكل ما حوله. لقد سمح الله لكلٍّ منا أن يوجد الآن وهنا ليكون رسولاً، لا بل ليكون مكانه. وهذه هي العبادة الحقّة لله! فإذا ما احترق بيت الجيران لا نقول: هذا ليس بيتنا ولا يعنينا. إنه بيت الله أيضاً. إذا ما حاصصنا الله ستكون لنا خاصتنا وحصته وحصص للآخرين. لكن إذ ما شاركناهُ وكلَّ مالنا غدونا مسؤولين معه وحيث وحينما هو يوجد، ونوجد معه.
المسلكية المسيحية ليست عبادة لله في معبد أو حتى في منزل وحسب. العبادة المسيحية هي شراكة، وبالتالي “شهادة”. حيث نكون هناك يظهر يسوع أو بالأحرى يعمل! لا بل علينا أن نكون شاهدين حيث يحتاج الآن هو أن يكون! لننظر حولنا كل لحظة أين يجب أن يأتي يسوع. وماذا يُنتظر منه أن يعمل؟ هناك يجب أن أذهب أنا وهذا ما يجب أن أعمله. نعم هناكهي كنيسة الله وهناك المعبد وهذه هي العبادة بالروح والحق، لا في “هذا الجبل ولا في أورشليم”، بل بالروح- روح الشراكة مع الله.
صرخات بولس الرسول “نُصلب معه ونقوم معه بقيامته” تتكرر بشكل فاضح! نشارك المسيح موته فيشاركنا قيامته، والرب مسؤول عن كل شيء وفي كل زمان ومكان. وحيث نحن، فنحن مسؤولون معه عما هو حولنا!
للرب الأرض بكمالها وله الزمن كله، ونحن شركاؤه في كل مالَه من مسؤوليات. هذه الشراكة تتحقق في المعبد الفلاني- الكنيسة في عبادة جماعية، وفي “بيتنا” الكنيسة. هكذا كان على فيليمون أن يعبد الله في المعبد كما يعبده في بيته، كان عليه أن يحبّ أخوتَه المؤمنين في اجتماعهم بالمعبد كما حين يعملون عنده في البيت. الله شريكه في كل شيء وكل مكان. لم يَعدْ أونيسموس عبَده في البيت وأخاه في المعبد، بل هو شريكه مع الله كما في المعبد كذلك في البيت…!
من يحب لا يُحاصص، ومن يعطي القلب يشارك. “جعلتُ الرب أمامي في كل حين” يقول النبي داؤود فجعل هكذا كلَّ مكان يحلُّ فيه بيتاً لله. فلنجعلّن الله أمامنا كل حين، آمين.
المتروبوليت بولس يازجي
عن رسالة مطرانية حلب – الموقع القديم