لماذا نقرأ العهد القديم؟

تكثر الإعتراضات على كتب العهد القديم، على مناقبيته، كما هو الزعم، وعلى تخلّفه وعنصريته وعلى أن أغلب نصوصه انتحلها اسرائيل من آداب مجاورة له. هذا يتأتى من ان ماركيونية جديدة متفشية في عقول البعض، وماركيون هو من سنوبه (بلاد البنطس) توفي حوالى العام 155، وهو اول من ابتدع في كتابه “المتناقضات” وقال بالفرق بين إله العهد القديم وإله العهد الجديد، ولم يعترف الا بإله العهد الجديد. ضخامة الردود التي نجدها عند الآباء الاولين امثال: يوستينوس الشهيد (+ 165)، ترتليانوس القرطاجي (155-220) و إيريناوس أسقف ليون (+202) دلالة ساطعة على مخالفة ماركيون للحقيقة والتراث المستقيم. وقد اعتبر هؤلاء الآباء وغيرهم (إكليمنضُس الإسكندريّ، اوريجنس، واغوسطينس…) ان التوراة هي كلمة الله بالقوة نفسها التي العهد الجديد فيها كلمة الله، ومما قاله كليمنضس إن الذي يؤمن بكلام العهدين يسمع صوت الله يحدّثه من خلال قراءتهما وهو يبرهن له على انه موجود في كل حرف من احرفهما.

كل ماركيونية قديمة ام حديثة هي بحقيقتها تطاول على الله وكلمته، ذلك انه كثيرا ما يفهم الانسان حريته بشكل خاطئ وكثيرا ما يعتقد ان فهمه هو القياس الوحيد لمعرفة الله ومقاصده. وتاليا قد يأتي باعتراضات من خارج ايمانه، وهذا شرعي اذا صنّف الانسان نفسه خارج كنيسة الآباء. لكنه ان اعترف انه عضو من اعضائها واعلن إيمانه بما تقول، لا بد ان يبدل اعتراضاته العمياء باسئلة استفهامية. هذا هو حال المؤمنين، فالانسان لا يفهم كل شيء، هو يعيش ويفتش ويبتغي ويرجو ان يكشف الله له كنه أسراره كي يعمق الايمان به ويحلو حبّه.

السؤال هو لماذا نقرأ العهد القديم؟ جوابنا لانه كتاب الله وانه أساسي لفهم العهد الجديد، والعهد الجديد يرتكز عليه ويعتبر ان سلطته مطلقة (متى 5: 17، رومية 15: 4، 2تيموثاوس 3: 15)، هذا بالنسبة الى الكنيسة، عبر تاريخها، حقيقي وأصيل، وهذا ما عبّر عنه القديس ايريناوس الذي رأى ان ما كتب قبل المسيح ما هو سوى تأكيد على ما حقّقه يسوع في حياته… لذلك اعتبر قديسنا ان كتّاب العهد القديم جميعهم أنبياء.

علاقة العهد القديم بالعهد الجديد تستند على مبدأ هام هو وحدة العهدين، هذا الترابط الذي بينهما مردّه ان مصدرهما واحد هو الله الذي يعمل في تاريخ واحد لتحقيق خلاص واحد. الا ان العهد القديم خاضع للعهد الجديد لانه يصبو اليه كغايته وقمة كماله، فهو مؤدب يقودنا الى المسيح (غلاطية 3: 24)، غايةِ العهدين ومحقّقِ كمالهما (يوحنا 5: 39-47).

دون ما ريب ان العهد القديم يحوي الفاظا هي جزء من ثقافة دينية تعبّر عن إطار اجتماعي وتاريخ طويل، الا ان هذه الالفاظ الكثيرة المتأصل مضمونها في تاريخ اسرائيل، استعمل كتّاب العهد الجديد كثيرا منها. مثلا ألقاب ليسوع: مسيح، ابن داود، ملكيصادق، ابن الله، ابن الانسان، العبد المتألم، حمل الله والنبي… وعبارات كثيرة: الكرمة، الزواج، صهيون، ذبيحة، الماء، الروح… كلها تعابير يستحيل على القارئ فهمها فهما صحيحا من دون العودة الى جوهر الثقافة التي أتت منه. فبينما عند القارئ المسيحي المعاصر، مثلا، عبارة “ابن الله” لها معنى قوي، توحي اليه عبارة “ابن الانسان” بالضعف، والحال ان العبارة الاولى تعادل في نظر اسرائيل عبارة “ابن داود” وتاليا هي لقب ارضي، واما الثانية فتوحي بتلك الشخصية المعروفة بالادب الرؤيوي (دانيال 7: 13-14) وهي شخصية إلهية محضة (متى 26: 46 و56).

ان نُسلم بتطور الوحي التصاعدي مع الحياة لهُو قاعدة اساسية تمكننا من ان نفهم، من دون ان نهمل المعطيات السامية التي للعهد القديم، ان دونيّة مناقبيته تمهّد للمتطلبات التي أتى بها انجيل يسوع، وأن انعزاليته، التي ظهرت بعد العودة من بابل، لا تخفي مسكونيته التي يؤكد عليها الوحي. لعل خلاص العالم والامم الوثنية لدليل قاطع فيه على هذه المسكونية. واما ما يسميه المعترضون انتحالا من آداب مجاورة (الاساطير البابلية، الملاحم اليونانية…) فهو بحقيقته قدرة على التمثل وتقدير لحضارات عند الآخرين وانفتاح الهي عليها. فمع كون العهد القديم اخذ صورا واساليب تعبير من نصوص مجاورة الا اننا لا نجد نصا واحدا في التوراة مماثلا تماما لها، وانما افرغها من كل ما يناقض مفهومه لله والانسان والعالم والتاريخ (وهي قيم ثابتة كلها في العهد الجديد)، وأعطاها شخصيته ولاهوته ورحانيته فاصبحت تراثه وادبه ولاهوته.

العهد القديم موعد في معظمه. كان اليهود ينتظرون مسيحا يقيم ملكوت الله. اتى يسوع وافتتح هذا الملكوت وأقام الكنيسة لتتابع الرسالة. والكنيسة التي أسسها الرب مع كونها متصلة باسرائيل القديم الا انها لم تعد بعد اسرائيل الجسد، وانما هي اسرائيل الجديد، “اسرائيل الله”(غلاطية 6: 16) التي تحيا بالايمان به ربا ومخلصا.

عن نشرة رعيتي 1995

arArabic
انتقل إلى أعلى