أيستطيع القارئ أن يقرأ النص نفسه مرتين؟
هذا سؤال عَرَضي، سؤِل مرّات كثيرة منذ بداية عصر ما بعد الحداثة هذا. ومع هذا فالفكر الذي وراءه هو قديم قِدَم ذلك الفيلسوف الذي سبق سقراط والذي سأل إذا ما كان الإنسان يستطيع أن يسير مرتين في نفس الطريق. والسؤال اليوم، كما في السابق، هو نعم ولا.
إنه سؤال مهم لقرّاء الكتاب المقدس لأنه يقدّم لنا مفتاحاً للإجابة على أسئلة أخرى مرتبطة به. كيف تحمل هذه الكتابات الإنجيلية المعنى؟ وما هو بالتحديد هذا المعنى الذي تحمله؟
منذ عهد التنوير في القرن الثامن عشر اتّجه الناس نحو أحد قطبين في ما يتعلّق بقراءة الكتاب. فمن جهة نجد “الحرفيين” أي الذين يقرأون الكتاب المقدّس وكأنه بالدرجة الأولى كتاب تاريخ يقدّم لنا سلسلة من الحقائق والأحداث حول كل ما جرى منذ خلق العالم (في ستة أيام بالقياس الحالي للزمن) إلى المجيء الثاني (بصوت البوق من السماء التي هي فوق جغرافياً). في الجهة الأخرى هناك علماء يتبنون مقاربة تاريخية نقدية لا تثق كثيراً بدقة النصوص الكتابية التاريخية لكنها تركّز في الأغلب على محتوى النص وخلاصته والظروف التي أدت إلى كتابته ودوره ضمن الجماعة المؤمنة.
بالرغم من أن هاتين المقاربتين تبدوان كقطبين إلا أنهما متطابقتان في أحد الأوجه الرئيسية. فالإثنتان تفترضان أن المعنى الوحيد الممكن في النص هو المعنى الأدبي. هذا يُحدد بالعادة على أنه المعنى الذي يقصده الكاتب الإنجيلي: المعنى الذي فهمه وحاول أن يبلّغه. إذاً، ينبغي أن يركّز التفسير الكتابي على ما يقوله النص فعلياً. من هذا المنظار، يتحوّل المعنى الأدبي للنص إلى معنى تاريخي في الواقع: إمّا ما حدث بالفعل (في أعين الأدبي) أو ما يدّعي النص حصوله (كما يكشفه النقد التاريخي).
في أي حال، لقد كانت معرفة لاهوتيي العصور المسيحية الأولى أفضل من أن تحصر العمل التفسيري في أي من هذين الطرفين. على سبيل المثال، أوريجنس في القرن الثالث، رداً على مقاربة أدبية أو تاريخية محضة، تساءل ببلاغة: “أي إنسان عاقل سوف يصدّق أن الأيام الأول والثاني والثالث والمساء والصباح وُجدَت من دون الشمس والقمر والنجوم… والملكوت؟ ومَن على هذا القدر من السذاجة حتى يؤمن بأن الله زرع جنة إلى شرق عدن، على طريقة الفلاحين؟”
هذا ليس تشكيكاً. إنه يؤكّد أن القصص الكتابية تحمل في أغلب الأحيان أكثر من معنى، وأن المعنى الأصلي نادراً ما يكون ذاك الذي يشار إليه بالمعنى “الأدبي” أو “التاريخي”.
وهكذا يتابع أوريجنس: “عندما يُقال أن الله مشى في الفردوس في رطوبة النهار وأن آدم اختبأ خلف شجرة، لا أظن أن أحداً سوف يشكّ بأن هذه تعابير تصويرية تشير إلى بعض الأسرار من خلال شبه في التاريخ وليس من خلال حدث فعلي”.[1]
ومع هذا، أوريجنس وكل التقليد الآبائي، رأوا أن أحداث الكتاب التاريخية ووقائعه وشخصياته وصوره الرمزية هي حقائق بما فيها ولادة يسوع من عذراء وعجائبه وقيامته من بين الأموات. مفسرو الكتاب في العصور المسيحية الأولى فهموا فعلياً كل الإثباتات التي تؤلّف القانون النيقاوي بطريقة أدبية وتاريخية. وإلى هذا فإن هذه التأكيدات تشير من خلف معناها الأدبي إلى معنى أكثر سمواً وروحيّة، أي إلى إدراك مستيكي. فهذه التأكيدات ممكن ألا تُفهَم كمجرّد بيانات عمّا جرى في التاريخ بل كصور لما يمكن أن يرشَح إلى حياتنا الشخصية وإلى الحياة الآتية.
وعلى ذلك، غالباً ما ميّز آباء الكنيسة بين عدّة معانٍ للكتاب. مثال جيد هو كيفية قراءة بعضهم لتقليد الخروج. في هذه الرواية عن تحرير إسرائيل من العبودية في مصر وجدوا على الأقل أربعة مستويات من المعاني: 1) المعنى “الأدبي \ التاريخي” الذي يتحدّث عن الإسرائيليين خارجين من مصر إلى أرض الميعاد، 2) “المجازي” الذي يرى صور العهد القديم (مثلاً موسى ويشوع، المنّ والصخرة في البرية) كرموز أو نماذج اكتملت في المسيح وأسرار الكنيسة، 3) “الأخلاقي” الذي يرى في رحلة إسرائيل صورة لتحوّل النفس من الخطيئة والموت إلى النعمة و”الجِدَّة في الحياة” (روما 4:6)، و4) “السري” (الأناغوجي: “anagogical” أي الذي يقود إلى أعلى) الذي يتحدّث عن رحلة المؤمن نحو المجد الأبدي.
هذا يعيدنا إلى سؤالنا الأوّل: أيستطيع القارئ أن يقرأ المعنى نفسه مرتين؟ من جهة، الجواب هو نعم. النص (كرواية كتابية) هو بحد ذاته حقيقة موضوعية. لقد تمّ إنتاجه في لحظة ما في الماضي وأتى إلينا، كقانون، بشكل ثابت وغير قابل للتغيير. مع أن بعض الترجمات قد تختلف، فالنص الأصلي (العبري أو اليوناني) يبقى نفسه. ما قرأناه مرة نقرؤه مجدداً في كلّ مرة نمسك بالكتاب المقدس. الكلمات لا تتغيّر.
في أي حال، يمكن لمعنى هذه الكلمات أن يتغيّر وهو يتغيّر بحسب ظروفنا الحاضرة والشخصية وبحسب الرسالة التي نبحث عنها، بإرشاد الروح، في الشهادة الكتابية. هذا سوف يحدد، في ذلك الوقت، الكلمات التي سوف تؤثّر فينا، وبالتالي ما سوف يحمله النص إلينا. إذا قرأنا المزمور 22\23 مثلاً، سوف نتلاقى بالمسيح الراعي الصالح الذي يقود إلى مياه الراحة ويعيد نفوسنا إلى حضوره ونعمته وسلامه. إذا ما قرأناه في أوقات القلق الشديد أو قبل عملية كبيرة، فقد يكون انتباهنا مشدوداً إلى صرخة صاحب المزامير المطمئنة “حتى ولو مشيت في وادي ظل الموت، فإنك أنت معي”! المزمور لم يتغيّر بل بالتأكيد طريقة قراءتنا هي التي تغيّرت.
وهكذا أيضاً، طريقة مقاربتنا لروايات آلام المسيح سوف تحدد ما إذا كنّا نرى في الصليب حجم ألم يسوع الجسدي والعاطفي، أو صورة لتضحيته الخلاصية، أو دعوة إلى الكفاح والثبات مخلصين له من خلال القانون النسكي وأعمال المحبة، أو وعداً بأن “بالصليب أتى الفرح لكل العالم”، فرحاً سوف يكون لنا عندما يستقبلنا الرب القائم في مجد ملكه.
أيمكننا أن نقرأ نفس النص الإنجيلي مرتين أو أكثر؟ نعم، بقدر ما هو يسوع وكلمته نفسهما اليوم، وأمس وإلى الأبد. ومع هذا لا، بقدر ما هو النص حقيقة حياتية تتغيّر بشكل ثابت لأنّها مثقَلة بحضور الروح القدس وقوته الموحية. الروح يعيد كتابة النص في كل لحظة من حياتنا، وعند كل خطوة من رحلة الآلام التي تقودنا عبر خبرتنا اليومية نحو ملء الحياة الآتية.
إن إعادة الكتابة هذه هي ما يجعل الكتاب المقدّس كلمة حية تحمل الحق والحياة معاً، وليس مجرّد تدوين تاريخي أو وثيقة لفك مغاليقها وتحليلها.
بقلم: الأب جون بريك
نقلها إلى العربية الأب أنطوان ملكي
نقلاً عن مجلة التراث الأرثوذكسي
[1] On First Principles (ed. by G.W. Butterworth، NY: Harper & Row، 1966)، p. 288.