المقولات في المسيح

المقولات في المسيح أربعة أنواع أصليّة: تُقسم المقولات في المسيح إلى أربعة أقسام أصليّة، ذلك نسبةً إلى ما قبل تأنّسه وفي حال تأنّسه وبعد تأنّسه وبعد قيامته.

فالمقولات فيه قبل تأنّسه تُقسم إلى ستّ حالات:

  1. آ) منها ما يدلّ على صلة طبيعته ومساواتها مع الآب، كقوله: “أنا والآب واحد” (يوحنّا 10: 30)، و”مَن رآني فقد رأى الآب” (يوحنّا 14: 9)، و”الذي إذ هو في صورة الله” (فيليبي 2: 6)، وما ماثلها.
  2. ب) وغيرها يدلّ على كمال أقنومه كقولك: “ابن الله” و”صورة جوهره” (عبرا 1: 3)، و”رسول الرأي العظيم، عجيباً مشيراً” (أشعيا 9: 5)، وما إليها.
  3. ج) وغيرها يدلّ على نفوذ الأقانيم بعضهم في بعض كقوله: “أنا في الآب والآب فيَّ” (يوحنّا 14: 10)، وعلى ارتباط لا يُستأْصَل، كالكلمة والقوة والحكمة والبهاء. فإنّ الكلمة هي في العقل أعني أنها فيه صفة جوهريّة. وكذلك الحكمة. والقوة هي في القويّ. والبهاء هو في النور.
  4. د) وغيرها يدل على أن الابن هو من الآب علّته كقوله: “إن الآب أعظم مني” (يوحنا 14: 28)، فإنّ وجود الابن وكل ما له هو من الآب. لكنّ وجوده هو من الآب بالولادة لا بالإبداع كما في قوله: “أنا من الآب خرجتُ وأتيتُ” (يوحنّا 16: 27) و”أنا أحيا بالآب” (يوحنّا 6: 57). وكل ما هو للابن ليس له بعطاءٍ ولا بتعليم بل من علّته، كما يقول: “إن الابن لا يقدر أن يعمل من نفسه شيئاً إلا ما يرى الآب يعمله” (يوحنّا 5: 19). فلو لم يكن الآب لما وجد الابن. فإن الابن من الآب وفي الآب ومع الآب. ولكنّه ليس بعد الآب. وبالمثل إنّ ما يعمله منه ومعه، لأن الإرادة والفعل والقوة هي نفسُها -وليست مماثلة- بل هي هي نفسها للآب والابن والروح القدس.
  5. هـ) وغيرها يدل على كيفية إتمام المسرّة الأبوية بفعل الابن، ذلك ليس على أنه عضوٌ أو عبد، بل على أنه كلمته وحكمته وقوته الجوهرية والأقنومية، لسبب أن الحركة تُرى واحدة في الآب والابن. مثلاً: “كلٌّ به كان” (يوحنا 1: 3) و”أَرسل كلمته فشفاهم” (مز 106: 20)، وأيضاً “لكي يؤمنوا أنك أنت أرسلتني”(يوحنا 11: 42).
  6. و) وغيرها نبويّة. وهذه بعضها مستقبلية ظاهرة. مثلاً: “إلهنا يأتي” (مز 49: 2). وقول زخريا: “هوذا ملكُكِ يأتيكِ…” (زخريا 9: 9)، وما يقوله ميخا: “هوذا الرب يخرج من مكانه وينزل ويطأ مشارف الأرض” (ميخا 1: 3). وبعضها مستقبليةٌ أيضاً ولكنها بصيغة الماضي، مثلاً: “هوذا إلهنا. تراءى على الأرض وتردّد بين البشر” (باروك 3: 31-34). وأيضاً: “الربُّ حازني في أول طريقه قبل ما عمله منذ البدء” (أمثال 8: 22). وأيضاً: “لذلك مسحك الله إلهك بدهن البهجة أفضل من شركائك” (مز 44: 8)، وما مائل ذلك.

وعليه إنّ ما يُقال في المسيح قبل الاتحاد يُقال فيه بعد الاتحاد أيضاً. أمّا ما يُقال فيه بعد الإتحاد فلا يُقال أبداً فيه قبل الإتحاد، اللّهم إذا ما كان ذلك عن طريق النبوّة، كما سبق القول.

والمقولات عن المسيح في الاتحاد تُقسم إلى ثلاث حالات:

ففي حال نجعل الكلام في المسيح انطلاقاً من جزئه الأسمى، نتحدّث عن تأليه جسده و”تأكلمه” (تأكلم جسدُ المسيح = اتحد بالكلمة) وتفوّقه السامي وما شاكل ذلك، موضّحين ما حصل للجسد من غنىً من جرّأء اتحاده والتحامه بالكلمة الإله العليّ. وحين نجعل الكلام في المسيح صعوداً من جزئه الأدنى، نتحدّث عن تجسّد الله الكلمة وتأنّسه وإفراغه من ذاته وافتقاره وتواضعه، فإنّ هذه وأمثالها تحكي عن بشريّة المزاج التي لله الكلمة. أمّا في حال نجعل الكلام في المسيح انطلاقاً من كلا الجزئين معاً، فنخبر عن الاتحاد والشركة والمسحة وتلاحم الطبيعتين وتلاحم الشكلين وما شاكل. إنه إذاً لسبب هذه الحال الثالثة يجري الكلام عن الحالين السابقتين. فبالاتحاد إذاً يظهر ما كان لكلٍّ منهما من تواجد الانسجام والنفوذ. وبسبب اتحاد الجسد في أقنوم يُقال بأنه قد تألّه وإنه قد صار إلهاً وإنه قد صار إلهاً واحداً مع الكلمة، ثم يُقال بأن الله الكلمة قد تجسّد وصار إنسانً وصار خليقة و”دعي أخيراً” (راجع أشعيا 53: 3)، وذلك ليس أنه قد صار تحويل من طبيعتين إلى طبيعة واحدة مركّبة -فلا يمكن لمتضادّين طبيعيّين أن يصيرا معاً إلى طبيعة واحدة-، بل ذلك من طبيعتين متّحدتين في أقنوم وحاصلتين على نفوذ إحداهما في الأخرى بدون اختلاط ولا تشوش. وإنّ النفوذ قد كان لا من قبل الجسد، بل من قبل اللاهوت، لأنْ لا طاقة للجسد أن ينفذ في اللاهوت، بل هي الطبيعة الإلهية وحدها قد نفذتْ في الجسد وأعطت للجسد نفوذه المعجزَ البيان. وهذا ما نسمّيه الاتحاد.

مبادلةُ الصفات: واعلمْ أنه في الحالين الأولى والثانية في الاتحاد يبدو مشهدٌ عكسيٌّ: فعندما نجعل كلامنا عن الجسد، نقول بالتألُّه والتأكلم والتسامي والمَسْحة، ذلك أن النظر إلى الجسد بخصوص هذه المواضيع منطلقٌ من اللاهوت. وعندما ينتقلُ الكلام إلى الكلمة، نقول بإفراغه وتجسّده وتأنّسه واتضاعه وما شاكل ذلك. وإنّ هذا الذي قد قلناه في الكلام انطلاقاً من الجسد وانعكاساً على الله الكلمة إنما كان لأنه هو نفسه ارتضى أن يحتمل ذلك.

المقولات عن المسيح بعد الاتحاد ثلاثة أنواع:

الأول يوضح طبيعته الإلهية، مثلاً: “أنا في الآب والآب فيَّ” (يوحنا 14: 10)، و”أنا والآب واحد” (يوحنا 10: 30)، وكل ما يُقال فيه قبل تأنّسه يقال أيضاً بعد تأنّسه، ما عدا أنه لم يكن قد اتخذ الجسد ولا أعراضه الطبيعية.

الثاني يوضح طبيعته البشرية، مثلاً: “لماذا تطلبون قتلي وأنا إنسان قد كلَّمكم بالحق” (يوحنا 8: 40) و”هكذا ينبغي أن يُرفَع ابن البشر” (يوحنا 3: 14)، وما شاكلهما.

  • والمقولات هذا المكتوبة عن المسيح المخلّص والدالَّة بالقول أو بالفعل على أنه إنسانٌ هي ستة أنواع: -فمنها ما قد جرى أو قيل طبيعياً وتدبيراً لخلاصنا. مثلاً: -ولادته من العذراء ونموّه وتقدّمه في العمر وجزعه وعطشه وتعبه وبكاؤه ونومه. وأنه جُرح بالمسامير ومات إلخ… إنها كلَّها آلام طبيعية وبريئة من الخطإِ وهي كلها مزيجٌ من الإلهي والبشري رغم أنها -من المسلَّم به- تختصُّ حقيقةً بالجسد، وأنّ الإلهي فيها لم يتألّم البتّة، لكنه قد أجرى خلاصنا بواسطة هذه الآلام.
  • ومن المقولات ما قيل للتظاهر بالشيء. مثلاً: سؤاله: “أينَ وضعتم لعازر” (يوحنا 11: 34). ودنوّه من شجرة التين وارتداده عنها راجعاً (متى 21: 19). وصلاته. وأنه “تظاهر بأنه منطلقٌ إلى مكان أبعد” (لوقا 24: 28). إن هذه التصرفات وأمثالها لم يكن المسيح بحاجة إليها، لا بصفته إلهاً ولا بصفته إنساناً. لكنه تذرَّعَ بها -كما يفعل البشر- ليبلغ إلى ما هو ضروري ومفيد. مثلاً: لقد صلّى ليُظهر بسؤاله أنه ليس معادياً لله، وأنه يُكرم الآب على أنه علّته. وقد سال -ليس لأنه يجهل- بل ليُظهر أنه بالحقيقة إنسانٌ رغم كونه إلهاً. وقد تراجع عن التينة ليعلّمنا ألاَّ نتجاسر ونستسلم لذواتنا.
  • ومن المقولات ما هي التماسٌ للعون والنجدة. مثلاً: “إلهي إلهي، لماذا تركتني” (متّى 27: 46) و”إن الذي لم يعرف الخطيئة جعله خطيئة لأجلنا” (2 كور 5: 21) و”صار لعنة لأجلنا” (غلا 3: 13) و”يُخضعُ الابن نفسه للذي أخضع له كل شيء” (1 كور 15: 28). والحال إنّ الآب لم يترك ابنه قط لا من حيث هو إله، ولا من حيث هو إنسان. ولم يكن الابن قط خطيئة ولا لعنة، ولم يكن بحاجة إلى أن يخضع للآب. فمن حيث هو إلهٌ، هو مساوٍ للآب وهو ليس معادياً له ولا خاضعاً له. ومن حيث هو إنسان، فلم يكن قط مقاوماً لأبيه كي يضطَّر إلى تقديم الخضوع له. إنما قال هذا لأنه قد اختصَّ بشخصنا وجعل ذاته بمستوانا، لأننا كنَّا خاضعين للخطيئة واللعنة. ولذلك كنّا متروكين.
  • ومن المقولات ما هو آتٍ من تمييز في الفكر. فإن كنتَ تميّز في فكرك ما هو -أي الجسد- غير منفصل في الواقع عن الكلمة، أمكنك الكلام عن عبدٍ وجاهلٍ -لأن الجسد هو من طبيعته عبدٌ وجاهلٌ-. لو لم يتّحدْ يالله الكلمة، لكان يمكنه أن يكون عبداً وجاهلاً. أمّا وقد اتحد أقنومياً بالله الكلمة، فهو لم يكن قط عبداً ولا جاهلاً. ولذلك سمَّى الآب إلهه.
  • ومن المقولات ما كان لإظهاره ذاته لنا توطيداً لإيماننا به. مثلاً: “الآن مجِّدني أنت يا أبتِ عندك بالمجد الذي كان لي من قبل كون العالم” (يوحنا 17: 5)، فإنه قد كان هو نفسه ممجَّداً ولا يزال. لكنّ مجده لم يكن ظاهراً لدينا فيضطرنا إلى تصديقه. وهذا مثل آخر من قول الرسول: “يسوع المسيح ربنا الذي حدَّد أن يكون ابن الله بحسب روح القداسة بالقيامة من بين الأموات” (رومة 1: 4). فقد ظهر بمعجزاته وقيامته وحلول روحه القدّوس واضطّر العالم إلى الإيمان بأنه ابن الله. وأخيراً قول الإنجيلي: “وكان ينمو في الحكمة والنعمة” (لوقا 2: 52).
  • ومن المقولات ما يختصّ بشخصه بصفته يهودياً. فقد كان يُحصي ذاته مع اليهود، كقوله للسامريّة: “أنتم تسجدون لما لا تعلمون ونحن نسجدُ لما نعلم لأن الخلاص هو من اليهود” (يوحنا 4: 22).

الثالث هو الذي يُظهر وحدة الأقنوم ويُثبّت اتحاد الطبيعتين. مثلاً: “أنا أحيا بالآب، فالذي يأكلني يحيا هو أيضاً بي” (يوحنا 6: 57)، و”إني منطلق إلى الآب ولا ترونني بعد” (يوحنا 16: 10). و”لو عرفوا لما صلبوا ربّ المجد” (1 كور 2: 8). و”لم يصعد أحد إلى السماء إلاّ الذي نزل من السماء، ابن البشر الذي هو في السماء” (يوحنا 3: 13). وما شاكل ذلك.

المقولات في المسيح بعد قيامته:

منها ما هو لائق بلاهوته. مثلاً: “معمدين إيّاهم باسم الآب والابن والروح القدس” (متى 28: 19)، ودالٌّ على أنَّ الابن هو الله. مثلاً: “ها أنا معكم كل الأيام إلى منتهى الدهر” (متى 28: 20). وما شاكلها. فإنه هو معنا بصفته إلها. ومن هذه المقولات ما يليق بصفته إنساناً. مثلاً: “أمسكْنَ قدميه” (متى 28: 9). و”هناك يرونني” (متى 28: 10). وما شاكل ذلك.

والمقولات في المسيح بعد قيامته اللائقة بناسوته مختلفة الأنواع. فإنّ بعضها قد حصل في الحقيقة، ولكن ليس بمقتضى طبيعة (الأجسام الممجّدة)، بل بمقتض تدبير خلاصنا لثبيت الإيمان بأنّ الجسد الذي قد تألَّم هو نفسه قد قام، مثل ذلك آثار الجروح وأكل المسيح وشربُهُ بعد قيامته. وبعضها حصل في الحقيقة وبمقتضى الطبيعة الممجدّة، كانتقاله من أمكنة إلى أخرى بدون إجهاد، ودخوله الأبواب مغلقة؛ وبعضها كان تظاهراً بعملٍ ما، كما جاء في الآية: “تظاهر بأنَّه منطلق إلى مكان أبعد” (لوقا 24: 28). وبعضها كان بمقتضى طبيعتيه، مثلاً: “إني صاعدٌ إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم” (يوحنا 20: 17)، و”ليدخل ملكُ المجد” (مز 23: 7)، و”جلس عن يمين الجلال في الأعالي” (عبرا 1: 3). وبعضُها – وكأنه انضمَّ إلى صفّنا – كان متميّزاً عنّا على مستوى التفكير العالي، كما في: “إلهي إلهي !”.

فينبغي إذاً أن ننسب أفعال المسيح السامية إلى طبيعته الإلهية المنزّهة عن الآلام والجسد، وأن ننسبَ أفعاله الوضيعة إلى طبيعته البشرية. أما أفعاله المشتركة فإلى المركَّب، أي إلى المسيح الواحد الذي هو إلهٌ وإنسان، علماً بأنّ كليهما يُنسبُ إلى ربنا يسوع المسيح الواحد نفسه. فإذا عرفنا ما يختصّ بكل طبيعة منهما ورأينا أنّ كلا الفعلين من واحد، يكون إيماننا مستقيماً ولا نضلُّ. فمن هذا كله، نعرف حقيقة الفرق بين الطبيعتين المتّحدتين، لئلا، كما يقول كيرلّس المتفوّق في علم اللاهوت، نجعل اللاهوت والناسوت شيئاً واحداً على مستوى الصفات الطبيعية. أجل إن الابن والمسيح والرب واحد، وبما أنه من واحد، فإنّ شخصه واحد أيضاً ووحدته الأقنومية لا تنقسم في أيّ حالٍ من الأحوال بسبب معرفة فارقها الطبيعي.

arArabic
انتقل إلى أعلى