الأفخارستيا

أسّس الربّ يسوع، في العشاء الأخير الذي أقامه لتلاميذه قبل صلبه وقيامته، سرّ الإفخارستيّا (لفظ يونانيّ يعني الشكر). وهو السرّ الذي تتمّه الكنيسة في كلّ قدّاس إلهيّ من خلال تناول المؤمنين جسد المسيح ودمه، وذلك للاتّحاد به. سنعرض، هنا، لبعض الشهادات الآبائيّة حول حضور المسيح الحقيقيّ في سرّ الإفخارستيّا وحول أهمّيّة المشاركة فيه لنوال الحياة الأبديّة.

إنّ فكرة الاتّحاد لا تغيب عن الآباء عند تناولهم موضوع الإفخارستيّا، الاتّحاد بالمسيح واتّحاد المؤمنين بعضهم ببعض. فالقدّيس أغناطيوس الأنطاكيّ (+107) يوصي أهل فيلادلفيا (في تركيا الحاليّة): “حاولوا جهدكم أن يكون لكم إفخارستيّا واحدة، لأنّ جسد ربّنا يسوع المسيح واحد. واحدة هي الكأس لوحدة دمه، وواحد هو المذبح أيضاً، وواحد هو الأسقف مع كهنته والشمامسة”. من هنا، تشديد الكنيسة الأرثوذكسيّة على عدم إقامة أكثر من قدّاس واحد في اليوم، وذلك لأنّ الرعيّة الواحدة مدعوّة إلى أن تكون واحدة لا عدّة وحدات متفرّقة. ويهاجم القدّيس نفسُه مَن لا يؤمن بحقيقة حضور المسيح في الإفخارستيّا، فيقول في ردّه على أصحاب بدعة الظاهريّة الذين كانوا يقولون إنّ المسيح لم يأخذ جسداً بشريّاً إلاّ بشكل ظاهريّ وتألّم ظاهريّاً وظاهريّاً مات أيضاً: “إنّهم يمتنعون عن التناول وعن الصلاة لأنّهم لا يقرّون بأنّ الإفخارستيّا هي جسد سيّدنا يسوع المسيح”. إذاً، عدم الإيمان بحقيقة حضور المسيح في الإفخارستيّا يصبّ في خانة مَن ينكرون حقيقة تجسّد المسيح وصلبه وقيامته. وانطلاقاً من حقيقة التجسّد يدافع القدّيس يوستينس الشهيد (+167) عن حقيقة الإفخارستيّا، فيقول: “بالطريقة عينها التي تجسّد بها كلمة الله والتي بها اتّخذ المسيح جسداً ودماً، يصبح الغذاء المقدّس بالصلاة التي علّمنا إيّاها جسد ودم هذا المسيح المتجسّد”.

يستنكر القدّيس إيريناوس أسقف مدينة ليون (+202) موقف مَن لا يؤمنون بقيامة الأجساد، فيتساءل: “كيف يستطيعون القول بأنّ الجسد يبلى ويفسد، وأنّ لا نصيب له في الحياة، بالرغم من أنّ هذا الجسد قد تغذّى بجسد الربّ ودمه”. ويلاحظ تالياً أنّ إيماننا يتطابق مع الإفخارستيّا والإفخارستيّا تؤكّد إيماننا. ثمّ يجري القدّيس الليونيّ مقارنة بين الإفخارستيّا والقيامة، فيقول: “فكما أنّ الخبز الآتي من الأرض والذي تمّ تقديسه لم يعد خبزاً عاديّاً، كذلك أجسادنا بعد أن قبلت الإفخارستيّا لم تعد قابلة للفساد بل لها رجاء الأزليّة”. الإيمان بالقيامة، إذاً، لا ينفصل عن الإيمان بالإفخارستيّا، فالخبز والخمر الصائران جسد الربّ ودمه هما ما يجعلان أجسادنا غير قابلة للفساد.

عند إيريناوس، الإفخارستيّا هي جسد المسيح وهي ليست جسداً ميتاً، بل جسد حيّ. وأجسادنا ما أن تتناوله بالإفخارستيّا فإنّما تستقبل الحياة وتتّصل بعدم الفناء، وفي هذا يقول قدّيسنا: “كيف يمكننا أن نعلن أنّ الجسد المتغذّي بجسد المسيح ودمه ليس أهلاً لنعمة الله التي هي الحياة الأبديّة؟”. ويتابع إيريناوس شرحه قائلاً: “فكما أنّ عود العنب المغروس في الأرض يثمر ثمراً في أوانه، وكما أنّ حبّة القمح، التي تسقط في التراب وتموت، تتكاثر وتنمو بروح الله المحيط بكلّ شيء، وكما أنّ هذه الأشياء تتحوّل بحكمة الله إلى خدمة الإنسان، وكما أنّه بكلمة الله تتحوّل إلى إفخارستيّا، أي إلى جسد المسيح ودمه، كذلك أجسادنا، التي تغذّت بها والتي توضع في التراب وتنحلّ فيه، ستقوم في أوانها لأنّ كلمة الله ستقيمها لمجد الله الآب”.

نجد القدّيس أثناسيوس الكبير (+373) واضحاً عند حديثه عن الإفخارستيّا، فهو يقول: “سترى الكهنة يهيّئون خبزاً وخمراً يضعونهما على المذبح. وما دامت الأدعية والصلوات لم تبدأ، يبقى الخبز مجرّد خبز والخمر مجرّد خمر. ولكن، عندما يتمّ رفع الأدعية والصلوات، آنذاك يتحوّل الخبز والخمر إلى جسد الربّ ودمه”. يكرّر القدّيس كيرلّس الأورشليميّ (+386) الكلام ذاته، إذ يقول: “إنّ الخبز والخمر كانا، قبل استدعاء الثالوث الأقدس عليهما، مجرّد خبز وخمر عاديَّين. ولكن بمجرّد ما تمّ هذا الاستدعاء وهذا الابتهال، تحوّل الخبز والخمر إلى جسد المسيح ودمه”. ويستغرب القدّيس كيرلّس كيف ينكر البعض حقيقية تحوّل الخبز والخمر إلى جسد المسيح ودمه، فيقول: “عندما أعلن المسيح وقال عن الخبز هذا هو جسدي، مَن الذي تبقى له الجرأة على الشكّ بعد ذلك؟ وعندما أعلن وقال هذا هو دمي، فمَن الذي يجرؤ أيضاً على أن يقول بأنّ هذا ليس دمه؟”. وللدلالة على صحّة ما يقوله، يستند القدّيس الأورشليميّ إلى آية قانا الجليل عندما حوّل السيّد المسيح الماء إلى الخمر، “فكيف لا نؤمن ولا نصدّقه عندما يحوّل الخمر دماً؟”.

ختاماً، نورد هذا النصّ للقدّيس غريغوريوس النيصيّ (+394) الذي يعبّر خير تعبير عن أهمّية سرّ الإفخارستيّا بالنسبة إلى حياة الإنسان الأبديّة، فهو يقرّر: “فكما أنّ القليل من الخميرة يخمّر كلّ العجين، فكذلك هذا الجسد (جسد المسيح) يبدّل جسدنا ويحوّلنا إلى صورته، وذلك عندما يدخل هذا الجسدَ”. تؤمن الكنيسة أنّ الحياة الأبديّة تبدأ هنا في هذا العالم، وهي ليست أمراً ينتظره المؤمنون ولن يأتي إلاّ في المستقبل. لقد أتاح الربّ لنا بقيامته المشاركة في حياته، وما الإفخارستيّا إلاّ هذا المجال الذي يجعلنا متّحدين به منذ اللحظة التي نقول له فيها نعم وإلى الأبد.

عن نشرة رعيتي 2001

arArabic
انتقل إلى أعلى