مقدمة:
الإنسان عالم صغير “إنه المكان الذي فيه تتحد معاً الخلائق المنظورة وغير المنظورة، الخلائق المادية وغير المادية”[1]. هكذا يعرّف القديس يوحنا الدمشقي الإنسان بوصفه صلة الوصل بين العالمين المادي والروحي، إن الله له المجد لما أراد أن يخلق الإنسان بدافع محبته وصلاحه لم يرده أن يكون كبقية الكائنات الحية التي خُلقت قبله، بل ميّزه عنها إذ أراده أن يكون إلهاً صغيراً مخلوقاً وإنساناً متألهاً، لذلك خلقه على صورته ومثاله.
هذه الصورة الإلهية في الإنسان هي ما يميّزه عن بقية الكائنات التي خلقها الله، وتكسبه فرادة ومزايا لا تمتع بها باقي الكائنات وتجعله في مسيرته الروحية يتطلع نحو تحقيق دعوته أن يكون على “المثال الإلهي”.
إذاً كمال الإنسان لا يكمل في ما يجعله مشابهاً لمجمل الخلائق الأخرى ولكن في ما يميّزه عن الكون ويجعله مشابهاً للخالق.
إن آباء الكنيسة عامة في الشرق والغرب متفقون على وجود علاقة ما بين الإنسان والله كونه مخلوق على صورته ومثاله ولكن الأسلوب اللاهوتي لمعرفة الإنسان (الأنثربولوجيا) يختلف بين الشرق والغرب من دون أن يتناقض. ففي حين التقليد الغربي يهدف إلى معرفة الله إنطلاقاً من الإنسان المخلوق على صورته، فإن التقليد الشرقي يحدد طبيعة الإنسان الحقيقية انطلاقاً مما كشفه الوحي الإلهي لنا عن الله ومنه يصل إلى اكتشاف ما هو في الإنسان، إلى الصورة الإلهية المطبوع بها. من هنا علّمنا القديس غريغوريوس النيصصي أن نتصور الإنسان على صورة الله لا أن نتصور الله على صورتنا. إذاً المنهج الثاني يحدد طبيعة الإنسان انطلاقاً من مفهوم الله الذي على صورته خُلق الإنسان[2].
الإنسان، خلاصة الخليقة :
يتفق الآباء أن الإنسان هو زينة الخليقة وخلاصتها. وهو تتويج لعمل الله الخالق، وهذا ما يوضحه سفر التكوين في ترتيب الخليقة. فيأتي الإنسان في ذروة عمل الخالق. إن القديس يوحنا الذهبي الفم يعتبر أن الكرامة التي خصَّها الله للإنسان هو أنه عنصر الخليقة الأكمل وفي أنه مشارك في الخلق. ويتابع الذهبي الفم: “إن الله ضمن مشروعه الاسخاتولوجي أراد أن يختلف الإنسان عن باقي الخليقة وهذا يبدو واضحاً في سفر التكوين أن كل الأشياء الأخرى قد صارت بأمر واحد من الله. لتكن سماء، ليكن نور… ولكن عندما يصل إلى خلق الإنسان يقول الله :”لنصنعنّ الإنسان” وكأنه يتشاور مع أشخاص آخرين لهم نفس الكرامة الإلهية”[3]. طبعاً يرفض الذهبي الفم تحريف معنى الآية وأن يُفهم معنى صيغة الجمع أن الله يخاطب الملائكة، لأن سلطة الله كما يوضح الذهبي الفم “تختلف بالكلية عن تلك التي للملائكة الذين هم خدّام الله”.
صيغة الجمع تشير حصراً إلى أشخاص الثالوث القدوس الذي هو وحده فقط نموذج للصورة.
إن هذا الاهتمام الخاص لا يُقصد فقط في ترتيب الإنسان (كعالم صغير) أو أنه خلاصة الخليقة. بل تُستكمل في الكتاب المقدس (على صورتنا كمثالنا) أي أن الله أراده (إله صغير) داخل العالم. كما أن الله هو إله الكون هكذا يريد الإنسان أن يكون بالنسبة للأرض وللعالم المادي.
يشارك القديس باسيليوس الذهبي الفم رأيه في تمايز خلق الإنسان عن باقي المخلوقات، يقول القديس أنه في قول الكتاب المقدس “لنصنع الإنسان على صورتنا ومثالنا” نجد في الخلق نوعاً من المشورة يجريها الله مع آخرين وكأنه يريد معرفة كيف يُدخل في نظام وحياة هذا الكون الإنسان الجدير بكل اعتبار واحترام وهذا يدل على أن الإنسان هو في نظر الله الخليقة الأكثر كمالاً بين الخلائق كلها”[4].
يتابع القديس باسيليوس في عظته حول (أصل الإنسان): “إن الله قال لنصنع ولم يقل لأصنع ويتضح من هذا أن الثالوث كله اشترك في خلق الإنسان، وعندما قال الكتاب “وخلق الله الإنسان” دلّ بذلك على وحدة الألوهة رغم وجود ثلاثة أشخاص فهناك قوة فاعلة واحدة تجمع بينهم وتحملك إلى عبادة إله واحد لكنه في ثلاثة أقانيم”[5].
وحسب القديس بالاماس والدمشقي تفوّق البشر بالمقارنة مع الملائكة، فالإنسان حسب بالاماس هو على صورة الله أكثر من الملائكة لأن كيانه الروحي المرتبط بجسد يملك قوة مانحة للحياة التي بها تحيا الطبيعة الجسدية، فالملائكة أرواح لا جسد لها.
ويقول القديس يوحنا الدمشقي: “إن الملائكة لا تشترك في الطبيعة الإلهية، لكن فقط في القوة والنعمة، ولكن البشر يشتركون فيها، إنهم في شركة مع الطبيعة الإلهية، على الأقل، أولئك الذين هم في شركة جسد المسيح المقدس ودمه، إذ إن جسد المسيح المقدس ودمه متّحدان أقنومياً مع اللاهوت”[6].
الإنسان مخلوق على صورة الله:
“وقال الله لنعمل الإنسان على صورتنا ومثالنا” (تك1: 26).
“فخلق الله الإنسان على صورته، على صورته خلقه، ذكراً وأنثى خلقهم” (تك1: 27)
عند قراءة تحديدات الأباء حول الصورة الإلهية في الإنسان نجد تحديدات كثيرة ومتنوعة، حتى عند الأب الواحد نفسه نجد تحديدات مختلفة، إن تعدد هذه التحديدات وتنوعها يظهران لنا أن الآباء تجنَّبوا أن تُعزى صورة الله إلى جزء واحد من الإنسان، في هذا الصدد يقول القديس غريغوريوس النيصصي: “إن صورة الله بمقدار ما هي تامة هي بالضرورة غير قابلة لأن تٌعرف لأنها تعكس ملء نموذجها، الذي هو الله له المجد. فيجب أن تملك هذه الصفة، صفة غير القابلة لأن تُعرف وهذا هو السبب الذي من أجله يغدو مستحيلاً علينا أن نحدد ما يؤلف الصورة الإلهية في الإنسان”. إن الله مجهول لا يُدرك، الإنسان صورته، فهو إذاً مجهول لا يدرك. حتى رواية الكتاب المقدس نفسه لا تعطي أي إيضاح أو تحديد عن ماهية الصورة. ولكنها تعرض خلق الإنسان كفعل يختلف عن خلق الكائنات الأخرى.
إذاً خلق الإنسان له نكهة إلهية خاصة تمّيزه عن خلق بقية الكائنات، هذه النكهة أو المسحة هي طابع الصورة فيه. حتى أنه يختلف عن خلق الملائكة أنفسهم. إذ كما يقول القديس اسحق السرياني “أن الملائكة قد خُلقوا في صمت”. وهو يختلف عن خلق باقي الكائنات الأخرى التي خُلقت بكلمة أمر: ليكن نور.. ليكن جَلَد، ليكن… أما الإنسان حسب رواية الكتاب المقدس: “وجبل الرب الإله آدم تراباً من الأرض ونفخ في أنفه نسمة حياة فصار آدم نفساً حية” (تك2: 7).
إذاً الله نفسه جبل الإنسان بيديه اللذين هما حسب تعبير القديس إيريناوس الكلمة يسوع والروح القدس. ونفخ في أنفه نسمة الحياة ، حسب القديس غريغوريوس اللاهوتي هذه النسمة هي من روح الله، وهذه النعمة الإلهية الخاصة بالإنسان يسميهما جزءاً من الألوهة. أو تدفقاً من اللاهوت غير المنظور. أي الإنسان منذ خلقه يحمل الله في قلبه ويحافظ عليه حتى يستقر أخيراً هو في قلب الله.
ولكن كون الإنسان يملك جزءاً إلهياً فهذا لا يعني أنه قطعة من جوهر الله، الفرق بينه وبين الله أن الإله غير مخلوق أما الإنسان فموجود بالخلق.
إن الإنسان خُلق تاماً ولكن هذا لا يعني أن حالته الأولى تماثل حالته الأخيرة. أو أنه كان متحداً مع الله منذ لحظة خلقه. لقد خُلق الإنسان كي يصير إلهاً بالنعمة الإلهية وليس بالجهد البشري وحده. هذه هي غاية الإنسان الأخيرة أن “نصير شركاء الطبيعة الإلهية” (2بط1: 4). ومن هنا دعوة الإنسان أن يكون على المثال. هو مخلوق على الصورة ولكنه يسعى أن يكون على المثال، الصورة الإلهية هي المنطلق لتحقيق المثال، ومن هنا يقول القديس مكسيموس المعترف “كل طبيعة عاقلة هي صورة الله ولكن الذين على مثاله هم فقط أولئك الصالحون والحكماء”[7].
سوف أستعرض مافهمه بعض الآباء في كون الإنسان مخلوق على صورة الله:
البعض منهم رأى صورة الله في الإنسان في ملكيته على العالم. والبعض الآخر في طبيعته الروحية، في نفسه أو في الأساس أو المبدأ، أي في ذهنه (النوس) أو في الملكات العليا لديه: الفكر والعقل.
والبعض الآخر وجد صورة الله في الحرية الممنوحة له، في ملكة الاختيار الحر الداخلية. وأحياناً تعزى صورة الله في الإنسان إلى النفس البشرية أو إلى مقدرة الإنسان على معرفة الله أو إلى الحياة في شركة معه.
القديس يوحنا الذهبي الفم:
يشدد على أن المسيح هو صورة الله بحسب الجوهر، أما الإنسان فهو على صورة الله فقط من حيث السلطة. وليس تبعاً لجوهره. يقول الذهبي الفم: “الكتاب المقدس من بعد أن يذكر خلق الإنسان على (صورتنا كمثالنا) يتابع “ليتسلّط على….”. يُشدد الذهبي الفم، لم يقل (صورة الجوهر) بل (صورة السلطة) فقط.
من هنا يحصر الذهبي الفم صورة الله في الإنسان بالسلطة فقط مُستبعداً كل ما يمكن أن يفهم من الصورة أي شكل أو جوهر الله. ويتابع الذهبي الفم “إن فعل السلطة هذا يظهر في عقل الإنسان، في حرية الرأي والاختيار وفي المشيئة الحرة”.
ولكن الذهبي الفم لا يقصر الصورة على النفس فقط بل تظهر أيضاً في الجسم بكامله دون أن يترتب على ذلك أي إدراك بهيئة بشرية لله وذلك لأن الإنسان في تركيبه بشكل وحدة نفسية جسدانية، وفي أماكن أخرى كثيرة تُنسب الصورة عنده إلى كامل الإنسان.
عند الذهبي الفم صورة الله في الإنسان التي تبدو في السلطة لا تُفهم فقط من جهة واحدة كسيطرة خارجية على العالم فقط، وجهها الأهم هو في سيطرة الإنسان على نفسه وفي السلطة الداخلية التي كان يملكها آدم قبل السقوط. وبقدر ما يستعيدها من بعد السقوط بقدر ما يقتنيها أيضاً خارجياً. هذا ما حدث للقديسين مثل نوح – دانيال – بولس الرسول الذين لم تؤذهم الحيوانات المفترسة[8].
القديس باسيليوس الكبير:
في عظته عن (أصل الإنسان) يُقصي القديس أي فهم لقول الكتاب المقدس أننا مخلوقين على صورة الله أي فهم لمعنى (الصورة) التي عناها الله بأن تكون صورة جسدية.
“فالصورة الجسدية هي صورة إنسان يفنى وحاشا لله أن يُصوَّر ما هو غير فانٍ بصورة كائن فانٍ. وذلك أن الجسد ينمو ويذوب ويشيخ وينقص، فهو يمر في مراحل فناء مختلفة وفي حالات تغيّر متعددة والله ثابت إلى الأبد وصورته أيضاً لا تتغير ولا نزول أبداً”[9].
ويستند القديس باسيليوس إلى قول الكتاب المقدس بأن لنصنع الإنسان”على صورتنا.. ليتسلّط” فيعتبر أن هناك رابطاً محكماً بين صورة الله في الإنسان على الخلائق ويعتبر أن هذا التسلّط يكون بواسطة العقل.
“فجسد الإنسان هو أضعف من جسد الحيوان. ولا يقدر الإنسان التسلط على الحيوان بواسطة الجسد بل بواسطة العقل”.
ويؤكد القديس باسيليوس أن الرجل والمرأة كلاهما على صورة الله إذ “خلق الله الإنسان على صورته، على صورة الله خلقه ذكراً وأنثى خلقهم”. فالرجل والمرأة يتشابهان بالطبيعة، وبالفضيلة وبالمكافأة والقصاص، فلا تقل المرأة إني ضعيفة فالضعف هو ميزة الجسد، أما القوة فهي ميزة النفس، فالمرأة لم تأخذ من الرجل اللحم فقط بل أيضاً العظم. فهي أخذت إذاً من الرجل القوة، والصبر، شدة المراس”[10].
القديس يوحنا الدمشقي:
يقول القديس الدمشقي إن الإنسان قد خُلق على (صورة الله). وذلك بالنسبة إلى امتلاكه العقل وحرية الاختيار وإذا لم يوظِّف ويستخدم الإنسان الذهن والإرادة الحرة عندها لا يكون يستخدم ما هو فيه (على صورة الله)”.
ثم يستعرض القديس الدمشقي في أين تُقدّم صورة الله في الإنسان فيقول: “هي تبدو في المنطق، في العقل، في حرية الاختيار. وفي ولادة الكلمة من الذهن (النوس) وفي نور الروح (كشف)، وفي التسلّط”. ويتابع القديس الدمشقي أنه بالنسبة لهذه الملكات فإن الملائكة والبشر على حد سواء مخلوقين على “صورة الله” ولكن البشر يتفوقون على الملائكة الذين لا يلدوا. أن آدم قد ولد هابيل وخرجت من جنبه حواء، الذي هو حرّ بحسب الطبيعة (لأن النفس من طبيعتها أنها تستعبد الجسد وتسيطر عليه). وكذلك الإنسان هو يوحُّد كل الخليقة في ذاته وكون الإنسان على صورة الله. هذا ما جعل ابن الله، أن يصير إنساناً وليس ملاكاً[11].
القديس غريغوريوس بالاماس :
يرى القديس بالاماس على غرار مدرسة الإسكندرية أن المقصود بصورة الله في الإنسان هي العقل ، عقل الإنسان هو أسمى عنصر في طبيعته “لا مجال (على صورة الله) للجسد، بل لطبيعة العقل ولا شيء حسب الطبيعة أسمى منه، فإذا كان في الإنسان شيء سام حسب الطبيعة فهو على صورة الله”[12]. ولكن القديس بالاماس يوسِّع مفهوم صورة الله في الإنسان لتشمل الإنسان روحياً وجسدياً، إذ لا يعتبر القديس بالاماس (كما تعليم التقليد الأرثوذكسي أيضاً) أن النفس أسيرة للجسد (كما النظرة الأفلاطونية). حتى أنه يعتبر أن البشر يفوقون الملائكة من حيث الصورة ولكن دونهم من حيث المثال لأنه يعتبر أن صورة الثالوث القدوس تظهر في الإنسان وليس في الملائكة. يقول:
“الملائكة هم مخلوقون على صورة الله، لهم عقل وكلمة وروح، بيد أن الملائكة لا تملك قوة محيية، لأنهم ليسوا مرتبطين بأجساد أرضية لذلك هم دون روح الإنسان”[13].
ويرى القديس أيضاً تفوق الإنسان على الملائكة في السلطة التي شدَّد عليها اللاهوتيون الإنطاكيون. واعتبار الإنسان (كعالم صغير)، أنه هو خلاصة وزينة الخليقة المنظورة وغير المنظورة.
ويجد القديس بالاماس في الحرية أيضاً عنصر من عناصر صورة الله في الإنسان ويعتبرها ميزة عظيمة للإنسان المخلوق على صورة الله ويضعها وسيلة للشركة مع الله وبالمقابل هي وسيلة للقطيعة عنه، هي مصدر الخير ومصدر الشر معاً:
“إن الإنسان امتلك الأبدية في الجنة بمشاركته في الحياة الإلهية، إذ أن الله فقط يملك الأبدية، ولقد كان في صُلب تدبير الله أن يكون مصير الإنسان أبدية كهذه. أما نيران الجحيم فقد وُضعت للشيطان لا للإنسان، وإنما بملء حريتهم يختارون أن يسكنوا هناك في الجحيم مع الشياطين”[14].
الإنسان على صورة الله الثالوث :
إن الإنسان مخلوق على صورة الله الثالوث. أي صورة الله في الإنسان هي صورة ثالوثية. من هنا يرى القديس بالاماس أن الإنسان المخلوق على صورة الله يرمز إلى الثالوث القدوس “كما أن الإله الواحد هو ذاته مثلث، أي عقل وكلمة وروح. كذلك الإنسان المخلوق على صورة الله، هو وحدة عقل وكلمة وروح، لأنه من عقل الإنسان تولد الكلمة وينبعث الروح. كما يولد الابن من الآب وينبثق الروح القدس منه”[15].
وكون الإنسان هو على صورة الله الثالوث هذا يعني أن لديه القدرة على إنشاء علاقة ليس مع الله فقط، بل مع الناس الآخرين على غرار الأشخاص الإلهيين الثلاثة، الآب والابن والروح القدس. وكما يحيا كل واحد منهم في الآخر ومن أجل الآخر، هكذا هو الإنسان – كونه مخلوق على الصورة الإلهية – يصبح شخصاً حقيقياً عن طريق الشركة والإحساس مع الآخرين.
إن محبة الآخر هي أيقونة لمحبة الثالوث. ومحبتنا للثالوث هي أيقونة للمحبة الإلهية بين الثالوث القدوس.
الصورة الإلهية هي في كامل الإنسانية :
كون الإنسان مخلوق على صورة الله، هذا يعني أن الطبيعة البشرية مخلوقة على صورة الله وهي تحمل المثال الإلهي، فالقوة الإلهية الممنوحة لشخص آدم تنتمي إلى كامل الإنسانية. وكل شخص في سلالة آدم هو على صورة الله، وتكاثر الأشخاص البشرية في سلالة آدم لا يتعارض مع وحدة الطبيعة البشرية الكيانية. يقول القديس غريغوريوس النيصصي بهذا الصدد: “إن اسم آدم لم يكن قد أُعطي بعد للإنسان… فالإنسان المخلوق لا يملك اسماً خاصاً. ولكنه إنسان كوني. ولذلك فهذه التسمية العامة للطبيعة البشرية تعني لنا أن نفهم أن الله، بفضل سيطرته وقدرته، قد ضمَّن كل الإنسانية في هذه الخليقة الأولى، إذ إن الصورة ليست في جزء من الطبيعة. كما أن النعمة ليست في فرد واحد بين أولئك الذين تتعلق بهم، فهذه القوة تمتد إلى كامل السلالة البشرية، وبهذا المفهوم لا يوجد فرق بين الإنسان المخلوق في الخلق الأول للعالم، وبين ذلك الذين سيكون في نهاية كل الأشياء، فكلاهما سيحملان نفس الصورة الإلهية“[16].
ولكي يحقق الإنسان مثال الصورة يجب أن يعيش كشخص وليس كفرد كون الصورة الإلهية في الإنسان صورة ثالوثية. والثالوث أشخاص إلهية غير مخلوقة وخالقة وبما أن أشخاص الثالوث ليسوا أجزاءاً من الله، لأن الله كلٌّ لا يتجزأ وكذلك أيضاً الشخص البشري ليس جزءاً من الإنسانية ولا يحوي جزءاً من الطبيعة البشرية. بل كل شخص على صورة الثالوث يملك كامل الطبيعة البشرية. ولهذا حسب رأي بعض الآباء صورة الله تنتمي إلى كامل الإنسان. ليس إلى جزء من أجزائه لأن الفرد يملك جزءاً من الطبيعة ويسميها طبيعته الخاصة أو (أناه) بينما الشخص يملك الكل لا الجزء. يحوز كامل الطبيعة لا قسماً منها وبالتالي يتحرر من طبيعته ورغباته الفردية ويلتقي مع الآخر. يقول القديس أبيفانيوس: على كلٍّ لا يجب أن نحدد في أي قسم يكون الإنسان على صورة الله، بل أن نعترف أن الصورة هي في الانسان، فـ (صورة الله) لا تنحصر في نقطة إيجابية ولا تأخذ مداها في عنصر معين من الطبيعة البشرية، بل يعبِّر عنها كما في انعكاس موشوري من خلال الوجود البشري”[17].
الإنسان على صورة الله ومثاله :
عندما خلق الله الإنسان قال: “فلنصنعنَّ الإنسان على صورتنا ومثالنا”. وكلمة مثال المستعملة في الترجمة السبعينية، تعبر عن شيء بالقدرة ما انتهى بعد. بينما تعبر كلمة صورة عن حالة انتهت وتؤخذ في هذه الحالة كمنطلق لتحقيق المثال. هناك العديد من المفسِّرين لا يقبلون بهذا التمييز بين التعبيرين، مستندين إلى النص العبراني الأصلي حيث تعني كلمة (تشالم) ما تعنيه كلمة (دموث) إذ كلمة الصورة والمثال مترادفتان في الأصل العبراني[18].
ولكن عند الآباء عامة يظهر التمييز بين الصورة والمثال. فمثلاً عند الذهبي الفم لا يتماهى المعنيان ويقوم بتمييز دقيق بين الصورة التي هي الحسن (البهاء) الأول. وهي هبة ممنوحة من الله للبشر وتظهر في كون الإنسان يملك ميل نحو النموذج – أي الله – أما المثال فيكون الحركة نحو النموذج من خلال الفضيلة. بالتالي يميّز الذهبي الفم الصورة (كقوة المثال) و المثال بأنه (فعل الصورة). يعطي الذهبي الفم مثالاً “كما يموت الجسد حين تهجره النفس هكذا أيضاً النفس تموت عندما لا تعود مسكناً لفعل الروح القدس. وهكذا عندما يتوقف الإنسان أن يكون مُقتبلاً لفعل الروح القدس والذي يُمتلك بواسطة عمل الفضيلة حينها يضيع المثال. وينتقل الإنسان من دائرة الإنسان الروحاني أي أن يكون (على صورة الله ومثاله) إلى دائرة المخلوقات غير العاقلة”[19].
الذهبي الفم لا يقدِّم الروح في الصورة ولكنه يفترضها في المثال، المثال هو شركة مع الروح القدس وقطع الشركة معه هو موت النفس وتظلم صورة الله في الإنسان. إذاً عندما يغيب الروح القدس تُفقد السلطة الداخلية ونتيجة لذلك السلطة الخارجية أيضاً وتتحول السلطة إلى عبودية. لأنه فقط “حيث روح الرب هناك الحرية” (2كو3: 17).
وهذا التمييز أيضاً نلحظه عند القديس باسيليوس الكبير: “نحن نحوز على صورة الله بقوة الخلق، ونحوز على مثال الله بقوة الإرادة. ويعني ذلك أن الإنسان يوجد طبيعياً على صورة الله أما التمثُّل به والتشبه بصفاته فلا يتم إلا بقوة الإرادة”[20].
عند القديس باسيليوس نصل إلى التشبه بالله بأن نعيش الآية ” كونوا كاملين كما أن أباكم السماوي هو كامل” فالإنسان عندما يحب قريبه ويرحم اخوته ويغفر لأعدائه حينئذٍ (يتشبَّه بالله).
القديس يوحنا الدمشقي: يميّز بين الصورة والمثال: “الإنسان هو الوحيد بين المخلوقات (على صورة الله) وعلى (مثاله).
على صورة الله تقال لكل إنسان بالنسبة للاستحقاق الشرفي أن يملك ذهن ونفس وحرية اختيار وأيضاً في كونه سيِّد ويلد أولاداً ويبني”، أما على المثال تقال بالاتفاق مع الفضائل والأعمال التي يقدمونها ويشكّلون فيه مشابهة لله، أي تقديم الإنسان محبة نحو اخوته في الإنسانية وأن يرحم ويحبَّ شركائه في الطبيعة ويصنع شفقة ورأفة تجاه الآخرين، لأن السيد يقول “كونوا رحومين كما أنا أباكم السماوي هو رحيم “.على الصورة يملكها كل إنسان بالطبع. أما على المثال فيملكونها قلّة وفقط الصالحين الذين يعيشون في الفضيلة والقديسين بقدر ما يشابهون الله بمقدار ما يتحقق صلاح الله فيهم”[21].
والقديس غريغوريوس بالاماس رغم كونه لا يصر كثيراً على التفريق بين الصورة والمثال في كتاباته يقول:
“على صورة الله ملك عام لكل البشر بينما المثال قدرة” “وكل إنسان مخلوق على صورة الله وربما على مثاله”[22].
وأيضاً في هذا الصدد يقول القديس مكسيموس المعترف : “كل طبيعة عاقلة هي صورة الله، ولكن الذين على مثاله هم فقط أولئك الصالحون والحكماء”[23].
إذا الصورة هي ختم إلهي مطبوع في كل واحد منا، ولكن مأساة الإنسان يكمن في ابتعاد الصورة عن المثال، وبالتالي خلاص الإنسان يتم بإعادة انطباق الصورة على المثال أي بلوغه قامة المسيح. والإنسان مُهيأ منذ لحظة خلقه ليقترب من مثله الأعلى من خالقه، كي يتأله به وهو مدعو لذلك، والحياة الروحية ما هي إلا سعي متواصل وجهاد دائم وحركة دائبة لرفع الصورة إلى المثال، الصورة هي ما يملكه الإنسان منذ البدء والذي يمكّنه من الانطلاق قُدماً في الطريق الروحي. وأما المثال فهو ما يرجو الإنسان تحقيقه في نهاية رحلته ومسعاه. أن يصير “شريك الطبيعة الإلهية” (2بط1: 4).
تحقيق المثال:
إن آدم لم يتمم الدعوة ولم يبلغ الاتحاد بالله وصار مُستعبداً من بعد السقوط للقوى الخارجية ومنذ سقوطه حتى يوم العنصرة (حلول الروح القدس) بقيت القوة الإلهية غريبة عن الطبيعة البشرية. ولكن خطيئة آدم لم تغيِّر المخطط الإلهي ولم تلغِ تصميم الله، إن دعوة آدم الأول قد حققها المسيح آدم الثاني بالتجسد. “إذ قد صار الله إنسانا ليصير الإنسان إلهاً”
التجسُّد فتح مرة أخرى أمام الإنسان باب التأله والذي أصبح هو هدف الإنسان وغايته الأخيرة. وهو يتطلب مشاركة بين إرادة الإنسان الحرة ونعمة الله الغير مخلوقة.
وهناك وسائل تساعد الإنسان على تحقيق المثال منها عيش الفضيلة. والقديس بالاماس يرى في الأسرار المقدسة سُبل مخلوقة تهب نعمة الله الغير مخلوقة وتُعتبر كواسطة لتأله الإنسان الذي هو غاية حياته. إن سري الشكر والمعمودية هما السران الأساسيان في نظر بالاماس: “بهذين السرين يتعلق الخلاص. كل التدبير الإلهي يتعلق بهما”[24]. من دون أن يرفض أو يقلل من أهمية الأسرار الأخرى.
في سرّ المعمودية يتم “تجديد إمكانية تحقيق المثال”. إن سر الشكر يفترض المعمودية. المعمودية تُعطى للإنسان لتجدده وتؤهله إلى الشركة في جسد ودم المسيح. المعمودية تهب الإنسان نقاوة الصورة والمثال بالمسيح مبدئياً. أما سر الشكر فيعمل على امتداد المثال والاتحاد الكامل بالمسيح. ويرى القديس بالاماس أن هذا يتحقق ضمن الكنيسة “فالكنيسة هي شركة تأله، وهدفها هو تأله أعضائها”. وهذا التأله يجب أن يقتضي عمل مشترك بين الإنسان ونعمة الله لأنه “بدون فعل الله فينا كل ما نفعله خطيئة”.
الإنسان أيقونة الله، وهو مدعو أن يكون بالنعمة، ما المسيح عليه بالطبيعة. هذه الدعوة كانت له منذ البدء، لمَّا أعطي الإمكانية أي الصورة الإلهية للانطلاق نحو تحقيق المثال. وهذا يتطلب ديناميكية نحو الله، وتآزر للنعمة مع الأعمال. التجسد الإلهي قد أعاد لنا الإمكانية لتحقيق المثال. بعد أن أجَّل الله مخططه الإلهي بسبب السقوط دون أن يلغيه. وذلك في شخص آدم الجديد المسيح. لأنه “كما بمعصية الإنسان الواحد جعل الكثيرون خطاة هكذا أيضاً بإطاعة الواحد سيُجعل الكثيرون أبراراً” (رومية5: 19)
إن محبة الله هي وراء خلقه للإنسان على صورة الله ومثاله وهي أيضاً تعبير عن عظمة الخالق. يقول اللاهوتي الأرثوذكسي فلاديمير لوسكي:
(إن المخاطرة الإلهية المتأصلة في قرار خلق كائنات على صورة الله ومثاله هي ذروة القوة الكلية القدرة)[25].
الطالب [*] رومانوس داود
أسقف البرازيل حالياً
المراجع
1- طرابلس، عدنان(الدكتور)، الرؤية الأرثوذكسية للإنسان، منشورات النور، 1989.
2- لوسكي، فلاديمير، بحث في اللاهوت الصوفي لكنيسة المشرق، تعريب نقولا أبو مراد، منشورات النور، 2000.
3- القديس باسيليوس الكبير – حياته، أبحاث عنه. مواعظه، جمعه الأب الياس كويتر المخلّصي، سلسلة الفكر المسيحي بين الأمس واليوم، جز 12، منشورات المكتبة البوليسية، 1989.
4- الصورة الإلهية في الإنسان لدى القديس غريغوريوس بالاماس ، ترجمة وتعليق البطريرك الياس الرابع، المنشورات الأرثوذكسية 1986.
5-Yazigi, Pauloj (ierod), Escatologia Kai Hqikh (kata ton agion iwannh ton crusostomo), qes/nikh, 1992.
6- Ι.Δαμασκηνου, περι των χριστω δυο θεληματων, Ε.Π.Ε,5, πατερικοι εκδοσει;, θεσσ/Νικη, 1991.
[1] -طرابلسي، عدنان(الدكتور)، الرؤية الأرثوذكسية للإنسان، منشورات النور، 1989، ص127.
[2] -لوسكي، فلاديمير، بحث في اللاهوت الصوفي لكنيسة المشرق، تعريب نقولا أبو مراد، منشورات النور، 2000، ص96.
[3] -Yazigi, Pauloj(ierod), Escatologia Kai Hqikh (kata ton agion iwannh ton crusostomo), qes/nikh, 1992, s.40.
[4] -القديس باسيليوس الكبير-حياته، أبحاث عنه، مواعظه، جمعه الأب الياس كويتر المخلّص، سلسلة الفكر المسيحي بين الأمس واليوم، ج12، منشورات المكتبة البولسية، 1989، ص323.
[5] – المرجع ذاته، ص323.
[6] -طرابلسي، عدنان(الدكتور)، المرجع السابق، ص115.
[7] -طرابلسي، عدنان(الدكتور)، المرجع السابق، ص104.
[8] Yazigi, Pauloj(ierod), Escatologia Kai Hqikh, Op, cit. P.41-42.,
[9] -القديس باسيليوس الكبير، المرجع ذاته، ص324.
[10] -المرجع ذاته، ص 325.
[11] -Ι.Δαμασκηνου, περι των χριστω δυο θεληματων,Ε.Π.Ε,5, πατερικοι εκδοσει;, θεσσ/Νικη,1991,σ73.
[12] -الصورة الإلهية في الإنسان لدى القديس غريغوريوس بالاماس، ترجمة وتعليق البطريرك الياس الرابع، المنشورات الأرثوذكسية، 1986، ص12.
[13] – المرجع ذاته، ص13.
[14] -طرابلسي، عدنان(الدكتور)، المرجع السابق، ص 110.
[15] -الصورة الإلهية في الإنسان لدى القديس غريغوريوس بالاماس، المرجع ذاته، ص 12.
[16] -المرجع ذاته، ص120.
[17] -الصورة الإلهية في الإنسان لدى القديس غريغوريوس بالاماس، المرجع السابق، ص 11.
[18] -المرجع ذاته، ص15.
[19] -Yazigi, Pauloj (ierod), Escatologia Kai Hqikh, op, cit. P.44-45.
[20] -القديس باسيليوس الكبير، المرجع السابق، ص 325.
[21] -Ι.Δαμασκηνου, περι αρετων και κακιων, Ε.Π.Ε,8, πατερικοι εκδοσει, θεσσ/Νικη, 1991, σ.495-497.
[22]] -الصورة الإلهية في الإنسان لدى القديس غريغوريوس بالاماس، المرجع السابق، ص 15.
[23] -طرابلسي، عدنان(الدكتور)، المرجع السابق، ص 104.
[24] -الصورة الإلهية في الإنسان لدى القديس غريغوريوس بالاماس، المرجع السابق، ص 33.
[25] -طرابلسي، عدنان(الدكتور)، المرجع السابق، ص 126.
[*] هذه الصفحة، قد أعطانا إياها سيادته عندما كان شماساً وأخبرنا أنها كانت من أعماله أثناء الدراسة في البلمند. ولم نسأل سيادته حينها عن تاريخها وفي أي سنة كان يدرس.
وقد وضعنا لقب “الطالب” قبل اسم سيادة الأسقف، لكي ننوه إلى أن هذه الدراسة لم يكتبها كأسقفاً بل كطالباً في البلمند. وسيادته الآن يحمل شهادة الدكتوراه في اللاهوت من اليونان… (الشبكة)