القداسة

يبين العهد القديم أن الله هو القدوس وحده. ولفظ “قدوس” يعني “الذي ليس كمثله شيء” من بين المخلوقات كلها. لقد أعطي شعب الله في العهد القديم أن يعاينوا مجد الله في ظهوراته المتعددة، وأن يسمعوا صوته. هذا هو حال موسى على جبل حوريب عندما ناداه الله من وسط العليقى المتوقدة غير المحترقة قائلا له: “اخلع نعليك من رجليك فإن الموضع الذي انت قائم فيه ارض مقدسة” (خروج 3: 2-6). ويروي العهد القديم ايضا العديد من الاخبار عن ظهورات الرب لابراهيم واسحق ويعقوب وايليا وحزقيال، ومشهورة هي الرؤية التي شاهدها اشعيا النبي والمتمثلة بالملائكة الذين ينشدون: “قدوس قدوس قدوس رب الجنود، الارض كلها مملوءة من مجده” (1-8). وهذه الرؤية تحتل اليوم مركزا اساسيا في العبادات المسيحية. والمزامير تنشد قداسة الله “تباهوا باسمه القدوس” (مزامير 104: 3)…

التعليم الأساسي الذي يأتي به العهد القديم هو أن شعب الله عليه أن يكون كإلهه، اي شعب قديسين، شعبا ليس كسائر شعوب الارض: “اني انا الرب إلهكم، فتقدسوا وكونوا قديسين فاني انا قدوس… لاني انا الرب الذي أخرجكم من ارض مصر لأكون لكم إلها، فكونوا قديسين لأني انا قدوس” (الاحبار 11: 44-45). هذه الدعوة الى القداسة نجدها ايضا في كل كتب العهد القديم، وبخاصة في كتب الحكمة والأنبياء، فشعب الله مدعو لعيش الحكمة والقداسة ومخافة الله. في مفهوم العهد القديم اذاً، البلوغ الى قداسة الله هو هدف الحياة الوحيد ومعناها.

بمجيء يسوع المسيح تحققت القداسة في ملئها، فالمسيح وحده مَن حقق الأنبياء والشريعة، وهو وحده “قدوس الله”: “فأجاب الملاك وقال لها إن الروح القدس يحل عليكِ وقوة العلي تظللك، ولذلك فالمولود منك يدعى ابن الله” (لوقا 1: 35)، وقداسة يسوع الذي بقي بريئا من كل خطيئة وفساد انما كانت في رأس الحجج التي اوردها بطرس الرسول في خطبته الثانية بعد العنصرة، حيث يقول: “فأنكرتم انتم القدوس الصدّيق وسألتم أن يوهب لكم رجل قاتل” (اعمال الرسل 3: 14). ويأتي بولس الرسول بعده ليؤكد أن المسيح ليس حكيما وبارا وقدوسا وفاديا وحسب بل هو قد “صار لنا من الله حكمة وبرا وقداسة وفداء” (1 كورنثوس 1: 30)، اي أن المسيح نفسه هو القداسة متجسدة.

هذه القداسة المحققة في السيد المسيح، كل انسان مدعو الى أن يحققها في سيرته وأعماله: “بل على مثال القدوس الذي دعاكم، كونوا انتم ايضا قديسين في تصرفكم كله، فإنه كُتب كونوا قديسين فإني ايضا قدوس” (1 بطرس 1: 15-16). والرسول نفسه يقول في موضع آخر قبل أن يعدد الفضائل المسيحية من العفاف والصبر والتقوى الى المودة الأخوية والمحبة: “اذ قد وَهبت لنا قوته الإلهية كلَّ ما يؤول الى الحياة والتقوى بمعرفة الذي دعانا بمجده وفضيلته وبه وهبت لنا المواعد العظيمة الثمينة لكي تصيروا بها شركاء في الطبيعة الإلهية هاربين من الفساد الذي هو في العالم من الشهوة” (2 بطرس 1: 3-4). بالمسيح متجسدا وبموهبة الروح القدس، أعطي كل انسان أن يشارك في مجد الله، وبحسب الرسول أن يشارك في الطبيعة الإلهية نفسها. ما القداسة الا أن يصير الانسان بالنعمة إلهاً كما صار ابن الله بالحقيقة إنسانا، على ما ورد عند غير أب من آباء الكنيسة. ما كان ينتظره أبرار العهد القديم من مشاركة في قداسة الله قد أتاحه تجسد المسيح للبشر جميعا.

المشاركة في الطبيعة الإلهية تحصل منذ اليوم في الكنيسة في تذوُّق مسبق للملكوت السماوي، وذلك في القداس الإلهي الذي هو مملكة الآب والابن والروح القدس. هذه المشاركة ما كانت لتتم لولا رحمة الله الواسعة ومحبته للبشر، فكيف يمكن الانسان أن يقترب من غير المقترَب اليه لولا رحمة الله الواسعة؟ ملكوت الله، الذي هو “ليس أكلا ولا شربا بل هو بر وسلام وفرح في الروح القدس” (رومية 14: 17)، حاضر في الكنيسة، حيث الصلاة مستمرة بأصوات تسبح الله القدوس، الذي سوف يملأ الكل ويرث الارض الى الابد عندما يأتي المسيح ثانية في مجده ليملك الى ما لا نهاية مع أحبائه.

المسيح سوف يأتي، وصلاة الكنيسة ترجو هذا المجيء سريعا “تعال ايها الرب يسوع” (رؤيا 22: 20) حتى يبطل كل فساد وكل خطيئة. وباب التوبة ما زال مفتوحا أمامنا لننضم الى مواكب القديسين الذين سبقونا في الجهاد وإتمام السعي. وفي هذا ينذر كاتب سفر الرؤيا: “من يظلم فليظلم بعد، ومن هو نجس فليتنجس بعد، ومن هو بار فليتبرر بعد، ومن هو قديس فليتقدس بعد. هآ أنذا آت سريعا وجزائي معي لأكافئ كل واحد على حسب أعماله” (22: 11-12). الوقت ضيق والعمل كثير، فالى العمل سريعا.

عن نشرة رعيتي 1998

انتقل إلى أعلى