شفاعة القديسين وشفاعة المسيح

* القداسة هي الهدف:

المسيحي، إذاً، هو من يسلك درب القداسة في شركة الأخوة. ليس من أحد يفهم إلا على قدر ما يتقدس. ليس الفهم بالدماغ، إنه بالروح القدس إذا حلّ عليك. دماغك لا يقدّم في هذا ولا يؤخر، هو يفسّر لك بعض الأمور ويوضحها، والتوضيح والتفسير هما فقط لتنظيم الأشياء وترتيبها ولا يخلقان فاعلية إلهية. كما أنه إذا شرحت أمامكم لوحة فنية فمجرد الشرح لا يخلق عندكم شعوراً بالجمال ما لم يكن فيكم حس الجمال. ليست القضية بالشرح، والحياة المسيحية ليست بالمحاضرات ولكنها أن ينزل الله عليك أولا ينزل. القضية قضية نعمة إلهية تأتي على الإنسان وعلى قدر قداسته يفهم. ولكون الإنسان لا يستطيع أن يتقدّس لوحده وجب عليه أن يحب لكى يتقدس – فالذي لا يحب ليس عنده شيء – وعليه أن يعيش مع الجماعة في خدمة عملية. وعلى قدر ما يتساند والجماعة هذه، كلهم بعضهم مع بعض، يصبحون إنساناً واحداً أي يصبحون المسيح. إذا أحبت هذه الجماعة الموجودة هنا بعضها بعضاً حقيقة وفي الأعماق، وإذا تطهّر كل واحد فيها من شهواته، تصبح هي المسيح، وبالتالي، قادرة على الفهم لأن المسيح يفهم.

العملية الأرثوذكسية هكذا تكون: “لنحب بعضنا بعضاً لكي، بعزم متفق، نعترف مقرين بآب وابن وروح قدس…”. المحبة شرط المعرفة ومفتاح المعرفة. ولذلك أن أتعاطى شهواتي المختلفة، والبغض والحقد والحسد والإغراء وما إلى ذلك وأن أذهب بعد ذلك لأقوم بإجتماع دينى فهذا غير ممكن، ذلك أن الناس الذين هم على شيء من البصيرة يدركون أن كلامي مكرر، مجتر وأنه مجرد نقل عن الكتب ولم يصدر من داخلي ويمر في عظامي كلها لأنني ما زلت محافظاً على شهواتي وبالتالي لا يمكنني أن أتكلّم ولا أن أخدم. ولذلك السؤال: لماذا المسيحيون متقاعسون ومتكاسلون؟. جوابه: لأنهم لا يحبون الله ولأن خطاياهم تمنعهم من النشاط. لا يوجد تفسير ثانٍ. وليس في الأرثوذكسية غير هذا التفسير الوجودي.

إذاً فهذه الشركة وهذه المعية تقويان بالمحبة اليومية العملية.

*معية القديسين:

إن المشاركة بين المؤمنين، بالروح القدس الواحد فيهم، لا يقطعها الموت.” المحبة أقوى من الموت” (نشيد الأنشاد). وما سمّي شركة القديسين، ونترجمه هنا معيّة القديسين – والمعيّة كلمة عربية جميلة جداً لا ترادفها كلمة في أيّة لغة، وهي تعني هنا القديسين الذين على الأرض والقديسين الذين في السماء، بحيث أن الرسول بولس يسمى المسيحيين، هنا على الأرض، قديسين، وحيث أن القديس هو الذ خُصّص لمسيح وكُرّس له، والقديس ليس هو البطل، فالمسيحية ليس فيها ما يسمّى بطولة- هذه المعيّة تعني أن ثمّة عُرى لا تنفصم بين الذين هم على الأرض والذين إنتقلوا إلى الله. إن البروستانتية، حين ألغت ذكر القديسين الممجدين، حرمت نفسها من كنز لا يثمن. حرمت نفسها من أن تبقى واحدة مع المواكب، مع هذه الأجيال البارة التي سبقتنا. لأنه إذا كان المسيح واحداً، إذا كان المسيح غالباً الموت فغلبته تفعل الآن وإلا فليست شيئاً. إذا قلنا أننا كلنا أموات ونفنى في القبور وأن المسيح سوف يعيدنا إليه فقط في اليوم الأخير فهذا القول يعني أن ثمة فجوة بين قيامة المخلص واليوم الأخير وأن هذه الفجوة لا يسدها أحد.

خطأ البروستانتية الأساسي أنها لا تعرف الشركة. هي تعرف أن الإنسان مع ربه فقط. ولكن حقيقة الإنسان أنه مع الإنسان الآخر والله بينهما جامع. ليس صحيحاً أني أنا مع الله لوحدى. أنا معكم وكلنا، بعضنا بع بعض، مع الله. هذه هي الإنسانية، هذا هو جسد المسيح. المسيح هو في الذين يحبونه، هؤلاء أعضاء لا ينفصل بعضها عن البعض الآخر. والله الآب هو أبو هذه العائلة والمسيح يشكلها والروح القدس مبثوث فيه. هذه حقيقة الإنجيل. فإذا كان المسيح قد قام حقاً فهو، من الآن، مُهيمن على هذه الجماعة؛ أي أن قيامته، إنقاذه الإنسان من الخطيئة والفساد، هذه القيامة فاعلة وإلا فمعنى هذا أن اليوم الأخير مفصول عن القيامة وكأن المسيح ذكرى نلهج به. أي أن ثمة هوة هائلة بين المجيء الأول والمجيء الثاني إذا لم يكن هناك قديسون، إذا لم يوجد أناس موصولون بعضهم مع بعض. الكنيسة، بالتالي، في جانب من جوانبها، هي هذه الموصولية بين المجيء الأول والمجيء الثاني، وهتذه الموصولية تمثلها الكأس المقدسة عندما نضع فيها أجزاء الأحياء والأموات، بعد مناولة المؤمنين، فتمتزج الأعضاء الحية، أي الأحياء العائشون هنا، والأعضاء الذين انتقلوا إلى الله، الذين ذُكروا، والقديسون ممثلين بتسع طغمات عن يسار الحمل، ووالدة الإله التي هي عن يمين الجوهرة في الصينية. يتحد هؤلاء بالدم الإلهي. هذا يعنى أن دم المسيح الذي سُكب انبث في الدنيا ويجمع الأحياء والأموات، يجمع الذين مُجدوا في قداسة معلنة والذين انتقلوا ولم يُمجّدوا في قداسة معلنة ولكنهم يساهمون في حياة الله والذين، هم على الأرض، يسعون سعياً. هؤلاء كلهم مربطون بعضهم مع بعض بدم الحمل الإلهي وهم معيّة.

ولذا فالإنسان ليس هو، فقط، ابن اليوم. الإنسان مسنود. أنا موصول، منذ ألفي سنة، بأناس سبقونى، بهذه المواكب التي تتعاقب بالشهادة والدم والأسقفية والذبيحة المستمرة.

* شفاعة القديسين :

من أجل هذا فالدعاء للقديسين – وهو ما يسمّمونه الشفاعة وهو، هنا، بمعنى الصلاة – هو نتيجة منطقية لكونهم: [ وَلَيْسَ هُوَ إِلَهَ أَمْوَاتٍ بَلْ إِلَهُ أَحْيَاءٍ لأَنَّ الْجَمِيعَ عِنْدَهُ أَحْيَاءٌ ] [ لوقا 20: 38 ]. ويقول صاحب نشيد الأنشاد: [ أَنَا نَائِمَةٌ وَقَلْبِي مُسْتَيْقِظٌ ] [ نشيد الأنشاد 5: 2 ]. إذاًن فهؤلاء النائمون في القبور ليسوا أمواتاً، قلوبهم يقظة. وإذا أردتم تمييزاً فلسفياً بين النفس والجسد، فنفوس هؤلاء، منذ الآن، قائمة من الموت. نفوسهم قائمة بفعل المسيح وأجسادهم منحلة وهذه المقبرة ختمناها بالماء المقدس فأشرنا بهذه الطريقة الرمزية إلى أنها استهلال للقيامة، إنها بدء، إنتظار. هذا الانتظار هو تطلّع على ما سوف يكون.

ولكن عندنا، هنا، أمران: عندنا – وهذا رأي أرثوذكسي وليس عقيدة – أن بعض الأجساد لا تفنى ولكن تبقى طرية، مثال على ذلك: المطران صدقة الموضوع في دير مارإلياس – شوبا، وقد توفي منذ ما يقرب من مئة وخمسين سنة ولم يزل اللحم على جسده وكذلك شعره. عن حالة كهذه يقول سمعان اللاهوتي الحديث انها حالة وسط وأن ثمة إنتظار لملكوت السماوات بحيث أن الجسد لا ينحل ويبقى في حالة وسطى للدلالة على أن هذه الأجساد سوف تبعث. وبصرف النظر عن هذا الرأي المعمول به ليس في كل الكنيسة بل في بعضها -مثل الكنيسة الروسية التي تاخذ به كلياً- بصرف النظر عن هذا الرأي  ثمة أمر آخر مهم هو بقايا رفات القديسين وبقايا الشهداء محفوظة في الكنيسة وتوضعه في الأنديمنسي وفي المائدة المقدسة، أيضاً، عندما تُبنى، للدلالة على أن هذه الأجساد سوف تقوم وأن الروح القدس يحضنها.

المهم هنا اننا نؤكد هذه المعية بكل هذه الرموز والأعمال، تؤكد هذه المعية الواحدة بيننا وبين الذين ذهبوا، نؤكد ان الروح القدس الواحد يجمع بينهم وبيننا.

ولهذا فالموقف الأرثوذكسي في إستشفاع العذراء والقديسين، أي طلب دعائهم لنا، الموقف الأرثوذكسي في ذلك ليس أنهم جسر يوصلنا إلى الله – ذلك أن الله أقرب إلينا مما هم إلينا، وهذا التصوير أن الله بعيد وأنهم هم يقربوننا إليه تصوير خاطئ – إنما هو أنهم هم معنا في صلاة واحدة. والقضية هي فقط قضية ناس مرتبين حول عرش الله. ويمكننا القول أن الذين سبقونا إلى المجد الإلهي انتهى جهادهم، أكملوا الجهاد الحسن. من هذه الناحية هم ثبتوا في سكون الله. نحسبهم كذلك بحيث أننا نعتبر أنفسنا خطأة وأننا ما زلنا في الجهاد فيما هم أكملوا الجهاد. ولا يختلف موقف الإستشفاع هذا عن أي طلب شفاعة. فمثلاً، عندما يقدّم أحدنا تقدمة للكنيسة في عيد قديس ما يطلب إلى الكاهن أن يذكر له اسمه. فطلب الشفاعة باسم هذا القتديس وذاك يكون من باب أن طلبة البار تقتدر كثيراً في فعلها. البار يصلي، طبعاً في الكنيسة، ولست أتكلم عن الصلاة الطقسية التي يرأسها الكاهن من حيث الوظيفة، ولكني اتكلم عن الدعاء الخاص الذي نطلب فيه شفاعة الأبرار. من هذه الناحية نحن نطلب شفاعة الأولين هؤلاء الذين ينتمون إلى الصف الأول من هذه الصفوف التي، في النهاية، تتحلق كلها حول السيد المسيح.

* يسوع المسيح الشفيع الوحيد :

من هنا أنه يصبح سطحياً هذا السؤال: لماذا نصلّى طلباً لشفاعة مريم العذراء عند الله في حتين أن الشفيع الوحيد عند الله هو يسوع المسيح؟ المسيح هو الشفيع الوحيد بين الله والناس ليس بمعنى أنه يقصينا ولكن بمعنى أنه يقصى شفاعة العهد القديم. أي أن موسى لا يمكن أن يكون شفيعاً بين الناس والله، فالناس في اليهودية بقوا مفصولين عن الله إلى حين أتى المسيح فاتحدهم به. إذاً، فالوسيط الوحيد الذي يجمع بين الله والناس هو يسوع المسيح، كما يقول الرسول بولس. أي هو الذي عُلّق على الخشبة. هذا ما نعنيه بالإنسان يسوع المسيح. فلأنه رُفع على الخشبة ومات ثم قام ألصق الله بالناس. هذا يعني أنه لا يوجد إلتصاق بين الله والناس عن طريق اليهودية ولكن عن طريق العهد الجديد. وهكذا فعبارة “الشفيع الوحيد” هي ليست لإقصاء مريم أوبقية القديسين، كلمة الوحيد هي لإقصاء الذين سبقوا أي لإقصاء شرعية اليهود. وبالتالي فالمسيح يبقى الشفيع الوحيد بين الله والناس ونحن فيه.

إذاً، فهذا الشفيع الوحيد بين الله والناس هو المسيح النامي، العملاق، الذي ينمو من الآن وإلى آخر الدهر. والذي يتناول جسد المسيح ودمه يلتصق به ويصبح جزءاً من المسيح ويصبح في المسيح. إذاً، فالذي أصبح في المسيح قائماً من بين الأموات، الذي يتغذى من القيامة ويصبح إنساناً قيامياً، هذا الإنسان يصلي في المسيح، من جوف المسيح يصلي ويبقى في هذه الوحدانية المتشفعة، يبقى في هذا الكائن الوحيد المتشفع من أجل الناس.

الدكتور كوستي بندلي
مدخل إلى العقيدة المسيحية
الفصل الثامن: الكنيسة

arArabic
انتقل إلى أعلى