أخبر أنبا دانيال، أنه حدث أن كان لرجلٍ غني في بابيلون مصرَ ابنةٌ مجنونة (بروحٍ نجس)، ولم يحصل لها على شفاءٍ. وكان له صديقٌ راهب، هذا قال له: «إنه لا يستطيع أحدٌ أن يشفي ابنتك إلا الشيوخ الرهبان، ولكنك إن طلبتَ إليهم فلن يجيبوك إلى طلبك لتواضعهم. فأُشير عليك بأن تصنع حسب ما أقوله لك، فإذا هم جاءوا إلى السوقِ ليبيعوا عملَهم، تظاهر بأنك تريد الشراءَ منهم، وخذهم معك إلى منزلِك لتعطيهم الثمنَ، وحينئذ اسألهم أن يصنعوا صلاةً، وأنا واثقٌ أن ابنتَك تبرأ». فلما خرج الرجلُ إلى موضع البيعِ وجد راهباً واحداً من التلاميذ جالساً، فأخذه إلى بيتِهِ مع زنابيلِهِ بحجة أنه يعطيه ثمنها، فلما وافى الراهب إلى المنزلِ، خرجت البنتُ المجنونةُ ولطمت خدَّ الراهبِ، فَحَوَّلَ لها الآخرَ باتضاعٍ حسب الوصيةِ، فتعذب الشيطانُ من إتمام الوصيةِ، وخرج منها متألماً صارخاً قائلاً: «الويل لنا من وصايا يسوع لأنها تزعجنا». فلما علم الشيوخُ بما كان، سبَّحوا الله قائلين: «لا شيء يُذِلُّ عظمةَ الشيطان مثل إكمال وصية السيد المسيح ربنا باتضاعٍ».
قيل عن الأب ديسقورس التناسي إن خبزَه كان من شعيرٍ وعدس، وفي كلِّ سنةٍ كان يرسم لنفسِه خطةً يبدأ بها جهادَه قائلاً مثلاً: «في هذه السنةِ سوف لا ألتقي بإنسانٍ، ولن أكلِّم أحداً، وفي هذه السنةِ لن آكل طبيخاً، ولن أتذوَّق ثمرةً». وهكذا كان يصنعُ في كلِّ خطةٍ، فإذا تمم إحداها، بدأ بالأخرى، وهكذا كان الحالُ طول السنة. وقد كان يقول: «إنْ كنا نلبس الثوبَ السماوي، فلن نوجد عراةً، وإن وُجدنا لابسين غير ذلك الثوب، فماذا نصنع؟ نخاف أن نسمعَ ذلك الصوت القائل: أخرجوه إلى الظلمةِ القصوى، هناك يكون البكاء وصرير الأسنان. فالآن يا إخوتي، قبيحٌ بنا بعد أن لَبسنا الإسكيم هذه السنين كلَّها، أن نوجد عراةً في اليوم الأخير، وليس علينا ثيابُ العُرسِ، فالويل لنا من تلك الندامةِ، إذا ما نظرنا إلى سائرِ الأبرارِ والصديقين، وهم يصعدون إلى السماءِ، ونحن نُساقُ إلى العذاب».
قال الأب إبيفانيوس: «إن التأمُّلَ في الكتبِ حِرزٌ عظيمٌ يحفظُ الإنسانَ من الخطيةِ، ويستميله إلى عملِ البرِ».
وقال أيضاً: «إن الجهلَ بما في الكتبِ جُرفٌ عظيمُ السقوطِ، وهوَّتُه عميقةٌ».
وقال أيضاً: «إن الذي لا يعرف النواميسَ الإلهية، فقد ضيَّع رجاءَ خلاصِهِ».
كذلك قال: «إن خطايا الأبرارِ على شفاههِم، أما خطايا المنافقين فهي في جميعِ أجسادِهم، من أجلِ ذلك يقول النبي: ضع يا ربُّ حافظاً على فمي وباباً حصيناً لشفتيّ. وأيضاً: قلتُ أحفظُ طريقي كيلا أُخطئ بلساني».
كما قال: «إن الله يتركُ للخطاةِ رأسَ المالِ إزاء توبتِهم، مثل الزانية والابن الشاطر، فأما الصديقون فإنه يطلب منهم رأسَ المالِ مع ربحِه، إذ قال له المجد لتلاميذِه: إن لم يزد برُّكم على الكتبةِ والفريسيين، فلن تدخلوا ملكوتَ السماوات».
وأيضاً قال: «إن الربَ إلهَنا يبيع ملكوتَه للناسِ بشيءٍ يسير، بكسرةِ خبز، بثوبٍ بالٍ، بكأسِ ماءٍ بارد، بفَلْسٍ واحدٍ، وذلك إذا قُدمت بإفرازٍ».
حدث في ذاتِ يومٍأن التقى القديس أفرآم السرياني بامرأةٍ فاسدةٍ، وراودته عن نفسِها كي يشتركَ معها في جماعٍ نجسٍ، وإلا شنَّعت عنه، فقال لها: «إن بعضَ الإخوةِ اعتادوا المجيء إلى هنا، فاتبعيني إلى موضعٍ آخر». فتبعته. ولما اقتربوا من موضعٍ يجتمع فيه أناسٌ كثيرون، قال لها: «إني أرى أن نُكْمِلَ الفعلَ ههنا». فقالت له: «يا راهب، أما تستحي من كثرةِ هؤلاءِ الناس الذين يبصروننا ونحن في الفعلِ القبيح»؟ فقال لها: «وأنت يا امرأةُ، أما تستحين من اللهِ خالقِ الناس الذي ينظرنا في هذا الفعل القبيح»؟ فخزيت وانصرفت خائبة.
الأب ألوجيوس: جاء عنه أنه كان قساً، وكان يتنسك نسكاً زائداً، يصوم يومين يومين، وفي مرات كثيرةٍ كان يطوي الأسبوع كلَّه صائماً، وكان أكلُه لا يزيد عن الخبزِ والملح فقط، فمدحه الناسُ كثيراً، ولذلك كثُر نشاطه. فقام ومضى إلى شيخٍ يُسمى أنبا يوسف، ليعطي له وصايا أصعب في الجهادِ. فقبله الشيخ بفرحٍ، وما كان عنده من خيرٍ صنع له به ضيافةً، فلما قدَّم المائدةَ، قال له تلاميذه: «إن القسَّ لا يأكلُ سوى خبزٍ وملح فقط»، فلم يُجبهم أنبا يوسف، بل كان يأكلُ وهو صامتٌ. فأقاموا عنده ثلاثة أيام، ولم ينظروا أنبا يوسف يصلِّي أو يرتل، لأنه كان يجعل عملَه مخفياً، فخرجوا من عنده وما استفادوا شيئاً. وبتدبيرٍ من الله، قامت ريحٌ عظيمةٌ وحدث ظلامٌ، فلم يقدروا على المسير، ورجعوا إلى قلاية الشيخ، فسمعوه يصلي صلاةً حارةً بتسبيحٍ، فوقفوا خارج القلايةِ مدةً كبيرةً، وفي النهايةِ قرعوا البابَ، فسكت وفتح لهم، وقبلهم فرحاً. ولأجلِ شدةِ العطش أخذ ألوجيوس إناءَ الماءِ ليشربَ، فوجده ممزوجاً من ماءِ البحرِ وماء النهر، فلم يقدر أن يشربه، فرجع إلى ذاتهِ مفكراً، وإنه وقع على رجلي الشيخ قائلاً: «ما هذا يا أبتاه، إننا لم نسمعك تصلي لما كنا عندك، والآن وجدناك مصلياً، وأيضاً كنا نشرب الماءَ حُلواً، والآن وجدناه مالحاً». فقال الشيخ: «إن الأخَ موسوسٌ فمزج الماء الحلو بماء البحر». فلم يقتنع القس ألوجيوس، وجعل يطلب إليه ملتمساً أن يعرفَ الحقَّ. فقال الشيخ: «ذاك الماء أعددناهُ للمحبةِ، وهذا الماء الذي نشربه دائماً»، وأخذ الشيخ في تثقيفه وتعليمه كيف يجبُ السيرَ بتمييز وإفراز، وكيف يقطعُ عنه الأفكارَ البشرية، كما علَّمه أن يكون مشاركاً (الإخوة) يأكل معهم ما يوضع قدامه، وأن يجعلَ عملَه مخفياً. فقال ألوجيوس: «بالحقيقةِ، إن هذا هو العمل».
سأل أخٌ الأب أورانيوس قائلاً: «كيف يأتي خوفُ الله للنفسِ»؟ فأجابه وقال له: «إن اقتنى الإنسانُ التواضع، ورفض المقتنيات، ولم يدن أحداً، فإن خوفَ اللهِ يأتي للنفسِ».
وقال أيضاً: «يجب أن تقتني لنفسِك دائماً تواضعاً وفزعاً وكثرةَ نوحٍ، وقلةَ طعامٍ».
وحدث أيضاً لما كان مبتدئاً، أنه مضى إلى أحد الشيوخِ، وطلب منه كلمةً، فأجابه الشيخ: «إن آثرتَ الخلاص، فإذا اتفق وجودك عند إنسانٍ فلا تتكلم قبل أن تُسأل». وإذ أدرك معنى الكلامِ، صنع مطانية للشيخ وقال: «لقد درستُ كتباً كثيرةً، ولكن مثل هذا الأدب لم أعرف بعد». وانطلق منتفعاً.