المسيح في كتابات بولس

في مقالة آنفة أكّدنا أنّ بولس الرسول عرف الربّ يسوع معرفة شخصيّة، وأنّه عمّق معرفته هذه بارتباطه بجماعة الكنيسة الأولى (الكنيسة جسد المسيح). سنتكّلم، في هذه المقالة، على شخص المسيح يسوع الذي آمن به بولس، وفتنه حبّه، وحاول طيلة حياته أن ينقل اسمه إلى كلّ العالم. وسنستعمل، في هذا المسعى، بعض الآيات المنثورة في الرسائل المجيدة التي خلّفها الرسول.

يلفتنا، في تعليم القديس بولس حول شخص المسيح، أمران أساسيان: أولهما أنّ يسوع ربّ، بمعنى أنّه واحد مع الله أبيه، وتالياً أنّه واحد مع البشر الذين تجسّد ومات وقام من أجل خلاصهم. وهذا ما سنوضحه في ما يلي.

يبيّن الرسول الأمر الأول (ربوبيّة يسوع المسيح) في خطوط ثلاثة:

1) يقول في الرسالة إلى كنيسة كولوسي: “هو (المسيح) صورة الله الذي لا يُرى” (1: 15). والصورة، هنا، تدلّ على الطبيعة الإلهية الواحدة. فالعبارة يجب أن نفهمها هكذا: أنّ المسيح “صورة الله” بمعنى أنّه واحد، أزليّا، مع الله أبيه. فهو ليس من صنع الآب، كما قال بعض المبتدعين جهلاً (أمثال شهود يهوه اليوم)، بل إنّما هو مساو له “في الأزليّة وعدم الابتداء”. وهذه الوحدة لا تمنع التمايز بينه وبين أبيه (كما تؤكّد الكتب المقدّسة والمجامع المسكونيّة جملةً)، فالآب هو والد الإله الكلمة أزلياً، والكلمة مولود منه، وله، اي ليسوع، الطبيعة الإلهية الواحدة التي الله الآب مصدرها ( 1 كورنثوس 8: 6؛ عبرانيّين 1: 2و3).

2) الخطّ الثاني يبيّنه بولس بقوله إنّ الربّ الكلمة شريك مع أبيه في خلق العالمين، وأنّ هذا الخلق موجّّه نحوه (إي نحو الابن)، يقول: “ففيه خُلق كلُّ شيء ممّا في السموات وممّا في الأرض، ما يُرى وما لا يُرى، أأصحاب عرش كانوا أم سيادة أم رئاسة أم سلطان، كلّ شيء خُلق به وله. هو قبل كلّ شيء وبه قوام كلّ شيء” (كولوسي 1 : 16-17، أنظر ايضاً: 1 كورنثوس 8: 5). وهذا العمل الإلهيّ (الخلق) لا يدلّ على حدث أتمّه كلمة الله في الزمن الماضي فحسب، ولكنّه يعني ايضاً أنّّه هو إيّاه يخلقنا دائماً ويرعانا برحمته ويجدّدنا بنعمة روحه القدّوس. فبه “قوام كلّ شيء” أمس واليوم وإلى الأبد.

3) أمّا الخطّ الثالث فيبسطه الرسول بقوله إنّ الله الآب مجّد فتاه “ووهب له الاسم الذي يفوق جميع الأسماء، كيما تجثو لاسم يسوع كلّ ركبة في السموات وفي الأرض وتحت الأرض، ويشهد كلّ لسان أنّ يسوع المسيح هو الربّ تمجيداً لله الآب” (فيلبّي 2: 9-11). فالله الآب الذي “أقامه (يسوع) من بين الأموات وأجلسه إلى يمينه في السموات…” (أفسس 1 :20)، قد أعطى ابنه الوحيد أن يدين العالم في اليوم الأخير.

في هذه الوجوه مجتمعة يظهر يسوع المسيح، الذي تنازل ودخل تاريخ البشر ليخلّصنا من كثافة هذا التاريخ، أنّه، في آنٍ، ربّ الأزل والأبد.

أمّا الأمر الثاني في تعليم بولس حول شخص المسيح فيؤكّده بقوله إنّ يسوع أخذ طبيعتنا (البشريّة) “ما عدا الخطيئة” (عبرانيّين 4: 15)، اي إنّه وحّد ذاته بنا لينتشلنا من موت الزلاّت ويهبنا الحياة الأبدية. فالخطيئة شوّهت العالم وشتّته، وأمّا المسيح فقد جاء وجمع “كل شيء في شخصه” (أفسس 1 :10).وهذا يعني أنّ الربّ، بموته وقيامته، قد صالح العالم مع الله (رومية 5: 10و11)، وذلّل، في هذه المصالحة، كلّ صعوبة، وسيطرة على كلّ ما يناهض خلاصه، ووهب العالمين ملء محبّته (أفسس 3 :19، 4 :13، 5 :18، كولوسي 1 :9و2: 10). وهذا يوضحه الرسول، ببلاغة كاملة، في رسالته إلى كنيسة أفسس، بقوله: “ولكن الله الواسع الرحمة، لحبّه الشديد الذي أحبّنا به، مع أنّنا كنّا أمواتاً بزلاتنا، أحيانا مع المسيح (بالنعمة نلتم الخلاص) وأقامنا معه وأجلسنا معه في السموات في المسيح يسوع” (2: 4-6). هذه الحياة التي يملكها المسيح أنعم بها على العالم، وبخاصة على المؤمنين به، وذلك بدافع من محبته. فمحبته لا تميز بين وجه ووجه. اي انه لا يفاضل، في هذا الدهر، بين من كان بارا ومخلصا وبين من أبعدته خطاياه عن الحق. فالرب نفسه، أكد في تعليمه الحي أنه إنما جاء من أجل أن “يدعو الخطأة إلى التوبة”. وهذا ما عبّر عنه الرسول يوحنا في فاتحة إنجيله، بقوله إن “النور يضيء في الظلمة”، بمعنى أن الله الذي هو نور بالكلية يعمل في عالم ساقط ليخلص “ما قد هلك”. فالمسيح، اذا، وحّد ذاته بنا ليعيدنا إلى الله أبيه. ففيه وحده خلاصنا وبنعمة روحه (التي نرتضيها أحرارا) نحن نخلص ونكمل.

ومن العبارات الرائعة التي خلقها بولس، والتي تدل على أن المسيح وحّد ذاته بالبشر وجاء من أجل خلاصهم، قوله إنه “البكر”. فالمسيح “بكر كل خليقة”، ومعنى العبارة أنه، أولا، مصدرها (يشوّه شهود يهوه عبارة “بكر كل خليقة” بقولهم المنحرف إن المسيح مخلوق، ويهملون معناها الحقيقي، وهو أنه، أي المسيح، مصدر العالم كله وخالقه)، وأنه، تاليا، “البكر من بين الأموات” (كولوسي 1 :18؛ 1 كورنثوس 15: 20-23)، أي أنه أول القائمين من بين الأموات، وأننا جميعا سنقوم فيه “عند مجيئه”، وهو “بكر لإخوة كثيرين” (رومية 8: 29)، أي أنه رأس الكنيسة، ومصدر كل حياة جديدة في الحاضر والمستقبل.

اسم يسوع المسيح الذي يتصدر جميع رسائل بولس الرسول، هو ايضا محورها وهدفها. فبولس هو رسوله وعبده وسجينه، وما إليها من عبارات تدل على أنه إنما يكتب ليشهد للرب الذي أتى من أجل أن يهبنا الحياة الأبدية التي هي قائمة كليا فيه.

عن نشرة رعيتي 2001

arArabic
انتقل إلى أعلى