وردت في الكتاب المقدس كلمتان متناقضتان بمعنى التجربة: الإغراء والامتحان. الإغراء هو حركة تردّد في الإنسانية بين النعمة الإلهية والخطيئة. المغري دائما هو الشيطان. وتاليا التجربة بهذا المعنى هي دعوة إلى الموت (يعقوب 1: 13-15). أما الامتحان فطريقة تأديبيّة يستعملها الله لينقّي شعبه كما ينقّى الذهب والفضة. فبينما يلد الإغراءُ الموت، يوجّه الله الإنسان بالامتحان إلى الحياة.
أول ما يلفتنا في رجوعنا إلى تجربة يسوع (سنعتمد في هذا المقال على ترتيب إنجيل لوقا 4: 1- 13؛ راجع ايضا متى 4: 1-11 ؛ مرقس 1: 12 و13) هو أن الإزائيين (متى، مرقس ولوقا) ذكروا الخبر توّاً بعد معمودية يسوع (لوقا وحده يقحم بين الحدَثين نَسَبَ يسوع، الذي يذكره متى في فاتحة إنجيله ولا نجده عند مرقس). ذلك أنهم أرادوا أن يكشفوا، منذ بدء الرسالة الجديدة، أن يسوع الذي تكرّس بالمعمودية ليصير العبدَ المتألم الذي تحدَّث عنه إشعياء، انتصر على التجارب التي وقع فيها شعبه في البرية مدة أربعين سنة، وذلك بعد أن عَبَر َ بهم الربُّ البحر الأحمر. فبينما أسخط إسرائيل الله قديما في القفر، نجح يسوع- آدم ُ الجديد- في التجربة، وأرضى أباه بطاعة كلمته.
من المهمّ أن نعرف أن مضمون التجارب التي استهدفت عمل يسوع ورسالته، هو أعمق بكثير من القالب المجازي الذي وُضعت فيه. وأن نعرف، تاليا، أن المجرِّب، وإن شعر أنه أمام عدو صَلْبٍ، غير أنه لم يكن يعلم بالحقيقة عظمة يسوع وقداسته (يقول القديس أمبروسيوس: إن الشيطان ” كان يجرِّب ليستكشف، وكان يستكشف ليجِّرب”). سنحاول، في هذا المقال، أن نقف أمام التجارب الثلاث (تجربة الخبز والسلطان والهيكل) التي تعرَّض لها يسوع “ابن الله”، ونرى كيف استطاع، في هذه البشرة، أن ينزع قناع الغش عن وجه الشيطان، وينتصر عليه في عقر داره.
تعود”تجربة الخبز” (قال له إبليس: إن كنت َ ابنَ الله فقل لهذا الحجر أن يصير خبزا) إلى التقاليد اليهودية، وذلك أن اليهود كانوا يعتقدون بأن عصر المسيح المرتجى هو عصر الشبع والبركات المادية. هي أول استغلال ماكر يتفوه به الشرير، ويريد منه أن يخالف يسوعُ مشيئةَ أبيه، ويعلن، وفق توقّعات الناس، بمعجزة، إنه المسيح المنتظَر (يوحنا 6: 14). يرفض يسوع هذا الاقتراح ويُبعد عنه “دهاء ذلك الوحش “بقوله له: “ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان” (هي عبارة مأخوذة من سفر تثنية الاشتراع 8: 3، السفر الذي سيأخذ منه يسوع، في تجاربه، كل أجوبته). هذا الركون إلى كلمة الله، التي هي قوّةُ الأبرار وقوْتُهم الحقيقي (موسى وإيليا…)، يظهر يسوع أنه الابن المطيع لأبيه السماوي والمعلّم المتنبّه لتجارب الشرير. هذا هو أسلوبه، أن يُظهر بوسائل الفقر (لا بظاهر العظمة) أنه ابن الله حقا. وذلك ليعلّمنا أن من تواضع أمام الله واتّكل عليه وعمل رضاه يحيا وإن جاع، لأن الذي أطعم قديما شعبه من المنّ في القفر، قادر وحده على أن يدعم حياة الناس ويقوتهم بأمور أخرى غير الطعام الطبيعي(“كل كلمة تخرج من فم الله “، كما يتابع متى).
هُزم الشيطان في أول تجربة. غير أن عزيمته لم تُحبط، فأراد أن يخفي عداوته تحت ستار هبات. يقول لوقا أن إبليس صعد بيسوع إلى جبل عال وأراه “جميع ممالك المسكونة”، وقال له “لك أُعطي هذا السلطان ومجدهنّ لأنه إليّ قد دُفع وأنا أعطيه لِمَنْ أريد، فإن سجدت َ أمامي يكون لك الجميع”. تضع هذه التجربة الخصمين في قلب العالم، إذ إن إبليس يعرض على يسوع الحكم والسلطان على “جميع ممالك المسكونة”. وهو بذلك يوحي إليه بتحقيق آمال الشعب وأحلامهم. ذلك أن اليهود كانت قد حكمتهم، عبر العصور، قوّات أجنبية ( بابلية وفارسية ويونانية ورومانية)، وكانوا ينتظرون مجيء المسيح ليحررهم من الاستعمار ويعيد لهم المُلْك. يرفض يسوع صورة المسيّا السياسي ويعتقد أن قبولها عبادة للشيطان ( يقول لإبليس:”للرب إلهك تسجد وإيّاه وحده تعبد”، تثنية 6: 13) ويترك لله الآب، الذي له وحده يحق السجود، أن يولي السلطان والمجد لمن يشاء. يبيّن يسوع، في انتصاره الثاني، تواضعه والتزامَهُ مشيئة أبيه الذي أرسله ليخلّص العالم من حكومة إبليس ويؤسس مملكته الأبدية.
يحاول الشيطان هجوما أخيرا. يأخذ يسوع إلى أورشليم ويقيمه على جناح الهيكل ويقول له: “إن كنت َابن الله فاطرح نفسك من هنا إلى أسفل، لأنه مكتوب أنه يوصي ملائكته بك ليحفظوك، وأنهم على أيديهم يحملونك لكي لا تصدم بحجر رجلك”. لا شك أن شكل هذه التجربة أقل أهمّيّة من معناها، فأورشليم كمكان للتجربة هي أقصى التجارب في إنجيل لوقا، كما ستكون في كل لاهوته، فإن خدمة يسوع هي رحلة إلى أورشليم. لقد بنى إبليس كلامه، في هذه التجربة، على الآيتين 11 و12 من المزمور 91، وذلك أن ثمّة مَن كان يعتقد أن ماسيّا في مجيئه سيشق السموات وينزل محمولا على أيدي الملائكة إلى وسط الهيكل، ويجمع حوله الشعب من أقاصي الأرض. هذه التجربة هي الوحيدة التي يستعمل فيها إبليس الكتاب المقدس، فينسج تجربته على هذه الآية العظيمة التي ستتم في آخر الزمان والتي سيكون للملائكة فيها دور مدهش. هي تجربة ماكرة لأن اليهود محبّون للمعجزات، وهذا هو نوع المسيّا الذي يريدونه. يرفض يسوع هذا العرض فإن قبوله يعني أن يبدل مسيحانيّته، التي تعلن بقوة القداسة، بصورة المسيح المبهرج. الإشارة إلى أورشليم في هذه التجربة هي إشارة إلى تجربة يسوع الكبرى (تجربة النجاة من الموت ). يسوع يبعد عنه هذه التجربة فإنها تعني تجربة الله (قال للشيطان:”لا تجرّب الرب إلهك”، تثنية 6: 16 )، ومطالبته بتدخُّلِ لا يكون مطابقا لتدبيره الإلهي.
لقد نجح يسوع – ونجحنا معه- في تجربته، ففضح الشيطان الذي بدا، بوضوح، أنه خصم ملكوت الله وعدو الإنسان المخلوق”على صورة الله”. إن هذا الانتصار الذي أحرزه السيد هو استباق لانتصاره الأخير الذي حققّه على الصليب. وهو دعوة لنا لنحالف يسوع ونقتدي به، لأن “الغالب” هو عوننا في المحن، ومنه نتعلم أن ننادي الآب لينجينا من كل تجربة وشر، وبه ومعه – وحده- يمكننا أن نعرف الغلبة ونكون أبناء الله حقا.
عن نشرة رعيتي
الأحد 17 كانون الثاني 1999