” ..وصُلِبَ عَنّا عَلَى عَهْدِ بِيلاطُس اَلْبُنْطِى وتَأَلّمَ وقُبِرَ وَقَامَ مِنْ بَيْن الأمْوَاتِ في اَلْيَوْمِ اَلثَالِثِ كَمَا هُوَّ في اَلْكُتُبِ. وَصَعَدَ إِِلَى اَلسَمَوَاتِ وَجَلَسَ عَنْ يَمِينِ اَلآبِ. وَأَيْضاً يَأْتِى في مَجْدِهِ لِيَدِينَ اَلأحْيَاءَ واَلأمْوَاتِ. الذي لَيْسَ لِمُلْكِهِ إِنْقِضَاء.”
1. الصلب
إن الفداء إمتداد وتكملة لعمل التجسّد. هذا الفداء الذي بلغ بالصليب قمته يمكن أن يُنظر إليه من ثلاث وجهات نظر:
- بالصليب حطم المسيح حواجز أنانيتنا.
- بالصليب أخذ المسيح على ذاته خطيئتنا.
- بالصليب انتصر المسيح على الألم والموت بدخوله فيهما.
* بالصليب حطم المسيح حواجز أنانيتنا :
بالتجسّد أصبح الله حاضراً في الإنسان ليجدّده ويشفيه ويشركه في حياته الإلهية. ولكن بقى أن يُزال الحاجز الذي أقامته الخطيئة في صميم الإنسان بينه وبين خالقه. هذا الحاجز هو كما رأينا إنغلاق الإنسان وإنطواؤه على نفسه دون الله، هو عبادة الأنا التي حكمت على الإنسان بعزلة مميتة. كان ينبغي إذاً تحطيم هذا الحاجز لتتدفق في الإنسان حياة الله، لأن الإنسان الممتلئ من ذاته لم يعد لله مكان فيه. لذلك عندما اتخذ ابن الله طبيعة الإنسان، داوى أنانيتها بالانفتاح الكامل والعطاء الكامل اللذين حققهما في إنسانيته.
فإنه طيلة حياته علي الأرض، لم يرد أن يتمتع بالمجد الإلهي الذي كان كامنا فيه. فإنه : [ أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذاً صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِراً فِي شِبْهِ اَلنَّاسِ ] [ فيليبي 2: 7 ].أخلى ذاته من التمتع بالمجد الإلهي وقبل طوعا بوضع “العبد”. فضّل العطاء على التمتع، ومع أن كل شيء كان في متناول يده، أراد أن يبذل لا أن يأخذ: [ كَمَا أَنَّ اِبْنَ الإِنْسَانِ لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ بَلْ لِيَخْدِمَ وَلِيَبْذِلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِينَ ] [ متى 20: 28 ]. إنه : [ اَلْمَسِيحَ أَيْضاً لَمْ يُرْضِ نَفْسَهُ بَلْ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: تَعْيِيرَاتُ مُعَيِّرِيكَ وَقَعَتْ عَلَيَّ ] [ رومية 15: 3 ]. ولكن حياته كلها كانت قربانا لله الآب وللبشر الذين صار أخا لهم. فقد وُلد فقيراً في مذود البهائم وتشرّد عند إضطهاد هيرودس له، وعاش معظم حياته عاملاً مجهولاً: [ أَلَيْسَ هَذَا هُوَ اَلنَّجَّارَ اِبْنَ مَرْيَمَ ] [ مرقس 6 : 3 ]. وطاف يبشّر فيما [ لِلثَّعَالِبِ أَوْجِرَةٌ وَلِطُيُورِ السَّمَاءِ أَوْكَارٌ وَأَمَّا ابْنُ الإِنْسَانِ فَلَيْسَ لَهُ أَيْنَ يُسْنِدُ رَأْسَهُ ] [ متى 8: 20 ]. ورفض أن يصنع آية في السماء ليبهر بها البشر [ وَجَاءَ إِلَيْهِ اَلْفَرِّيسِيُّونَ وَاَلصَّدُّوقِيُّونَ لِيُجَرِّبُوهُ فَسَأَلُوهُ أَنْ يُرِيَهُمْ آيَةً مِنَ اَلسَّمَاءِ.. جِيلٌ شِرِّيرٌ فَاسِقٌ يَلْتَمِسُ آيَةً وَلاَ تُعْطَى لَهُ آيَةٌ إِلاَّ آيَةَ يُونَانَ اَلنَّبِيِّ ] [ متى 16: 1، 4 ]. ولكنه كان يصنع العجائب رأفة بالمعذبين و[ َأَحْضَرُوا إِلَيْهِ جَمِيعَ اَلسُّقَمَاءِ الْمُصَابِينَ بِأَمْرَاضٍ وَأَوْجَاعٍ مُخْتَلِفَةٍ وَالْمَجَانِينَ وَالْمَصْرُوعِينَ وَالْمَفْلُوجِينَ فَشَفَاهُمْ ] [ متى 4 : 23 ]. وقد احتمل عدم إيمان الكثيرين، حتى أقاربه الذين كانوا ينعتونه بالجنون وتلاميذه الذين لم يفهموا رسالته حق الفهم والذين تركوه كلهم وفرّوا حين تسليمه، وباعه أحدهم وأنكره آخر. وصبر على كل إهانات وشتائم وإضطهادات أعدائه الذين كانوا ينعتونه [ فَقَالَ اَلْيَهُودُ : أَلَسْنَا نَقُولُ حَسَناً إِنَّكَ سَامِرِيٌّ وَبِكَ شَيْطَانٌ؟ ] [ يوحنا 8: 48 ]. ولم يرد أن ينتقم منهم بل إنتهر يعقوب ويوحنا عندما طلبا إنزال نار من السماء لإحراق قرية رفضت أن تستقبله: [ وَحِينَ تَمَّتِ اَلأَيَّامُ لاِرْتِفَاعِهِ ثَبَّتَ وَجْهَهُ لِيَنْطَلِقَ إِلَى أُورُشَلِيمَ. وَأَرْسَلَ أَمَامَ وَجْهِهِ رُسُلاً فَذَهَبُوا وَدَخَلُوا قَرْيَةً لِلسَّامِرِيِّينَ حَتَّى يُعِدُّوا لَهُ. فَلَمْ يَقْبَلُوهُ لأَنَّ وَجْهَهُ كَانَ مُتَّجِهاً نَحْوَ أُورُشَلِيمَ. فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ تِلْمِيذَاهُ يَعْقُوبُ وَيُوحَنَّا قَالاَ: { يَا رَبُّ أَتُرِيدُ أَنْ نَقُولَ أَنْ تَنْزِلَ نَارٌ مِنَ اَلسَّمَاءِ فَتُفْنِيَهُمْ كَمَا فَعَلَ إِيلِيَّا أَيْضاً؟ } فَالْتَفَتَ وَاِنْتَهَرَهُمَا وَقَالَ: { لَسْتُمَا تَعْلَمَانِ مِنْ أَيِّ رُوحٍ أَنْتُمَا! لأَنَّ اِبْنَ اَلإِنْسَانِ لَمْ يَأْتِ لِيُهْلِكَ أَنْفُسَ اَلنَّاسِ بَلْ لِيُخَلِّصَ }. فَمَضَوْا إِلَى قَرْيَةٍ أُخْرَى ] [ لوقا 9: 51 – 59 ]. وزجر بطرس عندما أراد أن يدافع عنه بالسيف: [ رُدَّ سَيْفَكَ إِلَى مَكَانِهِ. لأَنَّ كُلَّ اَلَّذِينَ يَأْخُذُونَ اَلسَّيْفَ بِالسَّيْفِ يَهْلِكُونَ ] [ متى 26: 52 ]. وصلّى من أجل قاتليه: [ يَاأَبَتَاهُ اِغْفِرْ لَهُمْ لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ ] [ لوقا 23: 34 ]. وأراد، وهو المعلّم والسيّد، أن يكون وسط تلاميذه كالخادم: [ لأَنْ مَنْ هُوَ أَكْبَرُ؟ أَلَّذِي يَتَّكِئُ أَمِ اَلَّذِي يَخْدِمُ؟ أَلَيْسَ اَلَّذِي يَتَّكِئُ؟ وَلَكِنِّي أَنَا بَيْنَكُمْ كَالَّذِي يَخْدِمُ ] [ لوقا 22: 27 ]. وأن يغسل أرجلهم: [ قَامَ عَنِ الْعَشَاءِ وَخَلَعَ ثِيَابَهُ وَأَخَذَ مِنْشَفَةً وَاتَّزَرَ بِهَا ثُمَّ صَبَّ مَاءً فِي مِغْسَلٍ وَاِبْتَدَأَ يَغْسِلُ أَرْجُلَ التّلاَمِيذِ وَيَمْسَحُهَا بِالْمِنْشَفَةِ اَلَّتِي كَانَ مُتَّزِراً بِهَا ] [ يوحنا 13: 4، 5 ].
هذا العطاء الذي به أراد المسيح أن يستأصل أنانيتنا، بلغ ذروته في الصليب. كان في وسع المسيح أن لا يموت بالنظر لللاهوت الكامن فيه. ولكنه ذهب في تخليه عن ” الأنا” إلى أقصى الحدود، باذلاً ذاته للموت. وهكذا قدّم حياته على الصليب قربان محبة للآب، وتعبيراً عن تخلّيه التام عن مشيئته الذاتية، كما قال بنفسه في بستان جسيمانى: [ يَا أَبَتَاهُ إِنْ أَمْكَنَ فَلْتَعْبُرْ عَنِّي هَذِهِ اَلْكَأْسُ وَلَكِنْ لَيْسَ كَمَا أُرِيدُ أَنَا بَلْ كَمَا تُرِيدُ أَنْتَ.. يَا أَبَتَاهُ إِنْ لَمْ يُمْكِنْ أَنْ تَعْبُرَ عَنِّي هَذِهِ اَلْكَأْسُ إِلاَّ أَنْ أَشْرَبَهَا فَلْتَكُنْ مَشِيئَتُكَ ] [ متى 26: 39، 42 ]. وكما ورد عن لسانه في الرسالة للعبرانيين، مخاطباً الآب: [ ذَبِيحَةً وَقُرْبَاناً لَمْ تُرِدْ، وَلَكِنْ هَيَّأْتَ لِي جَسَداً. بِمُحْرَقَاتٍ وَذَبَائِحَ لِلْخَطِيَّةِ لَمْ تُسَرَّ. ثُمَّ قُلْتُ: هَئَنَذَا أَجِيءُ. فِي دَرْجِ الْكِتَابِ مَكْتُوبٌ عَنِّي، لأَفْعَلَ مَشِيئَتَكَ يَا أَللهُ ] [ عبرانيين 10: 5 – 7 ].
هكذا تمرّد آدم، وأطاع المسيح. تكبّر آدم، فتواضع المسيح. اكتفي آدم بذاته، فتخلّى المسيح عن ذاته: [ وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى اَلْمَوْتَ مَوْتَ اَلصَّلِيبِ ] [ فيليبى 2: 8 ]. وهكذا بإنسانيته المبذولة، المعطاة، أعطى البشرية الدواء الشفي لداء الأنانية الذي فصلها عن الله.
* بالصليب أخذ المسيح على ذاته خطيئتنا :
ومن وجهة نظر أخرى، نرى أن الرب يسوع المسيح، لكى ينقذنا من الخطيئة التي أصبحنا نئن تحت وطأتها، شاء أن يأخذها على نفسه، لا أن يأخذها هي بلّ أن يحتمل في ذاته نتائجها المريعة حباً بنا. إن المحب يود لو أنه يستطيع أن يأخذ على نفسه مرض المحبوب ليخلصه من وطأته. ولكن ما لا يستطيع أن يفعله الحب البشرى، استطاع أن الرب يسوع المسيح أن يتممه إذ أنه، لأجل محبته لنا، أخذ على نفسه مرضنا لينقذنا منه: [ لَكِنَّ أَحْزَانَنَا حَمَلَهَا وَأَوْجَاعَنَا تَحَمَّلَهَا0 وَنَحْنُ حَسِبْنَاهُ مُصَاباً مَضْرُوباً مِنَ اَلْلَّهِ وَمَذْلُولا ] [ أشعياء 53: 4 ]. و [ لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ بِإِشَعْيَاءَ النَّبِيِّ: هُوَ أَخَذَ أَسْقَامَنَا وَحَمَلَ أَمْرَاضَنَا ] [ متى 8: 17 ].
فإنه وهو البريء من كل خطيئة، أخذ على نفسه كل الشقاء الذي جرّته الخطيئة على الجنس البشري: [ نَبَتَ قُدَّامَهُ كَفَرْخٍ وَكَعِرْقٍ مِنْ أَرْضٍ يَابِسَةٍ لاَ صُورَةَ لَهُ وَلاَ جَمَالَ فَنَنْظُرَ إِلَيْهِ وَلاَ مَنْظَرَ فَنَشْتَهِيهِ. وَهُوَ مَجْرُوحٌ لأَجْلِ مَعَاصِينَا مَسْحُوقٌ لأَجْلِ آثَامِنَا0 تَأْدِيبُ سَلاَمِنَا عَلَيْهِ وَبِحُبُرِهِ شُفِينَا ] [ أشعياء 53: 2، 5 ]. وكانه متروك من الله نفسه: [ إِلَهِي إِلَهِي لِمَاذَا تَرَكْتَنِي؟ ] [ متى 27: 46 ]، حاصلاً في ظلمة وحزن مميتين: [ نَفْسِي حَزِينَةٌ جِدّاً حَتَّى اَلْمَوْتِ ] [ متى 26: 38 ].
هكذا تجسّمت في المسيح – وهو لم يعرف خطيئة – كل مأساة خطيئة البشر: [ كُلُّنَا كَغَنَمٍ ضَلَلْنَا. مِلْنَا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى طَرِيقِهِ وَالرَّبُّ وَضَعَ عَلَيْهِ إِثْمَ جَمِيعِنَا ] [ أشعياء 53: 6 ]. وكأنه صار هو “خطيئة” على حد تعبير الرسول بولس: [ لأَنَّهُ جَعَلَ اَلَّذِي لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً، خَطِيَّةً لأَجْلِنَا ] [ 2 كورونثوس 5: 21 ].
وهكذا فإن يسوع المسيح على الصليب ظهر لله الآب مجسماً في جسده الجريح، الممزّق، المختنق، وفي نفسه المنسحقة، بشاعة كل خطيئة البشر التي أخذها على نفسه فصار شفيعا للخطأة أجمعين عندما وحد ذاته معهم: [ لِذَلِكَ أَقْسِمُ لَهُ بَيْنَ اَلأَعِزَّاءِ وَمَعَ اَلْعُظَمَاءِ يَقْسِمُ غَنِيمَةً مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ سَكَبَ لِلْمَوْتِ نَفْسَهُ وَأُحْصِيَ مَعَ أَثَمَةٍ وَهُوَ حَمَلَ خَطِيَّةَ كَثِيرِينَ وَشَفَعَ فِي اَلْمُذْنِبِينَ ] [ أشعياء 53: 12 ]. ذلك أن الآب لم يعد ينظر إلى الخطأة إلا من خلال هذه الصورة، صورة ابنه الوحيد الحبيب المصلوب الذي جعل نفسه كواحد منهم. وبهذا المعنى يتابع الرسول بولس: [ لأَنَّهُ جَعَلَ اَلَّذِي لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً، خَطِيَّةً لأَجْلِنَا، لِنَصِيرَ نَحْنُ بِرَّ اَلْلَّهِ فِيهِ ] [2 كورونثوس 5: 21 ]. أى أن الله تصالح مع البشر الخطأة وغفر خطاياهم وبرّرهم وضمهم إليه من خلال شخص الابن الوحيد الحبيب الذي وحّد ذاته معهم.
هكذا كان الحمل الذي كان يُذبح في الهيكل صباحا ومساءً تكفيراً عن خطايا الشعب رمزاً وإشارة إلى المسيح الذي قال عنه يوحنا المعمدان: [ هُوَذَا حَمَلُ اللَّهِ اَلَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ الْعَالَمِ ] [ يوحنا 1: 29 ].
* بالصليب انتصر المسيح على الألم والموت بدخوله فيهما:
وهناك أخيراً، معنى ثالث بالغ الأهمية يتجلّى في الصليب. لقد دخل البشر بالخطيئة في مملكة الموت ( وبلغة الكتاب والآباء تُدعى ” الجحيم” ). وساد عليهم الحزن والألم والضعف والفناء. لقد أصبحوا كمن اُغلَّق عليهم في سجن مظلم رهيب. لقد كان بإمكان الله أن يحرّرهم من الخارج، بكلمة منه فقط، بإرادته الفائقة. ولكن محبته دفعته أن يشارك البشر أولاً مصيرهم لكى يوحّد ذاته معهم. المحبة تدفع المحبّ إلى مشاركة المحبوب في آلامه. هكذا محبة الله “الجنونية” للإنسان، كما نعتها كاباسيلاس، لم تدفعه إلى إجتياز الهوة الفاصلة بين الخالق والمخلوق وحسب – وهذا هو التجسّد – بل إلى مشاركته أيضاً في جحيم بؤسه.
فالإله بتجسّده: [ فَإِذْ قَدْ تَشَارَكَ الأَوْلاَدُ فِي اللَّحْمِ وَالدَّمِ اشْتَرَكَ هُوَ أَيْضاً كَذَلِكَ فِيهِمَ. ] [ عبرانيين 2: 14 ]. شاء أن يصير شبيها في كلّ شيء بالبشر الذين إتخذهم إخوة له: [ مِنْ ثَمَّ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُشْبِهَ إِخْوَتَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ، لِكَيْ يَكُونَ رَحِيماً، وَرَئِيسَ كَهَنَةٍ أَمِيناً فِي مَا لِلَّهِ حَتَّى يُكَفِّرَ خَطَايَا الشَّعْبِ ] [ عبرانيين 2: 17 ]. أن يشاركهم أيضاً بكلّ ما تعرّض له هذا اللحم والدم، من جرّاء الخطيئة، من حزن وضيق وآلام وموت. هكذا إكتمل التجسّد ودخل ابن الله إلى صميم الطبيعة الإنسانية، مختبراً إياها بكلّ شقائه، حتى يشعر الإنسان في حزنه وبؤسه، في آلامه الجسدية والمعنوية، في نزاعه وموته، إنه محبوب، وأن الله نفسه شاركه في ذلك كلّه. لقد جعل الله نفسه طريح الألم لكى لا يشعر الإنسان أنه يعانيه وحده بلّ برفقة الإله المتجسّد الذي عاش آلام الإنسان في نفسه وجسده، بمعيّة ذاك الذي كُتب عنه: [ لأَنَّهُ فِي مَا هُوَ قَدْ تَأَلَّمَ مُجَرَّباً يَقْدِرُ أَنْ يُعِينَ الْمُجَرَّبِينَ ] [ عبرانيين 2: 18 ].
هكذا دخل يسوع المسيح، حباً بالإنسان، مملكة الموت التي كان غريباً عنها إطلاقاً، ليس فقط من حيث إلوهيته التي هي ينبوع الحياة، بلّ من حيث إنسانيته أيضاً. فإنسانية يسوع المسيح لم تعرف الخطيئة البتة ولذلك فقد كانت بالكليّه غريبة عن مملكة الموت، ذلك الموت الذي إنجرف إليه الإنسان بالخطيئة. مملكة الموت هي مملكة الشيطان الذي قتل الناس بالخطيئة، ولم يكن للشيطان شيء في إنسانية يسوع المسيح البريئة من كل عيب، ولذا قال يسوع لتلاميذه قبل تسليمه بقليل: [ لأَنَّ رَئِيسَ هَذَا الْعَالَمِ ( أي الشيطان الذي تسلّط على العالم بالخطيئة ) يَأْتِي ( أي أن يسوع سوف يدخل بالموت إلى مملكته ) وَلَيْسَ لَهُ فِيَّ شَيْءٌ ] [ يوحنا 14: 30 ]. في تلك المملكة التي كان غريباً عنها بالكلّية، مملكة الموت والشيطان الذي له [ سُلْطَان اَلْمَوْتِ ] [ عبرانيين 2: 14 ]. دخل يسوع حباً بالإنسان سجين ذلك العالم الرهيب.
ولكن مملكة الموت لم يكن بوسعها أن تضبط سيد الحياة والقدّوس البريء من الخط. لذا كان دخول يسوع فيها مقدمة لتحطيمها وتحرير الإنسان منها. هكذا لما شاركنا الرب في الآلام والموت أعتقنا من الموت والآلام، ولمّا أسلم ذاته لذلك العالم الرهيب الذي أوجدته الخطيئة ضرب قوى الخطيئة الكامنة فينا ضربة قاضية. عندما طرح نفسه في ظلمتنا، أضاءها بنوره، وعندما شاركنا في موتنا أعطانا حياته. هكذا تحققت نبؤة أشعياء التي ردّدها الإنجيل مطبقا إيّاها على يسوع: [ اَلْجَالِسُونَ فِي أَرْضِ ظِلاَلِ اَلْمَوْتِ أَشْرَقَ عَلَيْهِمْ نُورٌ ] [ أشعياء 9 : 2 ]. و[ الشَّعْبُ الْجَالِسُ فِي ظُلْمَةٍ أَبْصَرَ نُوراً عَظِيماً وَالْجَالِسُونَ فِي كُورَةِ الْمَوْتِ وَظِلاَلِهِ أَشْرَقَ عَلَيْهِمْ نُورٌ ] [ متى 4: 16 ]. هذا ما عبّرت عنه الرسالة إلى العبرانيين: [ فَإِذْ قَدْ تَشَارَكَ الأَوْلاَدُ فِي اللَّحْمِ وَالدَّمِ اشْتَرَكَ هُوَ أَيْضاً كَذَلِكَ فِيهِمَا، لِكَيْ يُبِيدَ بِالْمَوْتِ ذَاكَ الَّذِي لَهُ سُلْطَانُ الْمَوْتِ، أَيْ إِبْلِيسَ ] [ عبرانيين 2: 14 ].
* أسئلة
- كيف كان الصليب واسطة لتحطيم حواجز الأنانية التي تفصل الإنسان عن الله؟ أليست قيمة الصليب هي في البذل الكامل الذي يعبر عنه؟ (أنظر متى 26: 25، فيليبي 2: 28، عبرانيين 10: 5-7).
- ألم يكن بإمكان المسيح أن يتمتع بالمجد الإلهي الكامن فيه؟ هل قبل بهذا التمتمع أم اتبع طريق “أفراغ الذات”؟ (أنظر فيليبي 2: 6 و7 ورومية 15: 3). بيِّن أنه اتبع هذه الطريق في كل مراحل حياته (أنظر على سبيل المثال مرقس 6: 3 ومتى 8: 20 ويوحنا 8: 48 ولوقا 22: 27 ويوحنا 13: 4 و5 ويوحنا 18: 11…).
- ألا يشاء المحب أن يأخذ على نفسه مرض المحبوب ليخلصه من وطأته؟ ألم يفعل المسيح ذلك بالنسبة لنا، نحن البشر الخطأة؟ (أنظر أشعياء 53: 4 و6 ومتى 8: 17). كيف تم ذلك على الصليب؟ ألم يكن المسيح عند ذاك -وهو لم يعرف خطيئة- مجسماً في ذاته كل مأساة الخطيئة (أنظر أشعياء 53 ومتى 27: 46)؟
- ألم يصبح المسيح هكذا شفيعاً للخطأة؟ (أنظر أشعياء 53: 12 و2كورنثوس 5: 21). أليس ذلك لأن الله لم يعد ينظر إلى الخطأة إلا من خلال ابنه المصلوب الذي وحّد نفسه معهم؟ كيف تفهم على ضوء ذلك عبارة يوحنا المعمدان عن يسوع الواردة في يوحنا 1: 29؟
- لقد دخل الإنسان بالخطيئة مملكة الشقاء والموت. ألم يكن يسوع غريباً عن هذه المملكة؟ لماذا قبل إذاً أن يدخل فيها بالصليب؟ ألا يدفع الحب إلى مشاركة المحبوب في آلامه؟ ألم يكن دخول يسوع مملكة الموت قضاء مبرماً عليها؟ (أنظر عبرانيين 2: 11-18 وأشعياء 9: 2 ومتى 4: 16).
* ملحق :
1 – القديس مكسيموس المعترف هو أحد كبار معلمى الكنيسة، عاش راهباً في القرن السابع ودافع عن استقامة الرأي بكتاباته بجرأة دفعت الأمبراطور البيزنطي الذي كان يرعى بدعة المشيئة الواحدة أن يأمر بقطع يده ولسانه، فلقب هكذا بالمعترف، لأنه تألم من أجل الإيمان. في المقطع الذي نثبته فيما يلي، يصف القديس مكسيموس، مستخدماً صوراً رمزية، كيف أنقذنا المسيح من عبودية الشيطان بدخوله في مملكته بالموت.
” لقد عَلّق السيد جسده الإنساني كطعم بصنارة ألوهيته، كأنه يريد بذلك أن يجتذب الشيطان. وبالفعل هذا التنين العقلي، النهم إلى جسد الإنسان فغر فاه حول هذا الطعم، حاسباً إيّاه، من جرّاء طبيعته الإنسانية، سهل المنال. وهكذا علق بصنارة الألوهة. بعد ذلك أرغمه جسد الكلمة المقدّس أن يلفظ كلياً الطبيعة الإنسانية التي كان سبق فابتلعها. وهكذا فالذي كان قد أغوى الإنسان مؤملاً إيّاه بالتأليه وابتلعه على هذا المنوال، أُجْتذِبَ بدوره بجسد الإنسان ذاته وأُرْغِم على لفظ ما كان قد ابتلعه. هكذا تجلّت القدرة الإلهية بشكل ساطع: فقد انتصرت على قوة الغالب مستخدمة بمثابة سلاح ضعف الطبيعة المغلوبة. منذ ذلك الحين أصبح الله الظافر بطبيعته الإنسانية وليس الشيطان بوعده الإنسان بالطبيعة الإلهية”.
2 – يسوع المسيح، ابن الله الوحيد، وحّد ذاته مع البشر العصاة إذ احتمل بالصليب كل لعنة الخطيئة، و”أحصي مع الأثمة”. لذلك أصبح للبشر الخطاة الدالة أن ينادوا الآب ” أبانا” من خلال الابن الوحيد الذي صار واحداً منهم. هذا ما عبّر عنه الشاعر باغي Charles Péguy بالسطور التالية:
- ” أبانا الذي في السموات، لقد علمهم ابني هذه الصلاة…
- ” أبانا الذي في السموات، لقد كان يعرف ماذا يصنع، في ذلك اليوم، ابني الذي كان يحبهم بهذا المقدار.
- ” الذي عاش بينهم، الذي كان واحداً مثلهم.
- ” الذي كان يسير مثلهم، ويتكلّم مثلهم، ويعيش مثلهم.
- ” الذي كان يتألم.
- الذي تألم مثلهم، الذي مات مثلهم…
- ” ابنى الذي أحبهم بهذا المقدار، الذي يحبهم أبدياً في السماء.
- ” أبانا الذي في السموات، تلك الثلاث وألأربع كلمات…
- ” تلك الكلمات التي تسير أمام كل صلاة كما تسير يدا المتوسّل أمام وجهه.
- ” كما أن يديّ المتوسّل المضمومتين تتقدّمان أمام وجهه و دموع وجهه.
- ” هذا ما أخبرهم ابني عنه، لقد سلم إليهم ابني.
- ” سرّ الدينونة نفسها.
- ” والآن هكذا يبدون لي، هكذا أراهم.
- ” هكذا أنا مرغم أن أراهم.
- ” كما أن أثر سفينة جميلة لا يزال يتسع حتى يتلاشى.
- ” ولكنه يبدأ برأس، وهو رأس السفينة ذاته.
- ” هكذا موكب الخطأة الهائل لا يزال يتسع حتى يتلاشى.
- ” ولكنه يبدأ برأس، وهذا الرأس يأتي إليّ، متجهاً نحوي.
- ” يبدأ برأس هو رأس السفينة ذاته.
- ” والسفينة هي ابني نفسه، حاملاً كل خطتايا العالم.
- ” ورأس السفينة هو يدا ابني المضمومتان.
- ” وأمام نظرة غضبى وأمام عدالتي.
- ” اختفوا كلهم وراءه…
- ” أبانا الذي في السموات، لقد اخترع ذلك.
- ” لقد كان معهم، لقد كان مثلهم، لقد كان واحداً منهم.
- ” أبانا، كمثل رجل يلقى معطفا كبيراً على كتفيه.
- ” ارتدى، متجها نحوي.
- ” معطف خطايا العالم..”.
Charles Péguy: Le Mystère des Saints Innocents
2 – القيامة
القيامة إنفجار قوة الفداء المحيية. ويمكننا لجلاء معانيها أن نتأملها من وجهتى النظر التاليتين:
* القيامة فيض الحياة الإلهية في إنسانية يسوع المنفتحة إلى الله بعطاء كامل :
إن الرب يسوع بالصليب بلغ قمّة التخلّي عن إرادته الذاتية وقدّم ذاته بكلّيته إلى الله الآب. تقدمة محبة كاملة وعطاء لا تحفظ فيه. هكذا أصبحت إنسانية يسوع منفتحة كل الانفتاح على الله الآب في شركة حب كاملة معه، لذا تدفقت فيها الحياة الإلهية كلها وتحولت بالمجد الإلهي. لقد كان مجد الألوهة بالطبع حالاً في المسيح منذ تجسّده، إذ لم يزل إلها بعد أن إتّخذ جسدنا، إلا أن هذا المجد كان مستتراً، محجوباً وراء الطبيعة البشرية التي إتّخذها ابن الله بحدودها وشقائه. لذا جاع المسيح وعطش وبكى وتألّم. لقد كانت الألوهة مستقرة في قلب كيانه ولكنه كان يبدو في الظاهر إنسانا كبقية الناس. ولكن عندما اكتمل عطاء يسوع المصلوب إجتاح المجد الإلهي الكامن فيه والمحتجب وراء طبيعته الإنسانية هذا الناسوت كله وملأه بقوة الله وحياته وجماله.
عند الفجر تكون الشمس أولاً متخفية وراء الأفق، يتراءى نورها خفيفً، ناعمً، لا يُبهر الأنظار، ثمّ ينفجر النهار ويغمر النور الكون كله ويضفي على الأشياء كلها بهاءاً ساطع. هكذا ألوهة الرب يسوع المسيح المستمدّة أزلياً من الله الآب فاضت بالصليب في ناسوته المنفتح كلياً إلى الآب، فتمجّد هذا الناسوت وانتصر على الموت.
لقد كانت حادثة التجلّى (أنظر مثلاً متى 17: 1 – 9 ولوقا 9: 28 – 36) مقدمة وصورة للقيامة كما يتّضح من توصية يسوع بعد الحادثة (أنظر مثلاً متى 17: 9). فعلى جبل التجلّي فاض نور الألوهة المستقرّ في الرب يسوع المسيح، في جسده، فتغيّر منظره وصار وجهه مضيئاً كالشمس وثيابه بيضاء كالثلج، لامعة كالنور. وقد حدث هذا التحوّل عندما كان موسى وإيليا، اللذان ظهر، يتحدّثان مع يسوع: “عن خروجه (أي عن موته) الذي كان مزمعاً أن يتممه في أورشليم” (لوقا 9:31). لقد تجلّى يسوع عندما كان يتحدّث عن موته، وفي ذلك إشارة إلى أن إنسانية يسوع كانت سوف تتمجّد بالموت.
تلك العلاقة الوثيقة بين الصليب وتمجيد يسوع، قد أوضحها الكتاب المقدّس في مواضع مختلفة. ففي إنجيل يوحنا نرى يسوع يقول لتلاميذه قبل آلامه بفترة وجيزة: [ وَأَمَّا يَسُوعُ فَأَجَابَهُمَا: قَدْ أَتَتِ اَلسَّاعَةُ لِيَتَمَجَّدَ اِبْنُ الإِنْسَانِ ] [ يوحنا 12: 23 ]. وأضاف موضحا كيف يتم التمجيد:[ اَلْحَقَّ اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ لَمْ تَقَعْ حَبَّةُ اَلْحِنْطَةِ فِي الأَرْضِ وَتَمُتْ فَهِيَ تَبْقَى وَحْدَهَا. وَلَكِنْ إِنْ مَاتَتْ تَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِيرٍ] [ يوحنا 12: 24 ]. تمجيد يسوع هذا، إذاً، في موته. كذلك في الصلاة التي تفوّه بها يسوع قبل خروجه مع تلاميذه إلى بستان جسيماني حيث أسلم ذاته، قال: [ أَيُّهَا الآبُ قَدْ أَتَتِ اَلسَّاعَةُ. مَجِّدِ اِبْنَكَ لِيُمَجِّدَكَ اِبْنُكَ أَيْضاً ] [ يوحنا 17: 1 ]. ” الساعة” التي أتت هي ساعة الصليب والموت كما يتضح من مكان آخر: [ فَطَلَبُوا أَنْ يُمْسِكُوهُ وَلَمْ يُلْقِ أَحَدٌ يَداً عَلَيْهِ لأَنَّ سَاعَتَهُ لَمْ تَكُنْ قَدْ جَاءَتْ بَعْدُ ] [ يوحنا 7: 30 ]. ” أتت الساعة، فمجد ابنك” يعني، إذً، أن ساعة الموت كانت بالنسبة للرب يسوع المسيح هي ساعة المجد.
الصليب، إذً، كان يحمل كلّ طاقة القيامة: لقد دخل يسوع المجد ( الذي له منذ الأزل وهو في حضن الآب ) عندما قبل بإجتياز الموت ولم يبق بعد ذلك إلا أن يظهر هذا المجد بنهوضه من بين الأموات. بالصليب، إذً، تحققت القيامة، لذلك فقد كانت آلة العار هذه بالنسبة ليسوع عرش المجد والظفر. لذا، شبهها الرسول بولس بتلك المركبة التي يقف عليها قادة روما الظافرون ويدخلون بها إلى المدينة جارين وراءهم رؤساء الأعداء مقيدين. هكذا إعتلى المسيح الصليب كمركبة ظفر وربط بها الأرواح الشريرة مقيّدة ذليلة: [ إِذْ مَحَا الصَّكَّ الَّذِي عَلَيْنَا فِي الْفَرَائِضِ، الَّذِي كَانَ ضِدّاً لَنَا، وَقَدْ رَفَعَهُ مِنَ الْوَسَطِ مُسَمِّراً إيَّاهُ بِالصَّلِيبِ، إِذْ جَرَّدَ الرِّيَاسَاتِ وَالسَّلاَطِينَ أشْهَرَهُمْ جِهَاراً، ظَافِراً بِهِمْ فِيه] [ كولوسى 2: 14، 15 ]. لذا نرى الفن البيزنطي يرسم أحياناً المصلوب متوجاً. وللسبب عينه كان المسيحيون قديماً في آسيا الصغرى، تبعاً لتقليد أخذوه عن يوحنا الحبيب، يعيّدون للقيامة يوم الجمعة العظيمة، وفي أيامنا هذه، عندما تحتفل الكنيسة الأرثوذكسية بحزن وخشوع في سحر الجمعة العظيمة بذكرى الصلب منشدة ذاك النشيد المؤث: “اليوم عُلِّقَ على خشبة الذي عَلَّقَ الأرض على المياه…”، تهتف في آخره: “نسجد لآلامك أيها المسيح، فأرنا قيامتك المجيدة”، مظهرة هكذا أنه حينما بلغت الظلمة أشدها بموت المسيح، انفجر النور في صميمها ولم يبقَ لنا إلا انتظار ظهوره في صباح الفصح. كذلك في خدمة “جناز المسيح”، التي يُحتفل بها بتذكار دفن المسيح، تنشد مع المراثي ترانيم القيامة.
* القيامة تفجير لمملكة الموت بدخول سيد الحياة فيها:
ومن جهة أخرى فقد رأينا أن الرب يسوع المسيح دخل في مملكة الموت ( وبعبارة أخرى في الجحيم ) لكى يشارك الإنسان بؤسه وشقاؤه. ولكن الموت لم يكن بإمكانه أن يضبط من هو بلاهوته سيد الحياة ومصدرها. لذلك فقد كان دخول المسيح في الموت حكماً مبرماً على الموت بالزوال. والموت نتيجة الخطيئة، ثمرتها السامة، لذا تحطيم مملكة الموت يعني أيضاً تقويض سلطة الخطيئة. لقد دخل الرب يسوع المسيح بموته في السجن الذي كنّا مقيّدين، مستعبدين، نئن تحت نير الشر والبؤس والموت، فدكّ هذا السجن الرهيب وحطمه من أساسه. فأطلق الموت يسوع وأطلق معه البشرية جمعاء التي وحد يسوع ذاته بها. لذا تنشد الكنيسة معبّرة عن الخلاص بصورة شعرية: ” أيها الرب، أيها الرب، أن أبواب الموت قد انفتحت لك من الخوف، ولما أبصرك بوابو الجحيم ارتعدو، لأنك حطمت أبوابه النحاسية وسحقت أقفاله الحديدية وأنقذتنا من ظلمة الموت وإدلهمامه وقطعت قيودنا”. وأيضاً: “جمع الملائكة انذهل متحيراً لمشاهدتهم إياك محسوباً بين الأموات أيها المخلص وساحقاً قدرة الموت ومنهضاً آدم معك ومعتقاً إيّانا من الجحيم كافة”.
هكذا تحققت بقيامة المسيح النبوة التي كان قد تفوّه بها هوشع النبى: [ مِنْ يَدِ الْهَاوِيَةِ أَفْدِيهِمْ. مِنَ الْمَوْتِ أُخَلِّصُهُمْ. أَيْنَ أَوْبَاؤُكَ يَا مَوْتُ؟ أَيْنَ شَوْكَتُكِ يَا هَاوِيَةُ؟ تَخْتَفِي النَّدَامَةُ عَنْ عَيْنَيَّ ] [ هوشع 13: 14 ]. تلك النبوة ردّد الرسول بولس صداها بعدما تحققت بالمسيح منشداً بنشوة الظفر الذي جعلنا يسوع مساهمين فيه: [ وَمَتَى لَبِسَ هَذَا الْفَاسِدُ عَدَمَ فَسَادٍ وَلَبِسَ هَذَا الْمَائِتُ عَدَمَ مَوْتٍ فَحِينَئِذٍ تَصِيرُ الْكَلِمَةُ الْمَكْتُوبَةُ: { ابْتُلِعَ الْمَوْتُ إِلَى غَلَبَةٍ }. أَيْنَ شَوْكَتُكَ يَا مَوْتُ؟ أَيْنَ غَلَبَتُكِ يَا هَاوِيَةُ؟ ] [ 1 كورونثوس 15: 54، 55 ]. وأضاف: [ أَمَّا شَوْكَةُ الْمَوْتِ فَهِيَ الْخَطِيَّةُ وَقُوَّةُ الْخَطِيَّةِ هِيَ النَّامُوسُ. وَلَكِنْ شُكْراً لِلَّهِ الَّذِي يُعْطِينَا الْغَلَبَةَ بِرَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ. ][ 1 كورونثوس 15: 56، 57 ]. معلناً أن إنتصار المسيح على الموت هو في الآن نفسه إبادة للخطيئة فينا، تلك الخطيئة التي تُنتِج الموت.
هكذا صار المسيح القائم من بين الأموات محرّر الإنسانية الحقيقي الأوحد لأنه لم يكتف بمعالجة بعض مظاهر مأساة الإنسان لكنه جابه المأساة في أعماقها وأصولها وجعل فينا طاقة تجاوزها. إنه جابه قوى الموت الكامنة في الإنسان ( أي قوى التفكك التي مزّقت الإنسان نفساً وجسماً ) ومن ورائها تلك القوة الرهيبة التي استخدمتها لاستعباد الإنسان أعني بها قوة الشيطان. لقد جابه يسوع الشيطان في عقر داره، إذا صحّ التعبير، وضع نفسه بين براثنه ليحطمه ويخلّص منه البشر. دخل إلى مملكته المظلمة ليقيّده ويُبطل قوته. وقد علّمْنا الرب يسوع نفسه هذه الحقيقة بمثل عندما قال: [ حِينَمَا يَحْفَظُ اَلْقَوِيُّ دَارَهُ مُتَسَلِّحاً تَكُونُ أَمْوَالُهُ فِي أَمَانٍ. وَلَكِنْ مَتَى جَاءَ مَنْ هُوَ أَقْوَى مِنْهُ فَإِنَّهُ يَغْلِبُهُ وَيَنْزِعُ سِلاَحَهُ اَلْكَامِلَ اَلَّذِي اِتَّكَلَ عَلَيْهِ وَيُوَزِّعُ غَنَائِمَهُ] [ لوقا 11: 21. 22 ].
هكذا انتصر المسيح على الموت لما إجتاز ظلمته، لقد “وطئ الموت بالموت” كما تنشد الكنيسة. لقد فتح باب النور والحياة بيديه الداميتين. ولكنه أحرز هذا الظفر من أجلنا نحن، ليجعلنا مساهمين فيه: نحن ظافرون إذاً على قدر إتحادنا بالمسيح الظافر. نعم، إننا لا نزال نخطئ ونتألّم ونموت، ولكن طاقة الحياة الظافرة قد زُرِعَتْ في أعماقنا. من يمرّ على حقل بعد أن زُرعت فيه البذور يخاله جامدً، ميتً، ولكن الحياة كامنة في أعماقه تتحفز للوثوب وسوف تنتصب بعد فترة تحت السماء سنابل ذهبية تتماوج في النور. عندما كان يسوع موضوعاً في القبر، كان يبدو ميتا كبقية الموتى ولكن الحياة كلها كامنة في هذا الجسد الساكن، كقنبلة مؤقتة كان لابد لها أن تفجّر الموت وتدحْرج حجر الضريح. هكذ، فالمتحدون بيسوع يحملون في أجسادهم المائتة ونفوسهم التي لم تتحرّر بعد كلياً من ضعفه، طاقة قيامة ربهم التي سوف تحوّلهم في اليوم الأخير على صورة السيد الناهض من بين الأموات. [ لأَنَّ هَذَا الْفَاسِدَ لاَ بُدَّ أَنْ يَلْبَسَ عَدَمَ فَسَادٍ وَهَذَا الْمَائِتَ يَلْبَسُ عَدَمَ مَوْتٍ ] [ 1 كورونثوس 15: 53 ]. وقد كتب الرسول يوحنا بهذا المعنى، مظهراً كيف أننا في آن حاصلون على التجدّد ومنتظرون إعلانه الكامل فينا: [ أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ، نَحْنُ الآنَ أَوْلاَدُ اللهِ. وَلاَ نَعْلَمُ حَتَّى الآنَ مَاذَا سَنَكُونُ، لَكِنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّهُ مَتَى أُظْهِرَ الْمَسِيحُ، سَنَكُونُ مِثْلَهُ، لأَنَّنَا سَنَرَاهُ عِنْدَئِذٍ كَمَا هُوَ! ] [ 1 يوحنا 3: 2 ].
بالقيامة تحقق الخلاص الذي شاء الرب أن يتممه بتجسّده وصلبه. القيامة، إذاً، علامة نجاح خطة الله لإنقاذ الإنسان. إنها برهان خلاصنا. ولذلك، فهي الركيزة الأساسية للبشارة المسيحية. فقد كان الرسل قبل كل شيء شهوداً لقيامة الرب يسوع المسيح: [ فَيَنْبَغِي أَنَّ اَلرِّجَالَ اَلَّذِينَ اِجْتَمَعُوا مَعَنَا كُلَّ اَلزَّمَانِ اَلَّذِي فِيهِ دَخَلَ إِلَيْنَا اَلرَّبُّ يَسُوعُ وَخَرَجَ. مُنْذُ مَعْمُودِيَّةِ يُوحَنَّا إِلَى اَلْيَوْمِ اَلَّذِي اِرْتَفَعَ فِيهِ عَنَّا يَصِيرُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ شَاهِداً مَعَنَا بِقِيَامَتِهِ ] [ أعمال الرسل 1: 21، 22 ]. وكتب الرسول بولس إلى أهل كورونثوس: [ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَسِيحُ قَدْ قَامَ فَبَاطِلَةٌ كِرَازَتُنَا وَبَاطِلٌ أَيْضاً إِيمَانُكُمْ ] [ 1 كورونثوس 15: 14 ]. القيامة قلب الإيمان المسيحي والحياة الروحية. إنها أيضا محور الترتيب الطقسي، فكل يوم أحد تذكار للقيامة، وكل قدّاس إلهي هو إستمرار له، والصوم الكبير إستعداد للفصح، والفصح “عيد الأعياد وموسم المواسم” كما تسميه الطقوس، و”قلب الأرثوذكسية” كما دعاه اللاهوتي الأرثوذكسي المعاصر الأب بولغاكوف، فيه تنشد الكنيسة متهللة بفرح يفوق الأرض: “اليوم يوم القيامة، فسبيلنا أن نتهلل أيها الشعوب، لأن الفصح هو فصح الرب، وذلك لأن المسيح إلهنا قد أجازنا (كلمة فصح معناها: اجتياز، عبور) من الموت إلى الحياة ومن الأرض إلى السماء، نحن المنشدين لنه نشيد النصر والظفر” (قانون سحر الفصح).
* أسئلة:
- إذا كان الموت قد نتج عن إنغلاق الإنسان على ذاته دون الله، فكيف كانت قيامة المسيح مرتبطة بإنفتاحه الكلي بالصليب إلى الآب؟
- ألم تكن حادثة التجلي (إقرأها في متى 17: 1-9 ولوقا 9: 28-36) مقدمة وصورة للقيامة؟ (أنظر متى 17: ). كيف يظهر ذلك؟ ألا يظهر ارتباط بين هذه الحادثة وموت المسيح؟ (أنظر لوقا 9: 31). إلى ما يشير هذا الإرتباط؟
- تمجيد يسوع، وإن أُعلن بعد الصليب بنهوض السيد من بين الأموت، إلا أنه تم بالصليب الذي صار بالنسبة ليسوع مرادفاً للمجد. كيف يظهر هذا الترادف في الإنجيل (أنظر يوحنا 12: 23 و24، ويوحنا 17: 1) وفي طقوس أسبوع الآلام (تأمل مثلاً في ترتيمة: “اليوم عُلِّقَ على خشبة…”) وفي حدمة “جناز المسيح”؟
- إذا كان رب الحياة قد دخل طوعاً بموته إلى مملكة الموت، فهل كان بإمكان تلك المملكة أن تضبطه؟ (أنظر هوشع 13: 4 و1كورنثوس 15: 54 و55). ماذا نتج إذاً عن دخوله فيها بالنسبة له ولنا؟
- تحطيم الموت ألا يعني أيضاً تحطيم قوى الخطيئة التي هي أصل الموت؟ (أنظر 1كورثنوس 15: 56 و57).
- ألا يعني أيضاً القضاء على قدرة الشيطان الذي كان يستعبدنا بالخطيئة والموت؟ (أنظر لوقا 11: 21 و22).
- هل ظفر يسوع من أجل نفسه أم من أجلنا؟ كيف التوفيق بين كوننا مساهمين في ظفره وكوننا لا نزال نشقى ونخطئ ونموت؟ (تأمل في وضع المسيح عندما كان طريح القبر وفكّر، على سبيل الصورة، بحقل طُمرت فيه البذور).
- ماهي القيامة بالنسبة للإيمان المسيحي؟ (أنظر أعمال الرسل 1: 21 و22 و1كور 15: 14). ما هي أهميتها في الترتيب الطقسي؟
* ملحق – عظة للقدّيس يوحنا ذهبى الفم بمناسبة أحد الفصح المجيد:
من كان حسن العبادة ومحباً لله فليتمتع بحسن هذا الموسم البهيج. من كان عبداً شكوراً فليدخل إلى فرح ربه مسروراً. من تعب صائماً فليأخذ الآن أجرته ديناراً. من عمل من الساعة الأولى فلينل اليوم حقه بعدل. من قدِم بعد الساعة الثالثة فليعيّد شاكراً. من وفي بعد الساعة السادسة فلا يشك فإنه لا يخسر شيئاً. من تأخّر إلى الساعة التسعة فليتقدّم غير مرتاب. من وصل الساعة الحادية عشرة فلا يخف الإبطاء فإن السيد كريم جوّاد، يقبل الأخير مثل الأول، ويربح العامل من الساعة الحادية عشرة مثل العامل من الساعة الأولى. يرحم الأخير ويرضى الأول. يعطي ذاك ويهب هذا. يقبل الأعمال ويسر بالنية. يُكرم الفعل ويمدح العزم. فإدخلوا إذاً كلكم إلى فرح ربكم. أيها الأولون والأخيرون خذوا أجوركم. أيها الأغنياء والفقراء أطربوا معا فرحين. أمسكتم وتوانيتم أكرموا هذا النهار. صمتم ولم تصوموا أفرحوا اليوم. المائدة ملآنة فتمتعوا كلكم. العجل سمين وافٍ فلا يخرجن أحداً جائعا. تمتعوا كلكم بوليمة الإيمان. تمتعوا كلكم بوليمة الصلاح. لا ينوحنّ أحد عَن فقر فإن المملكة العامة قد ظهرت. لا يندبنّ أحد على إثم فإن الصفح قد بزغ من القبر. لا يخف أحد الموت فإن موت المخلص قد حرّرنا. فإنه قد أخمد الموت حين قبض الموت عليه، وسبى الجحيم بنزوله إليه. مرمره لما ذاق جسده. هذا ما سبق أشعياء ونادى به قائلاً: تمرمر لما إلتقاك أسفل. تمرمر لأنه بطل. تمرمر لأنه هُزئ به. تمرمر لأنه قد أميت. تمرمر لأنه قد أبيد. تمرمر لأنه قد رُبط. تناول جسداً فصادف إله. تناول أرضاً فألفاها سماءاً. تناول ما نظر، فسقط من حيث لم ينظر. أين شوكتك ياموت؟. أين غلبتك يا جحيم؟. قام المسيح وأنت صرعت. قام المسيح والشياطين تساقطت. قام المسيح والملائكة جذلو. قام المسيح والحياة انبعثت. قام المسيح ولا أحد ميت في القبر. قام المسيح من الأموات فصار باكورة الراقدين. فله كلّ المجد والعزّة إلى دهر الداهرين. آمين.
3 – إشتراكنا في صليب الرب وقيامته
* إن ما فعله الرب بإجتيازه الموت الذي قاده إلى القيامة، إنما فعله من أجلنا.
ذلك أن الإنسان كان عليه، كي يُخلّص من شقائه وتفككه،أن يقبل بالتخلّي عن تعبده للأنا، فيلاقي الله من جديد وينعم بحياته. ولكن الإنسان الساقط لم يعد قادراً على هذا التخلّي لأن في ممارسته شعوراً بالإنسلاخ والفراغ وضياع الذات. وبعبارة أخرى، إذا شاء الإنسان أن يعرض عن إتخاذ الأنا محوراً لكل شيء، شعر وكأنه يموت، كأن حياته تفلت منه. لذا يتمسّك الإنسان بأنانيته مخافة من الموت. ولكنه بذلك يبقى بعيداً عن الله، ينبوع الحياة، وبالتالي يبقى أسير الموت (بمعناه العام، أي بمعنى التفكك الكياني الذي ليس الموت الجسدي سوى مظهر من مظاهره). إذً، الإنسان يبقى أسير الموت بداعي خوفه من الموت. تلك هي المفارقة الكبرى التي هي في صميم مأساة الإنسان والتي يمكن لكلّ واحد منا أن يختبره.
فلنتساءل: لماذا نخطئ، فنجعل حاجزاً بين الله وبيننا؟. الجواب العميق عن هذا السؤال هو أننا نخطئ مخافة من الموت. لماذا يسرق الإنسان؟. لأنه مثلاً يخاف من الحرمان، والحرمان نوع من الموت. لماذا يكذب؟ لأنه مثلاً يخاف من العقاب، والعقاب نوع من الموت. لماذا يزني؟ لأنه في كثير من الأحيان يخاف من العزلة، والعزلة نوع من الموت. لماذا يتباهى؟. لأنه يخاف أن لا يعجب به الناس، أن يهملوه، وإهمال الناس له نوع من الموت. مجمل الكلام أننا نستعبد أنفسنا للخطيئة، وبالتالي للموت، الذي هو على حدّ تعبير الرسول بولس: [ أَجْرُ اَلْخَطِيْئَةِ ] [ رومية 6: 32 ]. (لأن الخطيئة تفصل عن الله مصدر الحياة)، بسبب خوفنا من الموت. هذا ما عبّر عنه الكتاب المقدّس في الرسالة إلى العبرانيين بقوله: [ وَيُعْتِقَ أُولَئِكَ الَّذِينَ خَوْفاً مِنَ الْمَوْتِ كَانُوا جَمِيعاً كُلَّ حَيَاتِهِمْ تَحْتَ الْعُبُودِيَّةِ ] [ عبرانيين 2: 15 ].
ولنا نموذج لذلك في علاقتنا البشرية. كل إنسان يحلم بأن يعيش صداقة كاملة وحباً كاملاً، لأن قلبه يتوق إلى شركة إنسانية كهذه يروى بها عطشه إلى حياة كاملة. ولكن الصداقة الكاملة والحب الكامل أمران يسعى إليهما الإنسان دون أن يتمكّن من إدراكهما كلياً. إنه في أحسن الإحتمالات يقترب من تحقيقهما ولكنه، حتى في هذه الحال، يبقى على شيء كثير من العطش والعزلة. إن إتحاده بمن يحب لا يمكن أن يكون كامل. لماذا؟ لأن إتحاد الإنسان بمن يحبه لا يتم إلا إذا قبل الإنسان بأن لا يكون أناه محوراً لوجوده، بأن يتخلّى عن تملّك ذاته، بعبارة أخرى إذا قبل الإنسان بأن يمر بخبرة الموت. ولكن الإنسان في وضعه الساقط، وأن قبل جزئياً بتلك الخبرة، لا يستطيع أن يقبلها كلياً وفي الصميم. أنه يخاف الموت ولذا يبقى أسير العزلة وبالتالي أسير الموت.
* يسوع المسيح وحده تمم بناسوته ما لم يكن بوسع أى إنسان أن يتممه.
الإنسان يسوع المسيح استطاع وحده أن يتخلّى بالحقيقة عن تملّك ذاته، وبعبارة أخرى استطاع وحده أن يقبل الموت بالكلية وفي الصميم. ولذ، استطاع وحده أن يلج بإنسانيته إلى مجد الله.لقد كان رئيس الكهنة عند اليهود يدخل مرة في السنة إلى قدس الأقداس ( الذي كان يمثل السماء ) حاملاً دم الذبائح. الرسالة إلى العبرانيين تقول لنا أن ذلك كان رمزاً للمسيح الذي كان في الآن نفسه الكاهن والذبيحة، وقد دخل بدمه المسفوك إلى مجد الله: [ وَأَمَّا الْمَسِيحُ، وَهُوَ قَدْ جَاءَ رَئِيسَ كَهَنَةٍ لِلْخَيْرَاتِ الْعَتِيدَةِ، فَبِالْمَسْكَنِ الأَعْظَمِ وَالأَكْمَلِ، غَيْرِ الْمَصْنُوعِ بِيَدٍ، أَيِ الَّذِي لَيْسَ مِنْ هَذِهِ الْخَلِيقَةِ. وَلَيْسَ بِدَمِ تُيُوسٍ وَعُجُولٍ، بَلْ بِدَمِ نَفْسِهِ، دَخَلَ مَرَّةً وَاحِدَةً إِلَى الأَقْدَاسِ، فَوَجَدَ فِدَاءً أَبَدِيّاً ] [ عبرانيين 9: 11، 12 ]. هذا الدخول إلى مجد الله إنما ظهر بالقيامة.
* ولكن يسوع المسيح قد أتمّ هذا العطاء الكامل لا من أجل نفسه بلّ بالنيابة عن البشر أجمعين.
عندما قبل الموت كلياً إنما قبله كممثل عن البشر الذين لا يستطيعون هم قبوله. هذا ما عبّر عنه الرسول بولس بقوله: [ لأَنَّ مَحَبَّةَ اَلْمَسِيحِ تَحْصُرُنَا. إِذْ نَحْنُ نَحْسِبُ هَذَا: أَنَّهُ إِنْ كَانَ وَاحِدٌ قَدْ مَاتَ لأَجْلِ اَلْجَمِيعِ. فَالْجَمِيعُ إِذاً مَاتُوا ] [ 2 كورونثوس 5: 14 ]. عطاؤنا ناقص لا يمكن أن نبلغ به إلى الله، إنه مشوب بالأنانية المستحكمة فينا بسبب خوفنا من الموت. ولكننا نستطيع أن نلج إلى الله من خلال عطاء يسوع المسيح الكامل. يسوع، بما أنه قربان كامل لله، يشفع بضعفنا وعجزنا ويقرّبنا من الله، كأننا طيور مكسورة الأجنحة يحملها نسر قوي ويحلّق بها إلى أقصى الفضاء: [ لأَنَّهُ كَانَ يَلِيقُ بِنَا رَئِيسُ كَهَنَةٍ مِثْلُ هَذَا، قُدُّوسٌ بِلاَ شَرٍّ وَلاَ دَنَسٍ، قَدِ انْفَصَلَ عَنِ الْخُطَاةِ وَصَارَ أَعْلَى مِنَ السَّمَاوَاتِ ] [ عبرانين 7: 25 ]. بذبيحة الرب يسوع إذاً، تلك الذبيحة التي تبلغ وحدها السماوات، ننال القيامة التي هي تدفق الحياة الإلهية في كياننا المتفكك، المائت.
* ولكن الفداء لا يفعل فينا بشكل سحري.
الله لا يُخلّص الإنسان بالاستقلال عن إرادة الإنسان لأنه يحترم حريته. لذا لا ينال القيامة من يرفض الإشتراك في صليب المسيح، أي من لا يقبل أن يدخل في طريق الموت عن الذات سلكها يسوع حتى النهاية. لقد علّمنا الرب صراحة أنه لا يسعنا الإشتراك معه في الحياة الإلهية ( أي في قيامته ) إن لم نسلك في أثره طريق الموت:
[ إِنْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعْنِي فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَلِّصَ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا وَمَنْ يُهْلِكُ نَفْسَهُ مِنْ أَجْلِي يَجِدُهَا ] [ متى 16: 24، 25 ]. وقد علّمنا الرسول بولس أن إشتراكنا في الصليب ضروري إذا شئنا أن نكون منتمين إلى المسيح وبالتالي أبناء القيامة: [ وَلَكِنَّ اَلَّذِينَ هُمْ لِلْمَسِيحِ قَدْ صَلَبُوا اَلْجَسَدَ ( أى الخطيئة، أى عبادة الذات ) مَعَ اَلأَهْوَاءِ وَاَلشَّهَوَاتِ ] [ غلاطية 5: 24 ]. و[ فَإِنْ كُنَّا قَدْ مُتْنَا مَعَ اَلْمَسِيحِ نُؤْمِنُ أَنَّنَا سَنَحْيَا أَيْضاً مَعَهُ ] [ رومية 6: 8 ]. و[ حَامِلِينَ فِي الْجَسَدِ كُلَّ حِينٍ إِمَاتَةَ الرَّبِّ يَسُوعَ، لِكَيْ تُظْهَرَ حَيَاةُ يَسُوعَ أَيْضاً فِي جَسَدِنَا ] [ 2 كورونثوس 4: 10 ]. و[ لأَعْرِفَهُ، وَقُوَّةَ قِيَامَتِهِ، وَشَرِكَةَ آلاَمِهِ، مُتَشَبِّهاً بِمَوْتِهِ، لَعَلِّي أَبْلُغُ إِلَى قِيَامَةِ اَلأَمْوَاتِ ] [ فيليبى 3: 10، 11 ].
* إننا في وضعنا الساقط لا نستطيع بالطبع أن نقدّم ذواتنا بالكلية، ولكن المطلوب منا أن نجتهد في هذا السبيل.
أن ننوى بصدق السير في طريق نكران الذات وراء المعلم. تلك هي التوبة في الأساس. إنها سير في طريق إسلام الذات لله. وهذا السير يدوم الحياة كلها لأن عطاءنا يبقى ناقصا ما حيين. لذا فالكنيسة ليست كنيسة الصديقين بلّ كنيسة التائبين أي العائدين من عبادة ذواتهم إلى عبادة ربهم. ولنا في هذا السير دافعان يشددان عزمنا:
أ. محبة المسيح لنا:
لقد تجلّت محبة المسيح لنا بشكل باهر في بذله ذاته من أجلنا. وقد قال هو عن نفسه: [ لَيْسَ لأَحَدٍ حُبٌّ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا أَنْ يَضَعَ أَحَدٌ نَفْسَهُ لأَجْلِ أَحِبَّائِهِ ] [ يوحنا 15: 13 ]. وأيضا: [ أَمَّا أَنَا فَإِنِّي الرَّاعِي الصَّالِحُ وَأَعْرِفُ خَاصَّتِي وَخَاصَّتِي تَعْرِفُنِي، كَمَا أَنَّ الآبَ يَعْرِفُنِي وَأَنَا أَعْرِفُ الآبَ. وَأَنَا أَضَعُ نَفْسِي عَنِ اَلْخِرَافِ ] [ يوحنا 10: 14، 15 ]. هذا الحب المبذول يثير حبنا ويدفعنا إلى أن نحيا فيما بعد لا لذواتنا بل للذى مات عنّا حباً. بهذا المعنى كتب بولس الرسول: [ لأَنَّ مَحَبَّةَ اَلْمَسِيحِ تَحْصُرُنَا. إِذْ نَحْنُ نَحْسِبُ هَذَا: أَنَّهُ إِنْ كَانَ وَاحِدٌ قَدْ مَاتَ لأَجْلِ اَلْجَمِيعِ. فَالْجَمِيعُ إِذاً مَاتُوا. وَهُوَ مَاتَ لأَجْلِ اَلْجَمِيعِ كَيْ يَعِيشَ اَلأَحْيَاءُ فِيمَا بَعْدُ لاَ لأَنْفُسِهِمْ، بَلْ لِلَّذِي مَاتَ لأَجْلِهِمْ وَقَام ] [ 2 كورونثوس 5: 14، 15 ]. وفي مكان آخر كتب: [ مَعَ الْمَسِيحِ صُلِبْتُ، فَأَحْيَا لاَ أَنَا بَلِ الْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ. فَمَا أَحْيَاهُ الآنَ فِي الْجَسَدِ فَإِنَّمَا أَحْيَاهُ فِي الإِيمَانِ، إِيمَانِ ابْنِ اللهِ، الَّذِي أَحَبَّنِي وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِي ] [ غلاطية 2: 20 ]. أي أنني أسلّم ذاتي ( هذا هو المعنى العميق للإيمان ) لذلك الذي أسلَم ذاته لأجلي. هكذا فالحب الذي تثيره فينا محبة المسيح المبذولة لنا حتى الموت يساعدنا على التغلّب على الخوف من الموت، ذلك الخوف الذي يحول دون تقدمة ذواتنا. هذا ما تنشده الكنيسة عن الشهداء: { لأن المحبة قد غلبت الطبيعة ( أى مخافة الموت المتأصلة في طبيعتنا ) وجعلت العاشق أن يتّحد بواسطة الموت بالمعشوق } ( خدمة عيد القديس جورجيوس ).
ب. ثقتنا بانتصار المسيح على الموت:
ومن جهة أخرى فإن حدّة الخوف من الموت تخف فينا لمعرفتنا أن المسيح قهره بمروره فيه. فيما كان يتحدّث عن قيامة السيد، هتف الرسول بولس بلهجة الانتصار: “أين شوكتك ياموت؟” (1 كورونثوس 15: 55). ونحن إذا شئنا التخلّي عن أنانيتنا ومررنا من جراء ذلك في خبرة الموت يهدأ جزعنا لعلمنا أننا لسنا نجتاز هذه الخبرة وحدنا، بل بمعيّة ذاك الذي إجتاز الموت قبلنا وقهره: [ أَيْضاً إِذَا سِرْتُ فِي وَادِي ظِلِّ اَلْمَوْتِ لاَ أَخَافُ شَرّاً لأَنَّكَ أَنْتَ مَعِي. عَصَاكَ وَعُكَّازُكَ هُمَا يُعَزِّيَانِنِي ] [ مزمور 23: 4 ].
* إننا نتمرّس، إذاً، على تقدمة ذواتنا مدفوعين بالحب الذي تثيره فينا محبّة الرب لنا وبثقتنا بانتصاره على الموت. ولكن الرب أيضاً يعين ضعفنا.
ذلك أننا إذا قبلنا أن نشترك في صليبه، فإن تقدمتنا هذه، وإن كانت لا تزال ناقصة، مشوبة بالأنانية، تبلغ إلى الله محمولة على أجنحة تقدمته هو، كما رأينا. وبعبارة أخرى فإن قبولنا الإشتراك في صليب المسيح يجعلنا مشتركين في قيامته أيضاً، أي في الحياة الإلهية التي إحتاجت إنسانيته المقرّبة إلى الله. وإذا تدفقت الحياة الإلهية فينا، أصبحنا أكثر قدرة على المحبّة والعطاء. تلك هي النعمة الإلهية التي تجدّدنا باستمرار بفعل صليب الرب وقيامته.
* هذا ما يجرى خاصة عند إقتبالنا الأسرار الإلهية.
فعند إقامة سر الشكر مثلاً، في القدّاس الإلهي، يأتي المؤمنون إلى الله بتوبتهم ( أي بعزمهم على إسلام ذواتهم لله ) ولكن هذه التقدمة لا تبلغ إلى الله إلا لكونها تندمج في التقدمة الكاملة الوحيدة، تقدمة المسيح المصلوب التي يشكّل كل قداس إمتداداً له. إستحالة الخبز والخمر ( اللذين يمثلان تقدمة البشر ) إلى جسد ودم المسيح معناها أن المسيح إتخذ توبة البشر الناقصة ودمجها بتقدمته هو ليوصلها إلى الآب. هكذا يبلغ المؤمنون بالمسيح إلى الله وينالون بتناول القرابين الحياة الإلهية فيصيرون مشاركي القيامة التي تجدّدهم وتؤهلهم لأن يكونوا بدورهم قرابين.
* هكذا بالتوبة التي هي عملية تستمر العمر كلّه – لأن طاعتنا لله ناقصة ما حيينا –
وبالأسرار، نشترك أكثر بصليب المسيح وقيامته. بالتوبة والأسرار يتصور المسيح أكثر فأكثر فينا على حدّ تعبير الرسول، أي نصبح أكر فأكثر مساهمين في انفتاحه التام للآب وفي تدفّق الحياة الإلهية فيه. وهكذا شيئاً فشيئاً نصبح على حد تعبير الرسول: “أمواتاً للخطيئة” (رومية 6: 11). وشيئاً فشيئاً نستطيع أن نتبنى قول الرسول: “أني قد صلبت مع المسيح، فلست أنا حياً بعد بل المسيح يحيا فيّ” (غلاطية 2: 19، 20).
Questions:
- هل بإمكان الإنسان لو ترك نفسه، أن يتخلى عن عبادة الأنا ليعيد الاتصال بالله ويستعيد الحياة الإلهية؟ ما الذي يحول بينه وبين هذا التخلي؟
- أليست إذاً التقدمة الوحيدة الكاملة التي تبلغ وحدها إلى الله هي تقدمة المسيح؟ (أنظر عبرانيين 10: 5 و7 و9: 11 و12).
- ولكن هل تمم المسيح العطاء من أجله هو أم بالنيابة عن البشر أجمعين؟ (أنظر كورنثوس 5: 14).
- ألا يعني ذلك أن تقدمتنا الناقصة تبلغ إلى الله محمولة على جناحي تقدمة المسيح الكاملة؟ (أنظر عبرانيين 7: 25).
- ولكن هل يمكننا أن نستفيد من الفداء إن لم نكن مزمعين على الاشتراك في تقدمة المسيح؟ (أنظر متى 16: 24 و 25، غلاطية 5: 24، 2 كورنثوس 4: 10 و11 ورومية 6: 8).
- أليست التوبة (وهي تعني في العربية: عودة) إذاً هي في الاساس هذا السير في طريق تسليم الذت لله مع المسيح؟ هل ينتهي هذا السير طالما نحن على قيد الحياة؟
- كيف تدفعنا محبة المسيح الذي بذل ذاته لأجلنا (أنظر يوحنا 15: 13، يوحنا 10: 14 و15) إلى السير في هذا الطريق؟ (أنظر 2 كورنثوس 5: 14 و15 وغلاطية 2: 20).
- في طريق نكران الذات، الذي فيه شيء من خبرة الموت، ألا تشدد ثقتنا بإنتصار المسيح على الموت عزائمنا؟ (أنظر مزمور 22: 4 و 1كورنثوس 15: 55).
- إذا كانت التوبة تفتح لنا باب القيامة لأنها تشركنا بصليب المسيح، أليس صحيحاً من جهة أخرى أن قوة القيامة إذ تسربت إلينا تجعل توبتنا أكمل؟
- أليست الأسرار -التي لا تفعل فينا إلا بالتوبة- إشتراكاً في صليب المسيح وقيامته؟ كيف يتم ذلك في المعمودية؟ (انظر رومية 6: 3-11). كيف يتم ذلك في سر الشكر؟
4 – الفداء ومحبة القريب
* محبة الفادي لنا تلهم محبتنا للناس:
محبة الفادي التي تجلّت في بذله ذاته عنّا هي بمثابة النار التي لا بدّ أن تُلْهب ما حولها. إنها حَرِيّة بأن تُضرم فينا بدورنا نار المحبة. لقد قال الرب بهذا المعنى: [ جِئْتُ لأُلْقِيَ نَاراً عَلَى اَلأَرْضِ فَمَاذَا أُرِيدُ لَوِ اِضْطَرَمَتْ؟ ] [ لوقا 12: 49 ]. الحب يستدعي الحب. لقد بيّن علم النفس الحديث أن الطفل يستمد من محبة والديه له المقدرة على أن يحب بدوره الناس، وبعبارة أخرى إن حب والديه له يوقظه إلى الحب، يفجّر فيه طاقة الحبّ. هكذا المحبة الفائقة التي أبداها الرب نحونا تنتزعنا من إكتفائيتنا لتلقى بنا بدورنا في مجازفة الحب. هذا الجواب الحي على محبّة السيّد يتّخذ، كما رأينا، شكل الحب لشخصه، ولكنه يتّخذ أيضاً شكل محبّة البشر. ذلك لأنه لا يسعنا، إذا كنّا مؤمنين، إلا أن نرى في كل إنسان، أيّاً كان: [ فَيَهْلِكَ بِسَبَبِ عِلْمِكَ اَلأَخُ اَلضَّعِيفُ اَلَّذِي مَاتَ اَلْمَسِيحُ مِنْ أَجْلِهِ ] [ 1كورونثوس 8: 11 ]. عند ذاك يصبح كل إنسان، في نظرنا، ذا قيمة لا تقدّر، قيمة الدم الإلهي الذي سكب من أجله.
* إن محبة الفادي لنا تعين نوعية محبيتنا للناس:
محبّة الفادي لا تُلْهِم محبتنا للناس وحَسْب، ولكنها أيضا تعين نوعيته. ذلك أنه ينبغي لنا أن نحبّ الناس بالمحبّة التي أحبهم بها المسيح. تلك هي وصية السيد في خطابه الوداعي: [ هَذِهِ هِيَ وَصِيَّتِي أَنْ تُحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضاً كَمَا أَحْبَبْتُكُمْ ] [ يوحنا 15: 12 ]. هذا يعنى أنه ينبغي أن تكون لمحبتنا للناس الصفات التالية:
أ – مبنية على بذل الذات:
يُكْثر الناس من استعمال كلمة ” أحبّ”، ولكنها هيهات أن يكون الحب الذي يتحدّثون عنه في كثير من الأحيان هو الحب الأصيل الذي عاشه السيّد. ” أحب التفاح” يعني أننى أتلف التفاح من أجل لذتي. ” أحبّ” إنسانا يعنى في كثير من الأحيان، إذا شئت أن أواجه حقيقتي، أنني أريد تسخيره وإستغلاله لشهوتي ومصلحتي. أمّا المسيح فقد أحبّنا من أجل أنفسنا وعوض أن يُسَخّرنا له سَخّرَ نفسه لأجلنا. لقد إعتبر أن لنا من الأهمية ما يُبرّر سفك دمه الإلهي عنّا. فأتاح لنا هكذا أن نكتشف المحبّة الحقة التي تقوم على العطاء. ولذا نرى الرسل يحثونا على إقتفاء آثتار السيّد في محبتنا للناس، فقد قال الرسول يوحنا: [ وَمِقِيَاسُ الْمَحَبَّةِ هُوَ الْعَمَلُ الَّذِي قَامَ بِهِ الْمَسِيحُ إِذْ بَذَلَ حَيَاتَهُ لأَجْلِنَا. فَعَلَيْنَا نَحْنُ أَيْضاً أَنْ نَبْذُلَ حَيَاتَنَا لأَجْلِ إِخْوَتِنَا ] [ 1 يوحنا 3: 16 ]. “أن نبذل نفوسنا”: يسوع لم يعطِ فقط أشياء مما له، إنما أعطى ذاته للناس، طيلة حياته أولاً، التي كانت مسخّرة لخدمتهم، ثم في تقدمته الكبرى على الصليب. ما يُطلب منّا أن لا نكتفي نحن أيضاً بإعطاء بعض الوقت والمال للغير، بلّ أن يكون الغير شغلنا الشاغل وموضوع إهتمامنا الدائم. المطلوب أن لا نعود نحن مركز إهتمام ذواتنا بلّ أن يصبح الغير هم مركز الإهتمام، كما كتب الرسول بولس: [ فَيَجِبُ عَلَيْنَا نَحْنُ الأَقْوِيَاءَ أَنْ نَحْتَمِلَ أَضْعَافَ اَلضُّعَفَاءِ وَلاَ نُرْضِيَ أَنْفُسَنَا. فَلْيُرْضِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا قَرِيبَهُ لِلْخَيْرِ لأَجْلِ اَلْبُنْيَانِ. لأَنَّ اَلْمَسِيحَ أَيْضاً لَمْ يُرْضِ نَفْسَهُ بَلْ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: تَعْيِيرَاتُ مُعَيِّرِيكَ وَقَعَتْ عَلَيَّ ] [ رومية 15: 1 – 3 ].
ب – تتجلّى بالمشاركة:
المسيح إذ أحبنا شاركنا حياتنا وآلامنا وموتنا. ومحبتنا نحن أيضاً يجب أن تتحلّى بالمشاركة. قد يكون في الشفقة ترفّع عن الغير، ولذا فقد تجرح الناس وتضيف إلى آلامهم ألما جديداً ومرارة. ولكن المشاركة تضمد الجراح لأننا بها نكون مع المتألم وليس فوقه. لذلك أوصى الكتاب: [ فَرَحاً مَعَ اَلْفَرِحِينَ وَبُكَاءً مَعَ اَلْبَاكِينَ ] [ رومية 12: 15 ]. وأيضاً: [ اُذْكُرُوا الْمُقَيَّدِينَ كَأَنَّكُمْ مُقَيَّدُونَ مَعَهُمْ، وَالْمُذَلِّينَ كَأَنَّكُمْ أَنْتُمْ أَيْضاً فِي الْجَسَدِ ] [ عبرانيين 13: 3 ]. وقد عاش الرسول بولس المحبّة إلى حدّ المشاركة الصميمة في المآسي التي أحسّها: [ مَنْ يَضْعُفُ وَأَنَا لاَ أَضْعُفُ؟ مَنْ يَعْثُرُ وَأَنَا لاَ أَلْتَهِبُ؟ ] [ 2 كورونثوس 11: 29 ].
ج – توجه الإرادة والعمل:
ولكن هذه المشاركة لا قيمة لها إن لم تتعدّ صعيد العاطفة. فقد نريح ضميرنا بشكل رخيص مكتفين بأن ” نشعر” مع الناس. ولكن مشاعرنا لا تهم الله كثيراً. أن ما يهمه إرادتنا. المسيح لن يتلهَّ بتعابير غنائية عن المحبة وإنما عاشها في عرق وجهاد وفي النهاية بتسلم ذاته للموت. لذ، فليس المهم أن ” أحسّ” نحو الناس بانعطاف، إنما المهم أن أوجّه إرادتي بالفعل نحو خدمتهم. هذا ما علّمنا إيّاه الرسول يوحنا بقوله: [ أَيُّهَا الأَوْلاَدُ الصِّغَارُ، لاَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مَحَبَّتُنَا مُجَرَّدَ ادِّعَاءٍ بِالْكَلاَمِ وَاللِّسَانِ، بَلْ تَكُونَ مَحَبَّةً عَمَلِيَّةً حَقَّةً ] [ 1 يوحنا 3: 18 ].
د – مجانية، غير مشروطة:
لقد كان الله هو البادئ بالمحبّة، إذ أن الإله المتجسّد بذل نفسه عنّا بغض النظر عن عدائنا له، عن رفضنا إيّاه. لقد أحبنا مجاناً، دون قيد وشرط، لا لسبب آخر سوى حبّه المجانى. هذا ما حدّثنا عنه الرسول بولس بقوله: [ لأَنَّ الْمَسِيحَ إِذْ كُنَّا بَعْدُ ضُعَفَاءَ مَاتَ فِي الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ لأَجْلِ الْفُجَّارِ. فَإِنَّهُ بِالْجَهْدِ يَمُوتُ أَحَدٌ لأَجْلِ بَارٍّ. رُبَّمَا لأَجْلِ الصَّالِحِ يَجْسُرُ أَحَدٌ أَيْضاً أَنْ يَمُوتَ. وَلَكِنَّ اللهَ بَيَّنَ مَحَبَّتَهُ لَنَا لأَنَّهُ وَنَحْنُ بَعْدُ خُطَاةٌ مَاتَ اَلْمَسِيحُ لأَجْلِنَا. ] [ رومية 5: 6 – 8 ]. وبالمعنى نفسه كتب الرسول يوحنّا: [ وَفِي هَذَا نَرَى الْمَحَبَّةَ الْحَقِيقِيَّةَ، لاَ مَحَبَّتَنَا نَحْنُ لِلهِ، بَلْ مَحَبَّتَهُ هُوَ لَنَا. فَبِدَافِعِ مَحَبَّتِهِ، أَرْسَلَ ابْنَهُ كَفَّارَةً لِخَطَايَانَا ] [ 1 يوحنا 4: 10 ]. هكذا يجب أن تكون محبتنا للناس مجانية كمحبة يسوع لنا. يجب أن نحبهم مهما كانت صفاتهم، مهما كان إنسجامهم و عدم إنسجامهم معنا، مهما كانت علاقاتهم بنا وتصرّفاتهم نحونا: [ وَإِنْ أَحْبَبْتُمُ اَلَّذِينَ يُحِبُّونَكُمْ فَأَيُّ فَضْلٍ لَكُمْ؟ فَإِنَّ اَلْخُطَاةَ أَيْضاً يُحِبُّونَ اَلَّذِينَ يُحِبُّونَهُمْ. وَإِذَا أَحْسَنْتُمْ إِلَى اَلَّذِينَ يُحْسِنُونَ إِلَيْكُمْ فَأَيُّ فَضْلٍ لَكُمْ؟ فَإِنَّ اَلْخُطَاةَ أَيْضاً يَفْعَلُونَ هَكَذَا. وَإِنْ أَقْرَضْتُمُ اَلَّذِينَ تَرْجُونَ أَنْ تَسْتَرِدُّوا مِنْهُمْ فَأَيُّ فَضْلٍ لَكُمْ؟ فَإِنَّ اَلْخُطَاةَ أَيْضاً يُقْرِضُونَ اَلْخُطَاةَ لِكَيْ يَسْتَرِدُّوا مِنْهُمُ اَلْمِثْلَ. بَلْ أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ وَأَحْسِنُوا وَأَقْرِضُوا وَأَنْتُمْ لاَ تَرْجُونَ شَيْئاً فَيَكُونَ أَجْرُكُمْ عَظِيماً وَتَكُونُوا بَنِي اَلْعَلِيِّ فَإِنَّهُ مُنْعِمٌ عَلَى غَيْرِ اَلشَّاكِرِينَ وَاَلأَشْرَارِ ] [ لوقا 6: 32 – 35 ].
المسيحى هو دوما البادئ بالمحبة كما ان المسيح هو المبادر بالحب نحونا. لقد كنّا غرباء عنه، ضائعين في متاهات عبادة الذات، ولكنه أتى إلينا – ولا يزال يأتي – فجعلنا قريبين إذ غمرنا بحبّه المبذول. هكذا علّمنا من هو القريب. لقد كان اليهود يعتقدون أن القريب، الذي تتوجّب عليهم محبّته، هو من كان يشاركهم في الجنس والدين. وذات يوم سأل أحد معلّمي الناموس يسوع قائلاً : من هو قريبي؟. فلم يجبه مباشرة بلّ روى له مثل -السامري الصالح- ذاك الإنسان اليهودي الذي جرحه اللصوص بين أورشليم وأريحا وتركوه بين حيّ وميت، فمر به كاهن ولاوي (أي مساعدي الكهنة) يهوديان فأهملاه ولكن سامرياً اعتنى به، مع أنه كان غريباً عنه بالجنس والدين، ثم سأل يسوع معلم الناموس: “فأي هؤلاء الثلاثة تحسبه قريباً للذي وقع بين اللصوص؟” فأجابه: “الذي صنع معه الرحمة”، فقال له يسوع: “إمضِ أنت واصنع هكذا” (أنظر لوقا 10: 25-37). هنا فجّر يسوع وصية المحبة التي كانت في العهد القديم، إذ أعطاها أبعاداً شاسعة وجعلها تتخطى كلّ الحدود. علمنا أن القريب ليس من هو قريبي، أي من تربطني به روابط اللحم والدم، روابط العاطفة والمصلحة، روابط الرأي الواحد، والمجتمع الواحد. إنّما قريبي هو من أصير أنا قريباً منه بمحبتي له. القريب هو من أقترب أنا منه بالمحبّة. إنني أصبح قريباً لكل إنسان – ويصبح كل إنسان قريبي – إذا أحببته، ولو لم يكن بين هذا الإنسان وبيني أي رابط بشري. أكثر من ذلك، إذا كان إنسان ما عدوّي، فمحبتي غير المشروطة له تجعله قريباً، كما أن المسيح صار قريباً لي، وقد كنت عدوّه، إذ بذل نفسه عني.
هـ – موجهة بصورة خاصة إلى المتألمين:
تلك المحبّة للقريب يجب أن تشمل بنوع خاص البشر المتألمين، الذين هم بحاجة خاصة إليها. إن كنّا نحب المسيح فلنا أن نرى في كلّ معذبي الأرض وجهه الدامي المكلّل بالشوك وجسده الممزّق وكرامته المداسة من الناس ونفسه الحزينة حتى الموت. ذلك أن الرب نفسه جعل تلك المطابقة بين المتألمين وبينه، فأقام وحدة بينه وبين الجائعين والعطاش والعراة والغرباء والمرضى والمسجونين: [ لأَنِّي جُعْتُ فَأَطْعَمْتُمُونِي. عَطِشْتُ فَسَقَيْتُمُونِي. كُنْتُ غَرِيباً فَآوَيْتُمُونِي. عُرْيَاناً فَكَسَوْتُمُونِي. مَرِيضاً فَزُرْتُمُونِي. مَحْبُوساً فَأَتَيْتُمْ إِلَيَّ ] [ متى 25: 35، 36 ]. هذا ما سوف يقوله الرب للأبرار في اليوم الأخير، مضيفاً: [ فَيُجِيبُ الْمَلِكُ: الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: بِمَا أَنَّكُمْ فَعَلْتُمُوهُ بِأَحَدِ إِخْوَتِي هَؤُلاَءِ الأَصَاغِرِ فَبِي فَعَلْتُمْ ] [ متى 25: 40 ]. والصغار هؤلاء هم البؤساء والضعفاء الذين هم بنوع خاص أخوة يسوع إذ لم يشارك الرب البشر أمجادهم وغناهم بلّ إرتضى أن يشاركهم بؤسهم وفقرهم. المألمون إمتداد للمسيح المتألم. ولذلك كان أحد الآباء الروحيين يقول: “إن شئتم أن تلمسوا اليوم جراح المسيح كما لمسها توما، فما عليكم إلا أن تحتكّوا بإنسان بائس”.
لذ، فموقفنا من البائسين لا يمكن أن يكون بحال من الأحوال موقف الترفع والتفضل، إنما هو موقف إحترام عميق لهؤلاء الذين، وإن لم يدروا، وإن جدّفوا، هم في بشاعة بؤسهم صورة لذاك الذي إرتضى أن يصبح: [ نَبَتَ قُدَّامَهُ كَفَرْخٍ وَكَعِرْقٍ مِنْ أَرْضٍ يَابِسَةٍ لاَ صُورَةَ لَهُ وَلاَ جَمَالَ فَنَنْظُرَ إِلَيْهِ وَلاَ مَنْظَرَ فَنَشْتَهِيهِ. مُحْتَقَرٌ وَمَخْذُولٌ مِنَ اَلنَّاسِ رَجُلُ أَوْجَاعٍ وَمُخْتَبِرُ اَلْحُزْنِ وَكَمُسَتَّرٍ عَنْهُ وُجُوهُنَا مُحْتَقَرٌ فَلَمْ نَعْتَدَّ بِهِ ] [ أشعياء 53: 2، 3 ]. يُروى عن القديس يوحنا الذي كان بطريركا للإسكندرية أوئل القرن السابع ودُعي ” يوحنا الرحوم”، أنه عندما استلم مسؤوليته البطريركية طلب من أعوانه أن يضعوا له لائحة بأسماء ” سادته”. وعندما سألوه مستغربين من عسى يكون هؤلاء السادة؟. أجابهم بأنهم فقراء الإسكندرية. هذا هو الموقف المسيحى الأصيل.
ولكن محبّة البؤساء والمحرومين لا يمكن أن تتخذ طابع العمل الفردي وحسب، لأنها عندئذ تكون ناقصة. محبتنا المسيحية للبائسين تدعونا لرفض كلّ ما يكرّس يؤسهم وحرمانهم في الأنظمة الإقتصادية والسياسية والإجتماعية. تلك المحبة تدعونا للنضال من أجل إقامة مجتمع يؤمن لمعذّبي الأرض العدالة وشروط حياة كريمة. هذا ما فهمه عدد متكاثر من المسحيين في عصرنا الذين في كلّ أقطار المعمورة يناضلون من أجل العدالة وكرامة الإنسان، مدفوعين لا بإعتبارات إنسانية وحسب بل بقناعتهم بأن كل ظلم يلحق بالإنسان إنما هو طعنة للمسيح في الصميم: ” كل ما فعلتموه بأحد أخوتي هؤلاء الصغار فبي فعلتموه… كل ما لم تفعلوه بأحد إخوتي هؤلاء الصغار فبي لم تفعلو”. أمام الدماء النازفة من جراح محرومي الدنيا، لا يسع المسيحيين إلا أن يتذكّروا عبارة باسكال الشهيرة: {المسيح في نزاع إلى منتهى الدهر، فكيف يسعنا أن ننام؟}.
* من قيامة المسيح نستمد المقدرة على محبة القريب:
ولكن محبة القريب، كما حددناها، تلك المحبة غير المشروطة التي تتجه إلى الآخر من أجل ذاته وتبذل ذاتها من أجله، تلك المحبة لا تنسجم مع متطلبات ” الإنسان العتيق” فينا، ذلك اِلإنسان الساقط، أسير الأنا، الذي يَعْتبر ذاته مركزاً للكون ولا ينظر إلى الآخر إلا كوسيلة لإشباع شهوته و حاجز دون بلوغ مأربه.
المحبة المسيحية تفرض أن نتخلّق بأخلاق الله وهذا لا يتم لنا إلا باشتراكنا بقيامة المسيح التي بها نصبح مساهمين في حياة الله وبالتالي في أخلاق الله. المحبة المسيحية ثمرة القيامة التي نشترك بها كما رأينا بالتوبة وبالأسرار. ” الإنسان العتيق”، وهو في كل منا كامن ما حيينا، لا قدرة له على المحبة المسيحية لأنه بعيد عن الله، في تفكك وموت. الحياة الإلهية إذا تدفقت في كياننا تكوّن فينا إنسانا جديداً، مستعيداً صورة خالقه، وتجعلنا بالتالي قادرين على محبة القريب. لذا، كتب الرسول يوحنا إلى المسيحيين قائلاً لهم أن المحبة التي تجمع بينهم هي برهان خروجهم من الموت إلى الحياة، أى برهان مساهمتهم في قيامة المسيح: [ إِنَّ مَحَبَّتَنَا لإِخْوَتِنَا تُبَيِّنُ لَنَا أَنَّنَا انْتَقَلْنَا مِنَ الْمَوْتِ إِلَى الْحَيَاةِ. فَالَّذِي لاَ يُحِبُّ إِخْوَتَهُ، فَهُوَ بَاقٍ فِي الْمَوْتِ ] [ 1 يوحنا 3 : 14 ].
وقد كتب الرسول نفسه أيضاً: [ أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ، لِنُحِبَّ بَعْضُنَا بَعْضاً: لأَنَّ الْمَحَبَّةَ تَصْدُرُ مِنَ اللهِ. إِذَنْ، كُلُّ مَنْ يُحِبُّ، يَكُونُ مَوْلُوداً مِنَ اللهِ وَيَعْرِفُ اللهَ ( بالمعني الكتابى: أي متحد بالله ) . أَمَّا مَنْ لاَ يُحِبُّ، فَهُوَ لَمْ يَتَعَرَّفْ بِاللهِ قَطُّ لأَنَّ اللهَ مَحَبَّةٌ! ] [ 1 يوحنا 4: 7، 8 ]. لذا ، تربط الكنيسة بين القيامة ومحبة الناس فتنشد في خدمة الفصح: “اليوم يوم القيامة… فلنقل <يا إخوة> ونصفح لمبغضينا عن كل شيء في القيامة”، وكانها تذكّرنا بذلك أن إشتراكنا في القيامة ينبوع محبتنا للآخرين.
ولكن إذا كانت محبة الإخوّة ثمرة إشتراكنا في القيامة، فمن جهة أخرى، التمرّس عليها والجهاد من أجل إكتسابها هو مظهر أساسي لذلك المجهود، مجهود التوبة، الذي به، كما رأينا، نقبل الإشتراك بصليب الرب فنصبح مشتركين في قيامته. إن إجهاد تسليم ذواتنا للرب لا ينفصم عن الجهاد في سبيل محبة القريب: [ وَنَحْنُ أَنْفُسُنَا اخْتَبَرْنَا الْمَحَبَّةَ الَّتِي خَصَّنَا اللهُ بِهَا، وَوَضَعْنَا ثِقَتَنَا فِيهَا. إِنَّ اللهَ مَحَبَّةٌ. وَمَنْ يَثْبُتْ فِي الْمَحَبَّةِ، فَإِنَّهُ يَثْبُتُ فِي اللهِ، وَاللهُ يَثْبُتُ فِيهِ ] [ 1 يوحنا 4: 16 ]. مجمل الكلام أن محبة القريب هي ثمرة القيامة وطريق القيامة في آن.
لذك كتب الفيلسوف الملحد سارتر في إحدى مسرحياته الجملة المشهورة: “الجحيم هو الآخرون”. ويرى أن الفيلسوف المسيحي كبريال مارسيل كان يحضر تلك المسرحية، فعندما أطلقت العبارة المذكورة آنفاً، سمعه أحد الجالسين إلى جانبه يتمتم: “كلا! السماء هي الآخرون”.إن الاعتراف بالآخر شخصا مستقلاً عن أهوائنا ومصالحنا، مهما بحد ذاته، بعبارة أخرى، الإعتراف به على أنه آخر وليس مجرّد إمتداد لشخصي، هذا الإعتراف الذي تفرضه المحبة المسيحية، ” جحيم” بالفعل لـ ” الإنسان العتيق” فيّ، إنسان الشهوة، أسير عبادة الذات. إنه إنسلاخ وموت. ولكن من قبل أن يجتاز هذا الموت يشترك في صليب المسيح ويبلغ إلى الله من خلال إنفتاحه للآخر فتتحقق ” السماء” في قلبه.
Questions:
إقرأ لوقا 10: 25-37 ومتى 25: 31-46.
- كيف تلهم محبة الفادي لنا محبتنا للناس؟ (أنظر لوقا 12: 49 و 1كور 8: 11).
- ألم يطلب الرب منا أن تكون نوعية محبتنا للناس كنوعية محبته لنا؟ (أنظر يوحنا 15: 12).
- هل كل ما يسميه الناس “حباً” هو حب بالمعنى الأصيل؟ ألا تختفي في كثير من الأحيان وراء هذه العبارة رغبة في تسخير الناس واستغلالهم؟ أليست المحبة المسيحية مختلفة جذرياً عن “حب” كهذا؟ (أنظر 1 يوحنا 3: 16، رومية 15: 1-3).
- ألا تقتضي المحبة المسيحية مشاركة الناس؟ ألا تنفي المشاركة ذلك الترفع الذي كثيراً ما يشوه الشفقة؟ (أنظر رومية 12: 15 وعبرانيين 13: 3 و2كور 11: 29).
- هل يمكن أن تكون المحبة المسيحية مجرد عاطفة؟ (أنظر 1 يوحنا 3: 18 ولوقا 10: 34 و35).
- هل كان بذل المسيح ذاته عنا مشروطاً بموقفنا نحن من الله؟ (أنظر رومية 5: 6-8 و 1يوحنا 4: 10). ألا يعني ذلك أن محبتنا للناس يجب أن تكون أيضاً مجانية؟ (أنظر لوقا 6: 32-35).
- ألا ينتج عن ذلك مفهوم جديد لمن هو القريب؟ كان اليهود يعتقدون أن القريب الذي نتوجب عليهم محبتو هو ابن جنسهم ودينهم. ألم يقلب المسيح هذا المفهوم في روايته لمثل السامري الشفوق (لوقا 10: 25-37)؟ ماهو تحديد القريب حسب هذا المثل؟ (أنظر لوقا 10: 36 و37). ألا يعني ذلك أن المحبة ليست لها حدود؟
- ألم يوحِّد المسيح ذاته مع كل معذبي الأرض (أنظر متى 25: 40)؟ ماذا يعني هذا بالنسبة لموقفنا نحن منهم؟ أيجوز أن يكون في ذلك الموقف شيء من الترفع والتفضل؟ هل تقف محبتنا للمتألمين عند تقديم المعونة الفردية لهم؟ ألا تفرض علينا نضالاً اجتماعياً؟
- هل تنسجم المحبة المسيحية ومتطلبات “الإنسان العتيق” فينا، أي مع متطلبات عبادة الأنا المتأصلة في طبيعتنا الساقطة؟
- ألا ينتج عن ذلك أن المحبة وليدة تجددنا باشتركنا في القيامة التي تبثّ فينا حياة جديدة وبالتالي تجعل فينا أخلاق الله؟ (أنظر يو 3: 14 و4: 7 و8).
- أليس صحيحاً من جهة أخرى أن ممارسة المحبة، إذ تنزعنا من عبادة الذات، هي طريق إلى الاتحاد بالله أي إلى القيامة؟ (أنظر يوحنا 4: 16).
*ملحق:
1 – He was John Chrysostom، بطريرك القسطنطينية ( الذي جرّد البطريركية من كل مظاهر الترف وعاش فيها فقيراً وتوفي سنة 407 في المنفى لتوبيخه الملوك ) يخاطب بجرأة أغنياء عصره، معلناً إن إهمالهم للمساكين في سبيل ترفهم هو إهمال للمسيح نفسه، ومن أقواله:
- “لقد أعطاكم الله سقفا دون المطر لا لترصّعوه ذهباً في حين أن الفقير يموت جوعا. وأعطاكم ملابس لتتستروا لا لتزكشوها بترف في حين أن المسيح العاري يموت برداً. أعطاكم منزلاً لا لتسكنوه وحدكم بل لتستقبلوا فيه الآخرين، والأرض لا لتبددوا مواردها على الجواري والراقصات والممثلين وعازفي المزمار والقيثارة ولكن لتسعفوا الجياع والعطاش.”
- “ماذا ينفع تزيين مائدة المسيح بأوان ذهبية إذا كان هو نفسه يموت جوعا؟. فأشبعه أولاً حينما يكون جائعاً. وتنظر فيما بعد في أمر تجميل مائدته بالنوافل.”
- “فلا تزين الكنائس إن كان ذلك لإهمال أخيك في الشدّة، هذا الهيكل أكثر جلالاً من ذاك.”
- “بينما كلبك متخم، يهلك المسيح جوعاً.”
- “إنك تحترم هذا المذبح حينما ينزل إليه جسم المسيح ولكنك تهمل وتبقى غير مبالٍ حينما يفنى ذاك الذي هو جسم المسيح.”
2 – وفي يومنا هذا، لاتزال الروح عينها تهم المسيحيين الحريصين على أن يعوا الإنجيل في أعماقه. إنهم يرون المسيح في ضحايا المظالم السياسية والاجتماعية، وأن كان مرتكبو هذه المظالم “مسيحيين” وضحاياها غير منتمين إلى الإيمان المسيحي. ففي سنة 1754، حين كان المغربيون المناضلون من أجل استقلال بلادهم يسامون التعذيب من الشرطة الفرنسية، ألقى الكاتب الفرنسي المسيحي الشهير، فرانسوا مورياك، الحائز على جائزة نوبل في الأدب، محاضرة أما إثنين أو ثلاثة آلاف شخص في باريس بمناسبة أسبوع المفكرين الكاثوليك، عنوانها: “الإقتداء بجلادي المسيح، قال فيها بألم:
“أياً كانت مبرراتنا وأعذارنا، أقول أنه، بعد تسعة عشر قرناً من المسيحية، لا يظهر المسيح أبداً، لجلادي اليوم، في المعذَّب، لا ينكشف الوجه المقدّس أبداً في وجه العربى الذي يهوي عليه مفوض الشرطة بقبضته. ألا تجدون غريباً أن يفكّروا أبداً، خاصةً أمام أحد هذه الوجوه السمراء ذات الملامح الساميّة، بإلههم المقيد بالعمود والمسلّم إلى الجند، أن لا يسمعوا، من خلال صراخ ضمائرهم وأنينها صوته المعبود يقول: ” بي تفعلونه”. ذلك الصوت الذي سيدوّى يوماً، ولن يكون عند ذاك متوسل، وسيصرخ بهم وسيصرخ بنا كلنا نحن الذي قبلنا وربما أيدنا هذه الأشياء: ” كنت هتذا الشاب المحب لوطنه والمحارب من أجل ملكه، كنت هذا الأخ الذي كنت تريد أن ترغمه على خيانة أخيه.”. كيف لا تعطى هذه النعمة أبداً لأحد هؤلاء الجلادين المعمّدين؟ كيف لا يلقى جنود الفرقة أحياناً سوط الجلد ليركعوا عند أقدام ذاك الذي يجلدونه؟”.
3 – قلب المسيحية هو الإيمان بأن ابن الله إتخذ في ذاته آلامنا طوعا ليحررنا من الآلام. ليست المسيحية، إذاً، كما يقول البعض، ديانة تدعو إلى الخنوع أمام الألم والظلم. ليست المسيحية ديانة الألم، إنما هي ديانة الفداء. لا قيمة للألم في نظرنا إلا إذا اقتُبل، كما اقتبله المسيح، محبة بالله وبالآخرين. المسيحي، إذا أراد أن يسير في طريق سيده، لا بدّ له أن يكون مستعداً لإحتمال الألم والموت من أجل تحرير المتألمين والمظلومين والمستعبدين، لا بدّ أن يناضل حتى الدم من أجل العدالة. هذا ما أوضحه الأستاذ “ألبير لحام” في محاضرة ألقاها في الندوة اللبنانية ضمن سلسلة محاضرات ” العدالة في المسيحية والإسلام”. وفيما يلي نثبت مقطع منها:
“في وسط الجناح المخصص للمسيحية في متحف الإلحاد في مدينة لينيجراد يقوم تمثال كبير للسيد المسيح يرزح تحت وطأة صليب ثقيل. هذا التمثال، يقول لك الدليل، هو رمز المسيحية التي تدعو الناس إلى حمل الصليب والرضوخ للظلم والقبول بالألم والإستسلام للطغيان بانتظار حياة الآخرة. هذا التعريف الكاريكاتوري للمسيحية، كم يذكرني بقول الرسول بولس: [ فَإِنَّ كَلِمَةَ الصَّلِيبِ عِنْدَ الْهَالِكِينَ جَهَالَةٌ وَأَمَّا عِنْدَنَا نَحْنُ الْمُخَلَّصِينَ فَهِيَ قُوَّةُ اللهِ] [ 1 كورونثوس 1: 18 ]. فالصليب ليس عنوان الذل والخمول والإستسلام. بل عنوان المحبة الإلهية الفادية. والتضامن المطلق مع جميع الناس. والمشاركة التامة للرازحين تحت الظلم والطغيان. والمجازفة الجريئة حتى الموت لتحريرهم جميعاً. لأنه، كما تقول الرسالة إلى العبرانيين: [ فَإِذْ قَدْ تَشَارَكَ الأَوْلاَدُ فِي اللَّحْمِ وَالدَّمِ اشْتَرَكَ هُوَ أَيْضاً كَذَلِكَ فِيهِمَا، لِكَيْ يُبِيدَ بِالْمَوْتِ ذَاكَ الَّذِي لَهُ سُلْطَانُ الْمَوْتِ، أَيْ إِبْلِيسَ، وَيُعْتِقَ أُولَئِكَ الَّذِينَ خَوْفاً مِنَ الْمَوْتِ كَانُوا جَمِيعاً كُلَّ حَيَاتِهِمْ تَحْتَ الْعُبُودِيَّةِ ] [ عبرانيين 2: 14، 15 ].
فإذا كان المسيحى يلتزم قضية العدالة السياسية في مجتمعه، فلأنه يسير في خطى ذلك الذي إلتزم بؤسنا وشقاءنا إذ لبس طبيعتنا وخاض معنا، كواحد منا، معركة الموت والحياة، وفتح لنا بصليبه طريق النصر والرجاء وهو القائل: [ وَأَمَّا أَنَا فَقَدْ أَتَيْتُ لِتَكُونَ لَهُمْ حَيَاةٌ وَلِيَكُونَ لَهُمْ أَفْضَلُ ] [ يوحنا 10: 10 ].”
ألبيز لحام: العدالة السياسية في المسيحية (مجلة “محاضرات الندوة”: السنة العشرون، النشرة 11-12، 1966، ص 44).
4- هذا ليس مجرد نظريات، إنما هو واقع عاشه ويعيشه المسيحيون الذين أرادوا أن يكونوا أمناء لرسالة سيدهم. فقد ناضل باسيليوس الكبير ويوحنا الذهبي الفم بجرأة من أجل العدالة الإجتماعية وقُتل فيلبس مطران موسكو بأمر القيصر الروسي إيفان الهائل لأنه كان يوبخه على طغيانه، وفي أيامنا هذه عدد متكاثر من المسيحيين يناضلون، محتملين أحياناً الشتائم والسجن والموت، من أجل معلمي الأرض من ضحايا الطغيان السياسي أو الاجتماعي او العنصري.
5- تتكاثر وتتكثف في عصرنا المواقف المسيحية الشاهدة لحق المظلومين بحياة كريمة، والمجاهدة من أجل “بناء عالم جديد لا قاهرين فيه ولا مقهورين، وفقاً لتصميم الله”. ففي كل أقطار الأرض عدد متزايد من المسيحيين يواجهون الاضطهاد والسجن والتعذيب والموت نفسه، شهادة لمحبة المسيح ومساهمته منهم في عمله المتحرّر. ولكن أميركا اللاتينية هي المكان المتميز لتلك الشهادة، ففيها تُكتب من جديد، بأحرف من دم ونور، أعمال الشهداء الأولين. فقد قُدِّر عدد الأساقفة والكهنة والرهبان والراهبات الذين سُجنوا أو عُذبوا أو اغتيلوا أو اختُطفوا وغابت أثارهم، في أميركا اللاتينية، بين 1968 ومطلع 1978، بثماني مئة وخمسين (حسب الجريدة المكسيكية UNO MAS، بعددها الصادر في 3 آذار 1978). ومن هؤلاء الأسقف أنركوا أنجيلّلي، مطران لاريوجا في الأرجنتين الذي ذهب، في 4 آب 1976، ضحية حادث مشبوه يحمل كل شيء على الاعتقاد بأنه اغتيال مموّه، والمطران أوسكار روميرو رئيس أساقفة السلفادور الذي اغتيل علناً في 24 آذار 1980 أثناء اقامته القداس الإلهي. والجدير بالذكر أن هذا الاضطهاد الذي لا يوفّر رجال الدين في أميركا اللاتينية (حتى أنه في السلفادور نال 25 بالمائة منهم) رغم المكانة التي يتمتعون بها واتخاذ معظم الدول هناك الصفة المسيحية، يطال أيضاً آلاف العلمانيين المتلزمين، بوحي من إيمانهم، قضية العدالة في تلك البلاد.
هذا ونثبت فيما يلي مقطع من رسالة وجهها إلى أصدقائه، في 23 تشرين الثاني 1975، من سجنه في شمالي الأرجنتين، الأب Jacques Renevot، المعتقل من أجل مساندته للفلاحين المقهورين:
“يهمني أولاً أن أقول لكم أنني سعيد جداً لأنني وُجِدت أهلاً للتألم من أجدل إنجيل يسوع، لأن كل الاتهامات الموجهة إليّ باطلة. إنكم تعرفونني وقد سمعتموني، وتعرفون جيداً أنني لم أبشر قط بالعنف أو قلب النظام، بل إن كلماتي كانت دوماً دعوة إلى الرفق والسلام والمحبة والصفح. لقد دعوت إلى النضال من أجل العدالة، إلى إزالة الظلم من بيننا، ولكنني لم أدعُ أبداً إلى استخدام العنف في هذا السبيل (…) أعتقد أنه ينبغي للمسيحيين، اليوم كما في الأمس، أن يمروا بالمحنة والسجن ليشهدوا للإنجيل. أعتقد أنه يمكنني اليوم أن أعتبر نفسي سجيناً من أجل الإنجيل (…) أتأمل كثيراً بالقدوة التي أعطانا إياها ذاك السجين الكبير من أجل الإنجيل، الذي هو الرسول بولس (…) أنتم تعلمون أنني سجي بصفتي تلميذاً للمسيح. أرجو أن يؤول هذا الأمر إلى تشديد عزائمكم وأنكم ستتمكنون من إعلان رسالة الإنجيل دون خوف وبثقة أوفر”.
See:
Michel Duclercq: Cris et Combats de L’Eglise en Amérique Latine, Ed. Du Cerf, Paris. 1979.
Charles Antoine: Le Sang et L’Espoir. Ces Chrétiins D’Amèrique Latine, Ed. Du Centurion, Paris, 1979.
5 – الصعود
* الصعود تتويج لعملية الفداء:
فالمجد الإلهي، كما رأينا، إجتاح إنسانية يسوع لما أسلمت بإرادتها ذاتها بالكلية على الصليب. هذا المجد الإلهي نفسه الذي أقام يسوع من بين الأموات كان كفيلاً بأن يصعده إلى السماء، أى بأن يهب لإنسانيته الإشتراك التام بالحياة الإلهية وبالسيادة الإلهية على جميع الكائنات. هكذا دخلت طبيعة يسوع الإنسانية، عندما بلغت الكمال بالصليب، في ذلك المجد الإلهي الذي كانت طبيعته الإلهية تتمتع به منذ الأزل. هذا ما أشار إليه الرب عندما خاطب الآب قبيل ذهابه إلى الآلام قائلاً له: [ وَالآنَ مَجِّدْنِي أَنْتَ أَيُّهَا الآبُ عِنْدَ ذَاتِكَ بِالْمَجْدِ اَلَّذِي كَانَ لِي عِنْدَكَ قَبْلَ كَوْنِ اَلْعَالَمِ ] [ يوحنا 17 : 5 ]. هكذا كان إنحدار المسيح بإختياره إلى دركات الموت طريقا لبلوغه ذروة المجد. هذا ما أشار إليه الرسول بولس عندما كتب: [ اَلَّذِي نَزَلَ هُوَ اَلَّذِي صَعِدَ أَيْضاً فَوْقَ جَمِيعِ اَلسَّمَاوَاتِ، لِكَيْ يَمْلأَ اَلْكُلَّ ] [ أفسس 4: 10 ]. عندما إبتعد ابن الله بتواضعه الفائق، إلى أبعد حدّ عن أصله الإلهي، عند ذاك، وبفعل هذا التواضع بالذات، عاد بجسده إلى ذلك الأصل الإلهي. هذا ما انشده الرسول في رسالته إلى أهل فيليبي: [ الَّذِي إِذْ كَانَ فِي صُورَةِ اَللهِ، لَمْ يَحْسِبْ خُلْسَةً أَنْ يَكُونَ مُعَادِلاً لِلَّهِ. لَكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذاً صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِراً فِي شِبْهِ اَلنَّاسِ. وَإِذْ وُجِدَ فِي اَلْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ، وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى اَلْمَوْتَ مَوْتَ اَلصَّلِيبِ. لِذَلِكَ رَفَّعَهُ اَللهُ أَيْضاً، وَأَعْطَاهُ اِسْماً فَوْقَ كُلِّ اِسْمٍ لِكَيْ تَجْثُوَ بِاسْمِ يَسُوعَ كُلُّ رُكْبَةٍ مِمَّنْ فِي اَلسَّمَاءِ وَمَنْ عَلَى اَلأَرْضِ وَمَنْ تَحْتَ اَلأَرْضِ، وَيَعْتَرِفَ كُلُّ لِسَانٍ أَنَّ يَسُوعَ اَلْمَسِيحَ هُوَ رَبٌّ لِمَجْدِ اَللهِ اَلآبِ ] [ فيليبى 2: 6 – 11 ].
* تلك هي السماء التي صعد إليها يسوع والذي كان إرتقاؤه في الفضاء أمام التلاميذ صورة ورمزاً لها.
إن عدداً من المؤمنين يخلطون بين السماء المادية و”سماء” الله. يعتقدون أن الله كائن يقبع في أجواء الفضاء العلي. ويشاركهم عدد من غير المؤمنين هتذا التفكير. هكذا صرّح رائد الفضاء “تيتوف” أن الله غير موجود لأنه لم يجده أثناء رحلته الفضائية. هذا تصوّر صبياني لا يليق بالعقل الإنسانى ولا بطبيعة الله. فالله ليس قابعاً في أجواء الفضاء الخارجي العليا، إنه كائن لا يحدّه مكان وهو حاضر بمعرفته وقدرته وحبه وعنايته في كل مكان. إنما الإنسان لكونه كائنا حسياً ومحدوداً، لا يستطيع أن يعبّر عن الله إلا بصورة حسية، ناقصة. السماء المادية تعلو عن الارض، لذلك إتّخَذَت في كل الأديان صورة عن تعالي الله. عبارة “سماء” نفسها مستقاة من “سما” التي تعنى ” علا”. السماء المادية رمز إذاً لتعالي الله. هذا ما عبّر عنه أشعياء النبي عندما كتب: [ لأَنَّ أَفْكَارِي لَيْسَتْ أَفْكَارَكُمْ وَلاَ طُرُقُكُمْ طُرُقِي يَقُولُ اَلرَّبُّ. لأَنَّهُ كَمَا عَلَتِ اَلسَّمَاوَاتُ عَنِ اَلأَرْضِ هَكَذَا عَلَتْ طُرُقِي عَنْ طُرُقِكُمْ وَأَفْكَارِي عَنْ أَفْكَارِكُمْ ] [ أشعياء 55 : 8، 9 ]. صعود المسيح إلى السماء يعني، إذاً، إشتراك إنسانيته في تعالي الله، في حياة الله، في مجد الله، في سيادة الله.
* لكن يسوع صعد إلى السماء ليصعد البشرية معه:
نزعة الإنسان العميقة هي أن يبلغ إلى السماء، أي إلى الإشتراك في الحياة الإلهية. هذا المعنى العميق لحنينه إلى القدرة والمعرفة والعدالة والحبّ والسعادة والخلود. ولكنه يطمع أن يبلغ السماء بفعله الذاتي. فأتباع الديانات الوثنية كانوا ولا يزالون يعتقدون أن الإنسان يستطيع أن يبلغ إلى عالم الإلوهة بواسطة طقوس يقيمه وتقشفات ينصرف إليه. كذلك نرى الكثيرين من البشر في عالمنا الحديث يحلمون بتأليه الإنسانية بوسائل بشرية بحتة كالإختراعات العلمية والأنظمة الإجتماعية. تجاه تلك المواقف تعلن المسيحية أن الإنسان لا يستطيع بفعله الذاتي أن يتخلّص من حدوده ويبلغ إلى التأليه، إنه لا يسعه بمجرّد مبادرته الذاتية أن يتحرّر جذريا من الشقاء والخطيئة والعزلة والموت. السماء لا تقتحم إقحاما إنما تنحدر إلينا هبة مجانية. لم يكن بإستطاعة الإنسان أن يبلغ إلى الله لو لم ينحدر الله إلى الإنسان ليرفعه إليه. هذا ما عبّر عنه الرب يسوع عندما قال لنيقوديموس: [ وَلَيْسَ أَحَدٌ صَعِدَ إِلَى السَّمَاءِ إِلاَّ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ ابْنُ الإِنْسَانِ الَّذِي هُوَ فِي السَّمَاءِ ] [ يوحنا 3: 13 ].
طريق السماء أي الحياة الإلهية بما تتضمنه من إنتصار نهائي على الخطيئة والشقاء والعزلة والموت، إنما فتحه لنا المسيح عندما عاد بالجسد إلى مجده الذي كان له منذ الأزل. بصعوده دشّن صعودنا نحن. هذا معنى صلاته إلى الآب قبل الآلام: [ أَيُّهَا اَلآبُ أُرِيدُ أَنَّ هَؤُلاَءِ اَلَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي يَكُونُونَ مَعِي حَيْثُ أَكُونُ أَنَا لِيَنْظُرُوا مَجْدِي اَلَّذِي أَعْطَيْتَنِي لأَنَّكَ أَحْبَبْتَنِي قَبْلَ إِنْشَاءِ اَلْعَالَمِ ] [ يوحنا 17: 24 ]. بصعود الرب يسوع المسيح بدأ تأليهنا نحن: [ اَللهُ الَّذِي هُوَ غَنِيٌّ فِي الرَّحْمَةِ، مِنْ أَجْلِ مَحَبَّتِهِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي أَحَبَّنَا بِهَا، وَنَحْنُ أَمْوَاتٌ بِالْخَطَايَا أَحْيَانَا مَعَ الْمَسِيحِ – بِالنِّعْمَةِ أَنْتُمْ مُخَلَّصُونَ وَأَقَامَنَا مَعَهُ، وَأَجْلَسَنَا مَعَهُ فِي السَّمَاوِيَّاتِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ ] [ أفسس 2: 4 – 6 ].
* لقد فتح لنا يسوع بصعوده طريق السماء:
أى طريق الإشتراك في الحياة الإلهية. بقي علينا أن نسلك هذه الطريق. ولكن طريقنا لا يمكن أن تكون غير طريق يسوع. وطريق يسوع إلى القيامة ثم إلى الصعود كانت طريق الإنسلاخ المعطاء. طريق نكران الذات في إتجاه محب إلى الله والناس. لذا من أراد الإشتراك في الصعود وجب عليه أن ينسلخ، بجهاد هو عملية الحياة كلها، عن التمتع الأناني بخيرات الدنيا، كي يتجه، مع المسيح وبمؤازرة نعمته، إلى فوق، أي إلى تلك الشركة مع الله التي أعدّت لنا. هذا ما علمنا إياه الرسول بولس عندما كتب إلى أهل كولوسى: [ فَإِنْ كُنْتُمْ قَدْ قُمْتُمْ مَعَ الْمَسِيحِ فَاطْلُبُوا مَا فَوْقُ، حَيْثُ الْمَسِيحُ جَالِسٌ عَنْ يَمِينِ اللهِ. اهْتَمُّوا بِمَا فَوْقُ لاَ بِمَا عَلَى اَلأَرْضِ، لأَنَّكُمْ قَدْ مُتُّمْ وَحَيَاتُكُمْ مُسْتَتِرَةٌ مَعَ اَلْمَسِيحِ فِي اَللهِ] [ كولوسى 3: 1 – 3 ].
* الصعود لا يعنى هروباً من الأرض وواجباتها:
ولكن عبارة الرسول: [ اهْتَمُّوا بِمَا فَوْقُ لاَ بِمَا عَلَى اَلأَرْضِ ] لا تعني، كما يعتقد البعض، أنه ينبغي للمسيحيين أن يهملوا الأرض، أن يتركوها وشأنها. هذا التفسير بالطبع مرفوض لأنه ينفي محبة القريب التي بدونها، كما رأينا، لا يمكننا أن نقترب من الله. محبة الإخوة تفرض أن نهتم بشؤونهم ليس الروحية وحسب بل الأرضية أيضاً ( كما أشبع المسيح الجياع وشفي المرضى )، أن نعالج إذاً من أجلهم شؤون الدنيا ( بالعمل والعلم والنضال الإجتماعي مثلاً ). عبارة الرسول تعني إذاً أن نعرض عن التمتع الأناني، النهم بخيرات الأرض. من إنشغل بهذا التمتع تغرّب عن الله وعن الآخرين لأنه غارق في شهوته. أما المسيحي الذي يكافح أنانية الشهوة فإنه بمشاركته صليب الرب، يساهم في صعوده، وإذ ينال هكذا الحياة الإلهية لا يصبح غريباً عن الناس وهمومهم بل قريباً منهم كل القرب بتلك المحبة التي فيه، المستمدة من محبة الله لخلائقه.
الصعود لا يعنى إذاً هروبا من الأرض وواجباتها ومشاكلها وآلامها. هذا الهروب، أياً كانت مبرراته، يدل بالعكس على أننا لم نصعد بعد، على أننا لا نزال أسرى ” الإنسان العتيق” فينا يؤلّه راحته وطمأنينته. الصعود هو بالعكس إلتزام كلّى لكلّ قضايا الإنسان في الأرض. إنه حضور كله حب وبذل. ذلك أن السماء، كما سبق فقلنا، ليست فوق الغيوم ولكنها، في صميم كياننا، إشتراك، منذ الآن، في حياة الله. لقد قال الرب يسوع: [مَلَكُوتُ اللهِ دَاخِلَكُمْ ] [ لوقا: 17: 21 ]. وملكوت الله هو الحياة الإلهية، هو بعبارة أخرى السماء. إذاً، المسيحي الحقيقي يصعد إلى السماء دون أن يترك الأرض، إنه يعيش على الأرض سماوياً أي مشتركاً في حياة الله إلى أن تكتمل فيه في اليوم الأخير. هذا ما عبّر عنه الرب يسوع عندما قال عن تلاميذه، مخاطباً الآب: [ وَلَسْتُ أَنَا بَعْدُ فِي اَلْعَالَمِ وَأَمَّا هَؤُلاَءِ فَهُمْ فِي اَلْعَالَمِ وَأَنَا آتِي إِلَيْكَ. أَيُّهَا الآبُ اَلْقُدُّوسُ اِحْفَظْهُمْ فِي اِسْمِكَ. اِلَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي لِيَكُونُوا وَاحِداً كَمَا نَحْنُ. أَنَا قَدْ أَعْطَيْتُهُمْ كلاَمَكَ وَاَلْعَالَمُ أَبْغَضَهُمْ لأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنَ اَلْعَالَمِ كَمَا أَنِّي أَنَا لَسْتُ مِنَ اَلْعَالَمِ لَسْتُ أَسْأَلُ أَنْ تَأْخُذَهُمْ مِنَ اَلْعَالَمِ بَلْ أَنْ تَحْفَظَهُمْ مِنَ اَلشِّرِّيرِ ] [ يوحنا 17: 11، 14، 15 ]. المؤمن المشترك في صعود ربه يتخلّق بأخلاق الله: [ اَلدِّيَانَةُ اَلطَّاهِرَةُ اَلنَّقِيَّةُ عِنْدَ اَللَّهِ اَلآبِ هِيَ هَذِهِ: اِفْتِقَادُ اَلْيَتَامَى وَالأَرَامِلِ فِي ضِيقَتِهِمْ، وَحِفْظُ اَلإِنْسَانِ نَفْسَهُ بِلاَ دَنَسٍ مِنَ اَلْعَالَمِ ] [ يعقوب 1: 27 ]. ولكن الحياة الإلهية الكامنة فيه هي في جوهرها حبّ وعطاء، لذلك لا يسعها إلا أن تنسكب وتنبت فيما حولها، ناشرة في الأرض عدلاً وسلاماً وفرحاً وإخاءً. هكذا يُشعّ الملكوت من المؤمنين ليحوّل الأرض كما تُخمّر خميرة صغيرة العجين كلها: [ يُشْبِهُ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ خَمِيرَةً أَخَذَتْهَا امْرَأَةٌ وَخَبَّأَتْهَا فِي ثَلاَثَةِ أَكْيَالِ دَقِيقٍ حَتَّى اخْتَمَرَ الْجَمِيعُ ] [ متى 13: 33 ]. بهذا المعنى دعا الرب يسوع المؤمنين به : [ مِلْحَ اَلأرْضِ ] [ متى 5: 13 ]. الملح يختلف عن الطعام ولكنه يختلط بالطعام إختلاطا صميمياً ليطعمه كله. هكذا يحمل المؤمن في ذاته حياة الله التي تفوق العالم ولكنه يبثها في كل مرافق الوجود الأرضي، في الحياة العائلية والمهنية والإجتماعية والسياسية. حبّه للناس وإشتياقه إلى رؤية الملكوت قد تحقق تماما يدفعانه إلى رسم صورته في الكون. لذلك، لا يسعه إلا أن يجاهد من أجل كل حق وخير الأرض، من أجل العدل والسلام والإخاء بين البشر، من أجل كرامة كلّ إنسان ونمو شخصيته، من أجل تقهقر الشقاء والألم والمرض والموت.
* ولكن المسيحى يعلم أن تحوّله هو وتحوّل الكون لم يكتملا إلا عند المجئ الثانى في نهاية الأزمنة:
بصعود المسيح ألقى نور الله في صميم الدنيا وبدأت الأرض تتحوّل إلى سماء، ولكن في نهاية الأزمنة : “سينفجر النهر” (2 بطرس 1: 19). ويجدّد الكون فتصبح الأرض سماء إذ يصير الله “كلّاً في الكل” ( كورونثوس 15: 28). صعود الرب إذاً مقدمة لمجيئه الثاني الظافر كما يتضح من الحادثة نفسها (أنظر أعمال الرسل 1: 1 – 11):
[ اَلْكَلاَمُ الأَوَّلُ أَنْشَأْتُهُ يَا ثَاوُفِيلُسُ عَنْ جَمِيعِ مَا ابْتَدَأَ يَسُوعُ يَفْعَلُهُ وَيُعَلِّمُ بِهِ. إِلَى الْيَوْمِ الَّذِي ارْتَفَعَ فِيهِ بَعْدَ مَا أَوْصَى بِالرُّوحِ الْقُدُسِ الرُّسُلَ الَّذِينَ اخْتَارَهُمْ. اَلَّذِينَ أَرَاهُمْ أَيْضاً نَفْسَهُ حَيّاً بِبَرَاهِينَ كَثِيرَةٍ بَعْدَ مَا تَأَلَّمَ وَهُوَ يَظْهَرُ لَهُمْ أَرْبَعِينَ يَوْماً وَيَتَكَلَّمُ عَنِ الأُمُورِ الْمُخْتَصَّةِ بِمَلَكُوتِ اللهِ. وَفِيمَا هُوَ مُجْتَمِعٌ مَعَهُمْ أَوْصَاهُمْ أَنْ لاَ يَبْرَحُوا مِنْ أُورُشَلِيمَ بَلْ يَنْتَظِرُوا { مَوْعِدَ الآبِ الَّذِي سَمِعْتُمُوهُ مِنِّي، لأَنَّ يُوحَنَّا عَمَّدَ بِالْمَاءِ وَأَمَّا أَنْتُمْ فَسَتَتَعَمَّدُونَ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ لَيْسَ بَعْدَ هَذِهِ الأَيَّامِ بِكَثِيرٍ}. أَمَّا هُمُ الْمُجْتَمِعُونَ فَسَأَلُوهُ: { يَا رَبُّ هَلْ فِي هَذَا الْوَقْتِ تَرُدُّ الْمُلْكَ إِلَى إِسْرَائِيلَ؟ } فَقَالَ لَهُمْ: { لَيْسَ لَكُمْ أَنْ تَعْرِفُوا الأَزْمِنَةَ وَالأَوْقَاتَ الَّتِي جَعَلَهَا الآبُ فِي سُلْطَانِهِ. لَكِنَّكُمْ سَتَنَالُونَ قُوَّةً مَتَى حَلَّ الرُّوحُ الْقُدُسُ عَلَيْكُمْ وَتَكُونُونَ لِي شُهُوداً فِي أُورُشَلِيمَ وَفِي كُلِّ الْيَهُودِيَّةِ وَالسَّامِرَةِ وَإِلَى أَقْصَى الأَرْضِ }. وَلَمَّا قَالَ هَذَا اِرْتَفَعَ وَهُمْ يَنْظُرُونَ وَأَخَذَتْهُ سَحَابَةٌ عَنْ أَعْيُنِهِمْ. وَفِيمَا كَانُوا يَشْخَصُونَ إِلَى اَلسَّمَاءِ وَهُوَ مُنْطَلِقٌ إِذَا رَجُلاَنِ قَدْ وَقَفَا بِهِمْ بِلِبَاسٍ أَبْيَضَ. وَقَالاَ: { أَيُّهَا اَلرِّجَالُ اَلْجَلِيلِيُّونَ مَا بَالُكُمْ وَاقِفِينَ تَنْظُرُونَ إِلَى اَلسَّمَاءِ؟ إِنَّ يَسُوعَ هَذَا اَلَّذِي اِرْتَفَعَ عَنْكُمْ إِلَى اَلسَّمَاءِ سَيَأْتِي هَكَذَا كَمَا رَأَيْتُمُوهُ مُنْطَلِقاً إِلَى اَلسَّمَاءِ}.
لذا ينتظر المؤمن هذا الكون الجديد: [ وَلَكِنَّنَا بِحَسَبِ وَعْدِهِ نَنْتَظِرُ سَمَاوَاتٍ جَدِيدَةً وَأَرْضاً جَدِيدَةً، يَسْكُنُ فِيهَا اَلْبِرُّ ] [ 2 بطرس 3: 13 ]. هذا الكون الذي وصفه يوحنا الرسول في سفر الرؤيا قائلاً: [ رَأَيْتُ اَلْمَدِينَةَ اَلْمُقَدَّسَةَ أُورُشَلِيمَ اَلْجَدِيدَةَ نَازِلَةً مِنَ اَلسَّمَاءِ مِنْ عِنْدِ اَللهِ مُهَيَّأَةً كَعَرُوسٍ مُزَيَّنَةٍ لِرَجُلِهَا. وَسَمِعْتُ صَوْتاً عَظِيماً مِنَ اَلسَّمَاءِ قَائِلاً: ” هُوَذَا مَسْكَنُ اَللهِ مَعَ اَلنَّاسِ، وَهُوَ سَيَسْكُنُ مَعَهُمْ، وَهُمْ يَكُونُونَ لَهُ شَعْباً. وَاَللهُ نَفْسُهُ يَكُونُ مَعَهُمْ إِلَهاً لَهُمْ.وَسَيَمْسَحُ اَللهُ كُلَّ دَمْعَةٍ مِنْ عُيُونِهِمْ، وَاَلْمَوْتُ لاَ يَكُونُ فِي مَا بَعْدُ، وَلاَ يَكُونُ حُزْنٌ وَلاَ صُرَاخٌ وَلاَ وَجَعٌ فِي مَا بَعْدُ، لأَنَّ اَلأُمُورَ اَلأُولَى قَدْ مَضَتْ”. وَقَالَ اَلْجَالِسُ عَلَى اَلْعَرْشِ: “هَا أَنَا أَصْنَعُ كُلَّ شَيْءٍ جَدِيداً “. وَقَالَ لِيَ: ” اكْتُبْ، فَإِنَّ هَذِهِ اَلأَقْوَالَ صَادِقَةٌ وَأَمِينَةٌ ” ] [ رؤيا 21 : 2 – 5 ].
تلك الأرض المتجدّدة التي أصبحت سماء حضور الله الكامل فيها هي موطننا الحقيقي. بهذا المعنى ورد في الرسالة إلى العبرانيين: [ لأَنْ لَيْسَ لَنَا هُنَا مَدِينَةٌ بَاقِيَةٌ، لَكِنَّنَا نَطْلُبُ الْعَتِيدَةَ ] [ عبرانيين 13: 14 ]. وفي الرسالة إلى أهل فيليبى: [ فَإِنَّ سِيرَتَنَا نَحْنُ هِيَ فِي اَلسَّمَاوَاتِ، اَلَّتِي مِنْهَا أَيْضاً نَنْتَظِرُ مُخَلِّصاً هُوَ اَلرَّبُّ يَسُوعُ اَلْمَسِيحُ، الَّذِي سَيُغَيِّرُ شَكْلَ جَسَدِ تَوَاضُعِنَا لِيَكُونَ عَلَى صُورَةِ جَسَدِ مَجْدِهِ، بِحَسَبِ عَمَلِ اِسْتِطَاعَتِهِ أَنْ يُخْضِعَ لِنَفْسِهِ كُلَّ شَيْءٍ ] [ فيليبى 3 : 20، 21 ].
* ولكننا ندخل هذا الكون المتجدد منذ الآن كما رأينا:
بهذا المعنى قال الرب يسوع: [ وَلَكِنْ تَأْتِي سَاعَةٌ وَهِيَ الآنَ حِينَ السَّاجِدُونَ الْحَقِيقِيُّونَ يَسْجُدُونَ لِلآبِ بِالرُّوحِ وَالْحَقِّ لأَنَّ الآبَ طَالِبٌ مِثْلَ هَؤُلاَءِ السَّاجِدِينَ لَهُ ] [ يوحنا 4: 23 ]. التجديد سيكتمل في اليوم الأخير ولكنه منذ الآن قد بدأ. ينبغي أن ندخل فيه منذ الآن حتى يتحقق فينا كاملاً عند مجيء الرب الثاني. المسيحي لا ينتظر مجيء يوم الرب وحسب ولكنه “يستعجل مجيئه” أيضاً على حد تعبير الرسول بطرس (2بطرس 3: 12) أي أنه يبدأ بتحقيقه، بنعمة الرب، فيه وحوله، مستنزلاً على الأرض، حسب تعبير الكاتبل خليل رامز سركيس، “بعض أيام السماء”. وفي جهاده، المرير أحياناً، من أجل الحق والخير والفرح في الأرض، يشعر بثقة لا تعادلها ثقة لأنه يعلم أن جهوده لن تضيع وأن الشر والموت سيقهران نهائياً بنعمة الإله الذي تجسّد وصلب وقام وصعد إلى السماء ليحرر الإنسان ويؤلهه.
Questions:
إقرأ أعمال الرسل 1: 1-11.
- ما معنى الصعود بالنسبة لإنسانية المسيح؟ (أنظر يوحنا 17: 5). أليس هو بهذا المعنى امتداداً وتتويجاً للقيامة ولعملية الفداء كلها؟
- ماهي العلاقة بين إخلاء الذات الذي تممه يسوع وبين صعوده؟ (أنظر فيليبي 2: 6-10 وأفسس 4: 10).
- هل “السماء” التي صعد إليها يسوع تعني أجواء الفضاء العليا؟ (أنظر أشعيا 55: 8-9).
- هل يستطيع الإنسان بقواه الخاصة أن يصعد إلى تلك “السماء”؟ هل إختراق الصواريخ للفضاء يحقق صعوداً كهذا؟ (أنظر يوحنا 3: 13).
- ألم يصبح حلمنا بالصعود إلى السماء محققاً بالمسيح يسوع؟ (أنظر يوحنا 17: 24 ويوحنا 12: 26 وأفسس 2: 4-6).
- هل يعني ذلك أنه ينبغي أن لا نكترث بشؤون الأرض؟ هل المطلوب من المسيحي أن يخرج من العالم أو أن يحفظ نفسه من شر العالم؟ (أنظر يوحنا 17: 11-15 ويعقوب 1: 27). إذا كان الصعود اشتراكاً في حياة الله وإذا كانت حياة الله هي حياة محبة ألا يعني ذلك أن المؤمن الصاعد أصبح قريباً من الناس إلى أبعد حد ومهتماً بشؤونهم كلها بما فيها الشؤون الأرضية أقصى اهتمام؟ ما هي أقوال الرب يسوع التي تثبت أن المؤمن يعيش صعوده منذ الآن ويصعد معه العالم؟ (أنظر لوقا 17: 21، متى 5: 13، متى 13: 33).
- ما هي العلاقة بين صعود المسيح ومجيئه الثاني؟ هل يكتمل تجديدنا ونجديد الكون قبل هذا المجيء؟ (أنظر 2بطرس 3: 13 وفيليبي 3: 20-21 ورؤيا 21: 2-5). أليس هذا الكون المتجدد هو وطننا الحقيقي؟ (أنظر فيليبي 3: 20-21 وعبرانيين 13: 14).
- هل يكفي أن ننتظر هذا الكون المتجدد؟ (أنظر 2 بطرس 3: 12). ما معنى أن “نستعجل يوم الله”؟
ملحق:
المسيحي مواطن السماء التي صعد المسيح إليها بالجسد مصعداً البشرية معه. ولكنه يعلم أن السماء ليست مكاناً فوق الغيوم بل حياة إليهة وضعت فيه ليتجدد بها ويغير بها وجه الأرض والتاريخ، مستعجلاً هكذا يوم الرب الذي سيكون فيه الله “كلا في الكل” “في أرض جديدة يسكن فيها البر”. هذا ما تذكرنا به ثلاثة نصوص نثبتها فيما يلي:
- النص الأول من محاضرة ألقاها الأستاذ ألبير لحام في الندوة البنانية بعنوان “العدالة السياسية في المسيحية” يقول فيها:
- “إن المسيحي يعلم جيداً أن المدينة الفاضلة ليست من هذا العالم. إنها أورشليم السماوية، الأرض الجديدة، التي يتوّج بها الله عمل خليقته في آخر الأيام، ولكن المسيحي يؤمن أيضاً أن تلك الأرض الجديدة، ملكوت الله، ليست حدثاً آخروياً وحسب، ننتظره في الصلاة بل هي حدث دخل التاريخ البشري في يسوع المسيح ومازال حاضراً في التاريخ وفاعلاً فيه كقوة بعث وتجديد وتحويل. “إن كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة. الأشياء القديمة قد مضت، هوذا الكل قد صار جديداً” (2 كو 5: 17). لذلك فالمسيحي، وقد أضحى عضواً في تلك الخليقة الجديدة إذ خبر موت الصليب وقوة القيامة، مدعو إلى تطوير المجتمع وتغيير وجه التاريخ”.
(عن مجلة “محاضرات الندوة”، السنة 20، النشرة 11 و12، 1966)
- “إن المسيحي يعلم جيداً أن المدينة الفاضلة ليست من هذا العالم. إنها أورشليم السماوية، الأرض الجديدة، التي يتوّج بها الله عمل خليقته في آخر الأيام، ولكن المسيحي يؤمن أيضاً أن تلك الأرض الجديدة، ملكوت الله، ليست حدثاً آخروياً وحسب، ننتظره في الصلاة بل هي حدث دخل التاريخ البشري في يسوع المسيح ومازال حاضراً في التاريخ وفاعلاً فيه كقوة بعث وتجديد وتحويل. “إن كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة. الأشياء القديمة قد مضت، هوذا الكل قد صار جديداً” (2 كو 5: 17). لذلك فالمسيحي، وقد أضحى عضواً في تلك الخليقة الجديدة إذ خبر موت الصليب وقوة القيامة، مدعو إلى تطوير المجتمع وتغيير وجه التاريخ”.
- النص الثاني للفيلسوف الفرنسي عمانوئيل مونيه مؤسس مذهب الشخصانية. يظهر فيه أن رجاء السماء يدفع إلى تحويل الأرض لأن الآخرة لن تكون إبادة للكون بل تتويج للتجديد الذي أطلقه المسيح فيه والذي لا بد للمسيحيين أن يساهموا به منذ الآن:
- “… إن الرجاء المسيحي الحقيقي ليس هروباً. رجاء الآخرة يوقظ مباشرةً إرادة تنظيم الدنيا. إن كل أمثال الكتاب، مثل العذارى العاقلات والعذارى الجاهلات، مثل المدعو إلى العرس الذي لم يرتدِ لباس العرس، مثل الوزنات، وأمثال أخرى كثيرة أيضاً، كلها تنصب في هذا الموضوع: أما أن تكون الآخرة منذ الآن حاضرة بينهم وبواستطكم، وأما لن تكون أبداً. تذكرون أنه في اللحظة التي كان الرسل فيها، بعد أن شاهدوا المسيح ينطلق في الغيوب، لا يزالون رافعين رؤوسهم بذهول إلى السماء، اقترب منهم رجلان بلباس أبيض وقالا لهم ما معناه: “ما بالكم لابثين هنا وأنوفكم في الهواء؟ الذي ذهب سوف يعود. فعملكم إذاً هو عند أقدامكم”. هكذا فبالنسبة للمسيحي الذي ينتظر الآخرة، ليست فكرة نهاية الأزمنة فكرة إبادة، ولكنها انتظار استمرار واكتمال”.
Emmanuel Mounier: La Petite Peur du XXe Siècle (1949), in Oeuvres, T. III, p. 346, Seuil, Paris, 1962
- “… إن الرجاء المسيحي الحقيقي ليس هروباً. رجاء الآخرة يوقظ مباشرةً إرادة تنظيم الدنيا. إن كل أمثال الكتاب، مثل العذارى العاقلات والعذارى الجاهلات، مثل المدعو إلى العرس الذي لم يرتدِ لباس العرس، مثل الوزنات، وأمثال أخرى كثيرة أيضاً، كلها تنصب في هذا الموضوع: أما أن تكون الآخرة منذ الآن حاضرة بينهم وبواستطكم، وأما لن تكون أبداً. تذكرون أنه في اللحظة التي كان الرسل فيها، بعد أن شاهدوا المسيح ينطلق في الغيوب، لا يزالون رافعين رؤوسهم بذهول إلى السماء، اقترب منهم رجلان بلباس أبيض وقالا لهم ما معناه: “ما بالكم لابثين هنا وأنوفكم في الهواء؟ الذي ذهب سوف يعود. فعملكم إذاً هو عند أقدامكم”. هكذا فبالنسبة للمسيحي الذي ينتظر الآخرة، ليست فكرة نهاية الأزمنة فكرة إبادة، ولكنها انتظار استمرار واكتمال”.
- أما النص الثالث، فهو اللاهوتي البروتستانتي السويسري الشهير كارل بارت. فيه يظهر أن ثقتنا باندحار قوى الشر والموت نهائياً في يوم الرب تمدنا بالشجاعة اللازمة للنضال من أجل بناء عالم أفضل، لأننا نعلم أن جهودنا لن تضيع وأن للتاريخ الإنساني معنى:
- “إذا كنا نؤمن بأن للحوادث وللتاريخ معنى، وكنا نؤمن أيضاً بالتطور والثورة، وبإصلاح المجتمع وتجديده، بإمكان الأخوّة في الأرض وتحت السماء، فلأننا ننتظر شيئاً أفضل، أعني السماء الجديدة والأرض الجديدة. وإذا كنا نكرس أنفسنا، بكل قوانا، لأعمالنا اليومية مهما صغرت، وإذا كنا نعمل بلا هوادة لنبني (بلاداً) جديدة، فلأننا ننتظر أورشليم الجديدة النازلة من عند الله. وإذا كنانت لنا الشجاعة، في عالمنا، لنحتمل القيود والعقبات والمثالب، لا بل إذا كانت لنا الشجاعة لتحطيمها أيضاً، فلأننا، سواء احتملناها أو حطمناها، نؤمن بالتدبير الإلهي الذي يقضي بدحر آخر الأعداء وأقوى القيود، أعني الموت ذاته”
كارل بارت
- “إذا كنا نؤمن بأن للحوادث وللتاريخ معنى، وكنا نؤمن أيضاً بالتطور والثورة، وبإصلاح المجتمع وتجديده، بإمكان الأخوّة في الأرض وتحت السماء، فلأننا ننتظر شيئاً أفضل، أعني السماء الجديدة والأرض الجديدة. وإذا كنا نكرس أنفسنا، بكل قوانا، لأعمالنا اليومية مهما صغرت، وإذا كنا نعمل بلا هوادة لنبني (بلاداً) جديدة، فلأننا ننتظر أورشليم الجديدة النازلة من عند الله. وإذا كنانت لنا الشجاعة، في عالمنا، لنحتمل القيود والعقبات والمثالب، لا بل إذا كانت لنا الشجاعة لتحطيمها أيضاً، فلأننا، سواء احتملناها أو حطمناها، نؤمن بالتدبير الإلهي الذي يقضي بدحر آخر الأعداء وأقوى القيود، أعني الموت ذاته”
6- المسيح الكوني:
فليراجع في مكانه في الكتاب… الشبكة