رؤيا القديس يوحنا

 هو كتاب يستعمل كاتبُه فيه الكثير من الصور الرمزية المعروفة في الأدب الرؤيوي، والتي تضطر ّ القارىء – اذا ما شاء البحث في فحوى السفر ومعانيه – الى بعض من الاختصاص، كمعرفة الظروف التاريخية والحضارات القديمة (أدب الشرق الأدنى القديم…) التي أثرت في صوغ عبارات الكتاب، كما انها تُلزمه (القارىء)، أساسا، أن يكون على معرفة جيدة بأسفار الكتاب المقدس. ذلك أن رؤيا القديس يوحنا كثيرا ما فُسرت او أُولت معانيها بشكل مغلوط حتى أصبح، في ايدي الهراطقة (امثال شهود يهوه اليوم)، اول كتاب، قرأته الجماعات المؤمنة في أزمنة الاضطهادات والشدائد وتعزّت به، أداة مخيفة وسلاحا للفتك.

يحتوي الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد على كتابين ينتميان الى الادب الرؤيوي، هما: كتاب دانيال (اوائل القرن الاول ق.م.) ورؤيا يوحنا (اواخر   القرن الاول ب.م.) إضافة الى بعض النصوص التي تنتمي الى التيار ذاته (زكريا 4 – 9؛ اشعيا 24 – 27، 34 – 35….). الفعل اليوناني الذي يعبّر عن “الرؤيا” يعني: أظهر، كشف، أزاح الستار، وفي هذا التصوّر بأن التاريخ يمر مثل خط يختفي آخر في سر الله، ولكي يسند الله رجاء شعبه في الاضطهادات والمحن، فانه يُزيح الستار الذي يحجب النهاية فتبدو الرؤيا رسالة مثالية في الرجاء، ويكشف الله انه هو رب التاريخ وانه وحده يضمن النهاية. كاتب الرؤيا انسان يؤمن بالله “اأمين” في مواعيده، إلا انه (اي الكتاب) لا يعرف هو شخصيا المستقبل. فلكي يعرف كيف يُنهي الله التاريخ يرجع الى الماضي ويتظاهر بأنه يكتب فيه، ومن ثم يجتاز التاريخ بسرعة وعندما يصل الى الزمن الذي يعيش هو فيه، يقفز الى الامام ويلقي الى آخر الأزمنة ما اكتشفه من حضور فاعل لله من خلال قراءته للتاريخ.

تختلف رؤيا يوحنا عن كتاب دانيال وباقي المقاطع الرؤيوية التي سبقتها، ذلك أن حدث موت المسيح وقيامته قد بدّد كل شيء وجاء بنهاية الأزمنة، وتاليا فإن رؤيا يوحنا هي رسالة الى القارىء المسيحي تحضّه كي تكون هذه النهاية التي أتى بها هذا الحدث المخلِّص، بالنسبة اليه، حقيقة التاريخ الذي يحيا هو فيه.

أعلن كاتب الرؤيا عن اسمه “يوحنا” في مواضع أربعة (1:1 و4 و9؛ 22:8) وقدّم نفسه لقرائه على انه نبي وحثّهم على الاستماع الى كلمات نبوءته (1:1- 3، 22: 7) التقليد القديم: يوستينوس(+155)، ايريناوس(+202) اعتبر أن كاتب الإنجيل الرابع هو نفسه كاتب الرؤيا. اكليمنضس الاسكندري (+215) في كتابه ” من هو الغني الذي يَخْلُص”، وايضا اوريجانس (+253) في تفسيره لإنجيل متى، أشارا الى نفي الرسول يوحنا الى جزيرة بطمس (رؤيا 1: 9- 10). وهذا ما اعتنى أن يكتبه افسابيوس (+340) في حديثه عن اضطهاد دومتيانوس، اذ قال: “انه في هذا الاضطهاد حكم على الرسول يوحنا الإنجيلي، الذي كان لا يزال حيا، بالسكنى في جزيرة بطمس، بسبب شهادته للكلمة الإلهية…”. وقد أورد افسابيوس قولا للقديس إيريناوس يذكر فيه ما يتعلق بتاريخ كتابة السفر، فقال:” إن الرؤيا لم تُعلَن له منذ وقت بعيد، بل تكاد تكون، في جيلنا، في نهاية حكم دومتيانوس”. ومن المعروف أن دومتيانوس(90- 96)  اعتاد الرومان في زمنه أن يؤلّهوا أباطرتهم، فشنّ هو اضطهادا مريعا على المسيحيين الذين رفضوا أن يقدّموا واجب العبادة للأمبراطور فلم يعلنوه” السيد الرب”، وتاليا فإن الكاتب في ما يواجه السلطة الامبراطورية التي هي “وحش” مستبدّ متعطش لدماء الذين لا ينصاعون لأوامرها، ينبّه الذين اكتشفوا بأن يسوع هو كل شيء وانه الغالب والذي يغلب (رؤيا 6: 2)، بأن يحتفظوا له (اي المسيح) وحده بلقب “السيد والرب”، ويذكّرهم بأنهم شهود عراة الأيدي ليس لهم سوى قوّة إيمانهم لأداء الشهادة أمام مجتمع قليل الدراية وسلطات معادية. فاذا اعتُصروا وسُحقوا في معصرة الصليب فآلامهم هي مشاركة في آلام المسيح ولذلك هم ايضا معه يستطيعون أن يُنشدوا أنشودة الغلبة التي يتغنى بها المخلَّصون (14- 15). 

لم يُهمل المفسّرون شرح سفر الرؤيا رغم ما يحوي من أفكار وحقائق يعبّر عنها دائما برموز ذات معان لا يسهل فهمها. مثالا على ذلك ما ترمز اليه الأعداد (4- يرمز الى العالم في جهاته الاربعة؛ 6- هو رقم الإله الدجّال، الشيطان المخادع؛ 7- هو رقم تام، رقم الله الذي في المعركة النهائية سوف ينتصر على الشيطان- وأتباعه_ الممثّل بالرقم 6؛ ثلاثة ونصف (بأشكالها المتعدّدة)- ترمز الى النّقصان (نصف رقم 7) والى العذاب وأزمنة المحنة؛ 12- يرمز الى اسرائيل (الاسباط الاثني عشر)؛ 10 او 100 او 1000 –كل منهم يرمز الى الكميّة التي لا تحصى…الخ)؛اوما ترمز اليه الألوان والكواكب والعروش…وما عرضه السفر من رموز تشير الى الله الآب او الابن او الروح القدس، او الملائكة او الشياطين، او الكنيسة او القديسين…الا أن المفسرين، على الرغم من الرمزية التي وُضِع فيها السفر، اعتبروه كتاب نبوءة. ذلك انه كتاب مسيحي ويعترف بالمسيح المنتظَر على انه أتى وأن بمجيئه تحقق كمال الزمان.

ينطلق كاتب الرؤيا للتعبير عن رسالته من الاحتفالات الطقسية لكنيسة القرن الاول. فالعبادة هي المكان الذي تلتقي فيه الكنيسة جمعاء بالمسيح منذ الآن، والاسرار هي التي تجعله حاضرا في حياتنا اليومية، ونحن نحتفل بهذا اليقين الذي تعلنه العبادة والذي سيكون في النهاية. ما لا ريب فيه أن الأسرار وأدب الرؤيا يتحدثان عن النهاية الواحدة، فاذا قلنا في الطقوسيات “ليأتِ ملكوتُك” نثق أن المسيح الذي هو “البداية والنهاية” (رؤيا 22: 13) والحاضر معنا دائما يساعدنا بروح ابيه القدوس لكي نرى هذا الملكوت المحقَّق ونثبت فيه منذ الآن. كما أن الروح نفسه، في العبادة، يعلّمنا أن ننادي السيد” آمين! تعال، ايها الرب يسوع”(رؤيا 22: 20).

نشرة رعيتي
الأحد 22 أيلول 1996
العدد 38

arArabic
انتقل إلى أعلى