” هوذا أنت تسمى يهودياً وتتكل على الناموس، وتفتخر بالله وتعرف مشيئته وتميز الأمور المتخالفة متعلماً من الناموس ” (17:2ـ18).
1ـ بعدما قال إن اليوناني لا ينقصه شيء لأجل خلاصه، لو أنه سلك بحسب الناموس، أي متى سلك حسب الطبيعة بما هو في الناموس، وبعدما قدّم تلك المقارنة المدهشة (بين مَن يسمع الناموس ومَن يسلك بحسب الناموس)، فإنه يشير فيما بعد إلى تلك الأمور التي جعلت اليهود يفكرون بأنهم متميزون (كجنس) عن اليونانيين. أول شيء هو الاسم نفسه، أي أنهم دُعيوا “يهوداً” إذ أن هذا الاسم كان له أهمية كبيرة جداً، تماماً مثل المسيحية الآن. لأنه بالحقيقة كان التمييز يعتمد في ذاك الوقت على التسمية، لهذا نجده يبدأ بذكر الاسم أولاً. ولاحظ كيف أنه يبطل فكرة الانتماء لجنس اليهود، كأمر يميّزهم عن غيرهم. لأنه لم يقل “أنت يهودي”، لكن ” تسمى يهودياً.. وتفتخر بالله” أي أن الله أحبك، وتميّزت عن أناس آخرين، وأُعطيت هذا الاسم. لاحظ كيف أنه يسخر منهم في هدوء، لأجل حماقتهم ولأجل محبتهم الكبيرة للمجد، لأنهم استخدموا هذه العطية [1] ، لا لأجل خلاصهم، ولكن لكي يثيروا فتنة ضد الآخرين ويحتقرونهم.
” وتعرف مشيئته وتميّز الأمور المتخالفة ”.
إن هذه المعرفة التي تُميّز الأمور المتخالفة تبدو على أنها ميزة، لكنها رذيلة (لأنها معرفة بدون عمل)، ولهذا فهو يذكرها بالتحديد. لأنه لم يقل تصنع مشيئته، لكن ” تعرف وتميز”، وليس تعمل وتتمم.
” وتثق أنك قائد للعميان ”.
وأيضاً هنا لم يقل إنك بالفعل قائد للعميان، بل ” تثق أنك قائد للعميان ” وهكذا تفتخر. ولأن جنون العظمة لدى اليهود كان كبيراً، فلهذا نجد أن الرسول بولس هنا يعكس ما ورد في الأناجيل من عبارات تدل على افتخارهم بأنفسهم عندما قالوا للمولود أعمى: ” في الخطايا وُلدت أنت بجملتك وأنت تعلّمنا” [2] . فقد كانوا دائمي الافتخار بأنفسهم أمام الجميع، هذا بالضبط ما أراد الرسول بولس أن يفحصه ويصححه، فنجده يرفع من شأن أولئك اليونانيين، مقابل وضع هؤلاء اليهود. وكأنه بهذا أراد أن يفضح افتخارهم الكاذب، ويجعل دينونتهم أثقل. ولهذا استمر في كشف زيف افتخارهم بقوله:
” وتثق أنك قائد للعميان ونور للذين في الظلمة. ومهذّب للأغبياء ومعلم للأطفال ولك صورة العلم والحق في الناموس ” (19:2ـ20).
مرة أخرى لم يقل: لك صورة العلم والحق “في الضمير” و”في الأعمال” و”في الانجازات”، لكن ” في الناموس”. وبعدما قال هذه الأمور، فإن ما ذكره عندما أشار إلى الأمم بقوله ” لأنك فيما تدين غيرك تحكم على نفسك” [3] ، يكرره هنا تقريباً:
” فأنت اذاً الذي تعلّم غيرك ألست تعلّم نفسك؟ ” (21:2).
غير أنه عندما كان يشير إلى الأمم، كان حديثه أكثر حدة، أما هنا فحديثه يتسم بالرقة، حيث لم يهددهم بأنهم يستحقون عقاباً أكثر نتيجة فعلهم هذا، بل يخاطبهم قائلاً: ” فأنت اذاً الذي تعلّم غيرك ألست تعلّم نفسك؟” فعلى الرغم من ثقتهم فيك “كمعلّم” لأمور كثيرة، فإنك لم تنتفع شيئاً من كل هذه الأمور كما ينبغي، وهذا هو معنى سؤاله بقوله: ” فأنت إذن الذي تعلّم غيرك ألست تعلّم نفسك “؟ لكن لاحظ من فضلك، رؤية الرسول بولس في موضع آخر، حيث يشير إلى تميّز اليهود والذي لم يكن راجعاً لأعمالهم التي مارسوها بأنفسهم، ولكن راجع إلى فعل النعمة الإلهية فيهم. ويبَيّن كيف أنه (أي الناموس) لم يكن فقط بلا نفع لهم مادامو قد أهملوه، لكنهم أيضاً قد جلبوا على أنفسهم عقاباً آخر. فليس هو إنجاز خاص بهم أن يدعوا يهوداً، ولا لأنهم أخذوا الناموس، ولا للأمور التي ذكرها فيما سبق، بل لأجل النعمة الإلهية. فبينما نجده في البداية يقول إن مجرد سماع الناموس لا يفيد إطلاقاً إن لم يقترن بالعمل ” لأن ليس الذين يسمعون الناموس هم أبرار عند الله” [4] . نجده الآن يوضح أنه ليس السماع فقط هو المهم، لكن الذي يُعد أكثر أهمية من السماع هو التعليم. ولا حتى التعليم يستطيع أن يساعد المعلّم عندما لا يعمل به. وليس هذا فقط أن التعليم نفسه لن يُعينه، لكن بالحري سيدينه.
وحسناً يستخدم القديس بولس الكلمات بكل دقة، لأنه لم يقل ” أخذت الناموس”، لكن ” تتكل على الناموس”. لأن اليهودي لم يتعب في أن يذهب هنا وهناك وأن يطلب معرفة الأمور التي ينبغي أن يفعلها، لكن كان لديه الناموس الذي أظهر له بسهولة الطريق الذي يقود إلى الفضيلة. فبالرغم من أن الأمم الذين سلكوا بالناموس الطبيعي، قد وُجدوا في حالة أفضل من هؤلاء اليهود، لأنهم فعلوا كل شيء بدون الناموس المكتوب، إلاّ أن الطريق نحو الفضيلة، كان أسهل بالنسبة لليهود، باعتبار أن لديهم الناموس. لكن لو أن اليهودي قال: إنني لا أسمع فقط، لكن أعلّم أيضاً، فإن هذا كان سيزيد من هول إدانته. إذن لأنه افتخر كثيراً بأن لديه الناموس، فمن أجل هذا يوضح لهم، كيف أنهم مستحقون للسخرية عندما يقول: ” وتثق أنك قائد للعميان .. ومهذب للأغبياء ومعلّم للأطفال”. هو يقصد تكبّرهم ـ لأنهم كانوا يستغلون الجهل بالناموس لدى الذين اهتدوا إلى الإيمان حديثاً ـ معطياً إياهم هذه الصفات. ومع أن هذا الكلام يبدو وكأنه مدح لهم، إلاّ أنه في حقيقة الأمر هو سبب أكبر لدينونهم.
2ـ ” ولك صورة العلم والحق في الناموس” أن مَن يفعل هذا يكون تماماً مثل شخص يرسم لوحة واضعاً أمامه صورة ملوكية، غير أن ما يرسمه لا يوافق مطلقاً هذه الصورة، بينما أولئك الذين لم يكن لديهم الأصل، رسموها بكل دقة.
وبعدما ذكر المزايا التي أخذوها من الله، ذكر عيوبهم، والتي بسببها أدانهم الأنبياء، واضعاً هذه الإدانات أمامهم بقوله:
” فأنت اذاً الذي تعلّم غيرك ألست تعلّم نفسك؟ الذي تكرز أن لا يسرق أتسرق. الذي تقول إن لا يزني أتزني الذي تستكره الأوثان أتسرق الهياكل ” (21:2ـ22).
لأنه بالحقيقة كان يُعد عمل مُجرّم ويُحظر حظراً تاماً، أن تُمّس الأموال التي توجد داخل المعابد الوثنية، بل إن هذا العمل كان أمراً مكروهاً جداً. لكن طغيان محبة المال أقنعكم أن تدوسوا هذا الناموس. بعد ذلك فإن الأمر الأصعب جداً يضيفه في النهاية قائلاً:
” الذي تفتخر بالناموس أبتعدي الناموس تهين الله ” (23:2).
هنا يذكر اتهامين ضدهم أو من الأفضل أن نقول ثلاثة اتهامات، أولاً: أنهم أهانوا غيرهم، ثانياً: أنهم أهانوا تلك الأمور التي كُرّموا بها، ثالثاً: أنهم أهانوا ذاك الذي كرّمهم، الأمر الذي كان يعد أسوأ أشكال الجحود. فيما بعد ـ لكي لا يبدو أنه يدينهم بحسب رؤيته ـ أشار إلى النبي كإدانة لهم، أولاً بكلام قليل وسريع ومختصر، لكن بعد ذلك تكلم بإسهاب أكثر. فقد ذكر إشعياء أولاً ثم بعد ذلك داود، وبالتالي صارت أمورهم مكشوفة بالأكثر. إذن فهو يُشير إلى هذه الأمور، لا باعتباره أنه هو الذي يدينهم، لكن اسمع ماذا يقول إشعياء:
” لأن اسم الله يُجدف عليه بسببكم بين الأمم ” [5] (24:2).
وها هو اتهام مزدوج، لأنه يشير إلى أن هؤلاء لا يجدّفون فقط على اسم الله، لكن يدفعون آخرين أيضاً على التجديف على اسم الله، بسبب سلوكهم المزدوج، فبينما يُعلّمون الآخرين، لا يسلكون هم أنفسهم وفق هذه التعاليم. وكأنه يخاطبهم قائلاً: إذن فما هو نفع التعليم، عندما لا تُعلّمون أنفسكم؟ وكان هذا ما سبق أن خاطبهم به من قبل عندما قال: ” فأنت إذاً الذي تعلّم غيرك ألست تعلّم نفسك “، غير أن لكلامه هنا هدف آخر. لأنه يقول إن الأمر لم يقتصر فقط على عدم تعليم أنفسكم، لكن أيضاً لم تعلّموا الآخرين، تلك الأمور التي ينبغي أن يفعلوها. إن الأمر الأكثر فزعاً ليس فقط هو أنكم لا تعلّمون وصايا الناموس، بل إنكم تعلّمون بعكس وصايا الناموس. فيجدفون على اسم الله بسببكم.
ثم بعد ذلك يتحدث عن الختان ويقول إنه أمر عظيم وأنا أعترف به، حين يكون لدى المرء الختان الداخلي (أى ختان القلب بالروح). انتبه إلى حكمة الرسول بولس، كيف أنه في اللحظة المناسبة تكلم عن الختان، وكيف أنه لم يبدأ مباشرة بالحديث عن موضوع الختان إذ أن مكانته كانت عظيمة جداً عند اليهود. وبعدما أوضح أن هؤلاء اليهود، مسئولون عن التجديف على اسم الله، وأن المستمع لكلامه بدأ يُدين سلوكهم، وأيضاً بعدما جردهم من مكانتهم المتميزة، حينئذٍ تكلم عن الختان، متمنياً أن لا يستهجن أحد الختان إذ يقول ” فإن الختان ينفع إن عملت بالناموس” على الرغم من أنه كان ممكناً، أن يستخدم أسلوباً آخر يتضح منه تجاهله للختان، لو أنه قال ما هو الختان؟ أو هل هو مجرد فعل يتممه المختتن؟ هل هو برهان لإرادته الصالحة حيث أن الختان يصير في سن مبكر جداً؟ بالإضافة إلى ذلك فإن أولئك الذين كانوا في الصحراء جميعهم ظلوا بلا ختان لسنوات عديدة، ليس هذا فقط بل من خلال شواهد كثيرة يستطيع المرء أن يتحقق بأن الختان ليس أمراً ضرورياً، ومع هذا لم يرفض الرسول بولس الختان بدون إبداء أسباب، لكنه رفضه مشيراً إلى حالة إبراهيم الذي أخذ علامة الختان ختماً لبر الإيمان. حيث أن الوعد لإبراهيم ولنسله أن يكون وارثاً للعالم، كان ببر الإيمان. وعندما يبرهن القديس بولس على أن الختان هو بلا نفع، بعد أن كان محل تقدير بالنسبة لهم، فهذا أمراً مهماً. ومع أنه كان يستطيع أن يقول إن الأنبياء دعوا اليهود بغير المختتنين (لأنهم لم يسلكوا بما يتفق وختانهم)، إلاّ أن هذا لا يُعد بأي طريقة أمراً يعيب الختان، لكنه أمراً يعيب أولئك الذين يتحدثون عنه وهم يجهلون المعنى الحقيقي للختان. لقد كان هدف القديس بولس إذن، هو أن يُظهر كيف أن الختان ليس له أي قوة في زمن النعمة. وهذا بالضبط ما بيّنه فيما بعد.
فبعدما أوضح عدم نفع الختان من خلال شواهد أخرى، لم يُشر فيها إلى إبراهيم، إلاّ أنه قد ذكره أخيراً عندما تكلم عن الإيمان قائلاً: ” فكيف حُسب أهو في الختان أم في الغرلة” [6] . وهنا نجد أن الرسول بولس لم يُرِد أن يقول شيئاً عن الختان الذي كان يمثل عثرة بالنسبة للأممي غير المختتن، وذلك كي لا يكون حديثه مزعجاً بالنسبة لهم. أما عندما يتعلق الأمر بالإيمان، فإننا نجده يتكلم عن الختان بأكثر حدة، وذلك عكس ما حدث عندما تكلم عن الختان والغرلة إذ واصل حديثه بأسلوب هادئ قائلاً:
” فإن الختان ينفع إن عملت بالناموس، ولكن إن كنت متعدياً للناموس فقد صار ختانك غرلة ” (25:2).
إذن فهو يقصد هنا غرلتين وختانين كما يقصد ناموسين. لأنه كما يوجد الناموس الطبيعي والناموس المكتوب، يوجد أيضاً ناموس آخر بينهما، هو ناموس الأعمال. لاحظ كيف أنه يُظهر هذه النواميس الثلاثة، ويعرضها أمامهم بقوله: ” لأن الأمم الذين ليس عندهم الناموس” [7] ، أخبرني عن أي ناموس يتكلم؟ إنه يتكلم عن ناموس الأعمال، ثم يكمل ” إذ ليس لهم ناموس” وهنا أيضاً أي ناموس يقصد؟ يقصد الناموس المكتوب، ويضيف ” هم ناموس لأنفسهم” كيف؟ من خلال الناموس الطبيعي. ومع ذلك فهم أي الأمم ” يُظهرون عمل الناموس ” وأى ناموس هذا الذي يظهرونه؟ نقول ناموس الأعمال. لأن الناموس المكتوب لم يُعطَ للأمم، بينما الناموس الطبيعي “يوجد داخلهم” كبشر، والناموس الثالث يظهر في الأعمال.
فالناموس الأول ـ هو من خلال النص المكتوب. والثاني ـ الطبيعي ـ تُمليه طبيعة البشر. والثالث ـ ناموس الأعمال ـ يظهر في الأعمال.
إذن فهناك احتياج لهذا الناموس الثالث والذي لأجل تحقيقه، يوجد الإثنان الآخران أي الناموس الطبيعي والناموس المكتوب. فإذا لم يتحقق هذا الناموس أي ناموس الأعمال فلا يوجد أي نفع من هذين الناموسين أي الناموس الطبيعي والناموس المكتوب، بل سيوجد ضرر كبير جداً. وقد أوضح القديس بولس هذا الضرر في حديثه عن الناموس الطبيعي بالنسبة للأمم قائلاً: ” لأنك فيما تدين غيرك تحكم على نفسك” [8] . وأيضاً في حديثه عن الناموس المكتوب بقوله: ” الذي تكرز ألا يُسرَق أتَسرقُ” [9] . وهكذا أيضاً توجد غرلتان، الواحدة طبيعية والأخرى نتيجة للتعدى على وصايا الناموس من أولئك الذين اختتنوا بالجسد حسب الناموس. أيضاً لا يوجد ختان واحد الذي يتم في الجسد، لكن هناك ختان آخر يأتي من الإرادة. ماذا أريد أن أقول؟ لو أن شخصاً مارس الختان في اليوم الثامن، فهذا هو الختان الجسدي، ولو أن شخصاً آخر نفذ كل وصايا الناموس، فهذا هو ختان النفس، وهذا ما يطلبه الرسول بولس بشكل خاص أو من الأفضل أن نقول إن هذا هو ما يطلبه الناموس.
3ـ لاحظ إذن كيف أنه يبدو وكأنه قد قبل الختان عندما تحدث عنه، غير أنه عملياً قد أبطله. فهو لم يقل إن الختان هو أمر زائد وأنه بلا نفع وبلا فائدة، لكن ماذا قال؟ ” فإن الختان ينفع إن عملت بالناموس”. ولم يكن لديه مانع من قبوله مشيراً إلى أنه ليس هو أمر سيئ، لكن متى؟ يجيب عندما يقترن بحفظ الناموس “ولكن إن كنت متعدياً للناموس فقد صار ختانك غرلة” ولاحظ أنه لم يقل إن الختان لا يفيد بعد لكي لا يبدو وكأنه يحتقره. لكن بعدما أوضح حقيقة العلاقة بين الختان وسلوك اليهودي، وقتها تصدى له، الأمر الذي لم يُعدّ بعد احتقاراً للختان، لكنه ازدراءً من ذاك الذي قد فقد المعنى الحقيقي للختان بسبب لامبالاته. تماماً مثل أولئك الذين لهم رُتب عالية في المجتمع، ثم بعد ذلك يُقبض عليهم من أجل جرائم خطيرة. فبعدما ينزع عنهم القضاة كرامة رتبهم، حينئذٍ يعاقبونهم. هكذا فعل الرسول بولس لأنه عندما قال: ” لو كنت متعدياً للناموس “، فإنه أضاف ” فقد صار ختانك غرلة “، وعندما برهن على أن هذا اليهودي هو غير مختتن من الداخل فإنه أدانه وبلا تردد بقوله:
” إذن إن كان الأغرل يحفظ أحكام الناموس أفما تحسب [10] غرلته ختاناً ”؟ (26:2).
لاحظ ماذا يقول الرسول بولس؛ فإنه لم يقل إن الغرلة تتفوق على الختان، لأن هذا القول كان سيُعد أمراً مؤسفاً لمستمعيه في ذلك الوقت. بل قال إن الغرلة صارت مثل الختان ويتحدث عن ما هو الختان وما هي الغرلة، ويشير إلى أن الختان هو عمل حسن، والغرلة أمر سيئ. فبعدما ذكر أن غير المختتن يُعد في الواقع مختتن بسبب أعماله الحسنة، وبعدما اعتبر المختتن هو أغرل، بسبب أنه عاش في التعدي، فقد أعطى الأفضلية لغير المختتن إذ قال: أفما تتحول غرلته ختاناً؟ ولم يقل ستحسب لكن ستتحول، وفي هذا كان واضحاً كل الوضوح إذ سبق وقال ” ختانك صار غرلة “، ولم يقل حُسب غرلة [11] . أرأيت أنه يشير إلى غرلتين؛ الطبيعية والاختيارية؟
” وتكون الغرلة التي من الطبيعة وهي تكمل الناموس تدينك ” (27:2).
إنه هنا يذكر الغرلة الطبيعية، ولا يتوقف عند هذا، لكنه يضيف ” أنت الذي في الكتاب والختان تتعدى الناموس”. لاحظ حكمته فهو لم يقل إن الغرلة الطبيعية ستدين الختان، لكن حين ينجح المرء في تنفيذ الوصية، فإنه يذكر الغرلة، وحينما يدين الختان، فإنه لا يُشير إلى الختان نفسه بل إلى اليهودي الذي أعطى له الختان. ولم يقل أنت الذي عندك الناموس والختان، لكنه أيضاً بهدوء يقول ” أنت الذي في الكتاب والختان تتعدى الناموس “.
أي أن هذه الغرلة ويقصد الختان (الروحي)، قد صارت مساعداً للناموس. لأن هذه الغرلة التي كانت محتقرة في السابق، تحصل الآن على غلبة ظاهرة. وحينما لا يُدان اليهودي من اليهودي، لكن من الأممي غير المختتن تتقرر الغلبة، تماماً مثلما يقول الكتاب: ” رجال نينوى سيقومون في الدين مع هذا الجيل ويدينونه” [12] . وهكذا نرى من كل ما قاله إنه لا يقصد أن يهين الناموس إذ هو يقدره كثيراً، لكن يقصد اليهودي الذي يحتقر الناموس.
وبعدما أظهر هذه الأمور بوضوح ـ نجده بكل شجاعة ـ يحدد مَن هو اليهودي، ويوضح كيف أنه لا يرفض اليهودي ولا الختان، لكنه يرفض ذاك الذي ليس هو يهودي بالحق أي الذي ليس له الختان الروحي. ومع أنه يبدو أنه يدافع عن الختان، لكنه في الحقيقة يرفع عنه ما كان له من تقدير وفخر عند اليهود مُستنداً في ذلك على أن اليهود المختتنين يخالفون وصايا الناموس، ويوضح أنه لا يوجد أي فرق بين اليهودي وغير المختتن، وليس هذا فقط، لكن كيف أن الأممي غير المختتن هو أسمى لو أنه لاحظ نفسه، وأن اليهودي الحقيقي هو ذاك الذي يلاحظ نفسه:
” لأن اليهودي في الظاهر ليس هو يهودياً ولا الختان الظاهر في اللحم ختاناً ” (28:2).
هنا هو يدين هؤلاء اليهود، لأنهم يفعلون كل شيء علانية من أجل محبة المجد الباطل.
” بل اليهودي في الخفاء هو اليهودي وختان القلب بالروح لا بالكتاب هو الختان الذي مدحه ليس من الناس بل من الله ” (رو29:2).
4ـ بهذه الأقوال هو يرفض كل الأمور الظاهرية. مثل الختان الذي يُمارس ظاهرياً في الجسد، وحفظ السبوت، وتقديم الذبائح، والتطهيرات. كل هذه الأمور أشار إليها بكلمة واحدة قائلاً: ” لأن اليهودي في الظاهر ليس هو يهودياً”. لكن لأن الحديث عن الختان كان طويلاً، فبالطبع كان الحديث عن حفظ السبت قليلاً. ثم يتكلم بعد ذلك عن ختان القلب بالروح ويُمهد الطريق لحياة الشركة وحياة الإيمان. حيث أن هذا الإيمان صار بعمل الروح القدس في القلب، والله نفسه يمتدح هذا الإيمان. ولماذا لم يبين كيف أن الأممي الذي يحفظ الناموس ليس بأقل من اليهودي الذي يحفظه، بل أظهر كيف أن الأممي الذي يحفظه هو أسمى من اليهودي الذي يخالفه؟ لقد فعل ذلك لكي يجعل الغلبة لغير المختتنين أمراً مؤكداً. إذن عندما يصير هذا الأممي مقبولاً، فبالضرورة يصير ختان الجسد مرفوضاً. وهكذا يتضح في كل موضع أن الأمر يحتاج إلى السير في طريق الحياة المستقيمة. لأنه عندما يخلص الأممي بدون هذه الأمور الخاصة بالناموس، بينما يدان اليهودي بها، فاليهودية تصير إذاً بلا نفع. لكنه أيضاً لا يقصد بالأممي، ذلك الذي يعبد الأوثان، لكن ذاك المتقى الله، السالك بالفضيلة، والمتحرر من أحكام الناموس.
[1] أي عطية أنهم يدعون يهوداً ولهم الناموس والأنبياء والعهود والاشتراع.
[2] يو34:9.
[3] رو1:2.
[4] رو13:2.
[5] إش5:52.
[6] رو10:4.
[7] رو14:2.
[8] رو1:2.
[9] رو21:2.
[10] هنا يستخدم القديس يوحنا ذهبى الفم الفعل (metatrape…) ويعنى “ت تحول ” ، وليس بمعنى ” تُحسب “.
[11] رو25:2.
[12] مت41:12.