Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
☦︎
☦︎

” فأطلب إليكم أيها الاخوة برأفة الله أن تقدموا أجسادكم ذبيحة حية مقدسة مرضية عند الله عبادتكم العقلية ” (رو1:12).

          1  بعدما تكلم كثيراً عن محبة الله نحو البشر، وأظهر عنايته التي لا يُعبر عنها، وصلاحه غير الموصوف والتي لا يمكن فحصه، أخذ يستفيض في عرض ذلك الصلاح، لكي يُقنع أولئك الذين نالوا إحسانات الله، بأن يُظهروا سلوكاً يليق بهذه العطية. وبرغم أنه رسول عظيم وله مكانة كبيرة فهو يتوانى عن أن يترجى. على أن كل ما كان يرجوه منهم لا يتعلق بشيء سيحظى به هو شخصياً، بل يرتبط بما يمكن أن يحصلوا عليه هؤلاء (الاخوة). وهل سيكون هناك مجالاً للتعجب إذا لاحظت أنه لا يتوقف عن التوسل عندما يتحدث عن رأفات الله؟ إنه يقول لهم نظراً لأن من هنا تأتي الخيرات غير المحدودة لكم، أي من رأفات الله، فلتقدروا هذه الرأفات، وتستجيبوا لها. كذلك فإن هذه الرأفات تحمل معنى التوسل الذي يمنعكم عن إظهارأي شيء لا يليق بها. هكذا يقول لهم أطلب إليكم برأفة الله التي بها أي خلصتم لأنه أراد أن يؤنب الذين نالوا إحسانات كثيرة فهو يقول لهم إني أطلب برأفة الله رغبة منه أن يقدم لهم الله نفسه وليس هو شخصياً. وأخبرني يا بولس ماذا تطلب؟ يطلب ” أن تقدموا أجسادكم ذبيحة حية مقدسة مرضية عند الله عبادتكم العقلية ” ولأنه تكلم عن “ذبيحة”، ولكي لا يعتقد أحد أنه يأمر أن يقدموا أجسادهم ذبائح، أضاف كلمة “حية”. بعد ذلك يفصل هذه الذبيحة عن الذبيحة اليهودية، بقوله: ” مقدسة مرضية عند الله عبادتكم العقلية “. خاصةً وأن الذبيحة اليهودية جسدية وليست مرضية بشدة. لأنه يقول: ” من طلب هذا من أبويكم “ [1]. وفي مواضع أخرى كثيرة جداً يتضح أن الله كان يرفض هذه الذبائح. لكنه لم يرفض هذه الذبيحة (أي الذبيحة العقلية)، وحتى إن كانت الذبيحة اليهودية تُقدم، فإنه طلب هذه الذبيحة (العقلية). ولهذا قال: ” ذابح الحمد يُمجدني “ [2]. وأيضاً ” أسبح اسم الله بتسبيح وأعظمه بحمد. فيستطاب عند الرب أكثر من ثور بقر ذى قرون وأظلاف “ [3]. وفي موضع آخر رفض هذه الذبيحة الحيوانية، قائلاً: ” هل آكل لحم الثيران وأشرب دم التيوس. أذبح لله حمداً وأوف العلى نذورك “ [4]. هكذا فإن ق. بولس هنا يُعطي أمراً أن يقدموا أجسادهم ذبيحة حية. وكيف يمكن أن يصير الجسد ذبيحة؟ يحدث ذلك عندما لا ترى العين أي شيء خبيث وقد صارت ذبيحة، ألا يتفوه اللسان بأي شيء مُقزز، وقد صار تقدمه، ألا تمتد الأيدي إلى أي شيء مُخالف، وقد صارت ذبيحة مكتملة.

          أو من الأفضل أن نقول إن هذا لا يكفي، بل من الضروري بالنسبة لنا فعل الخير أيضاً، حتى أن اليد تقدم عمل الرحمة، والفم يُبارك مَن يُسيئون إلينا، والأذن تنشغل دوماً بسماع كلام الله. لأن الذبيحة لا يكون فيها شيئاً دنساً، الذبيحة هي باكورة الأشياء الأخرى. إذاً فلنُقدم نحن أيضاً لله، باكورات الأيدي والأرجل والفم، وكل أعضاء جسدنا الأخرى. هذه الذبيحة هي ذبيحة مرضية، بينما ذبيحة اليهود كانت دنسة. لأن ذبائحهم ” كخبز الحزن كل من أكل يتنجس” [5]. لكن ذبيحتنا ليست هكذا. تلك الذبيحة الحيوانية المقدمة تُعرض ميتة، بينما هذه الذبيحة (التي يتحدث عنها ق. بولس) تُقدم حية. إذاً حين نُميت أعضاءنا، سنستطيع عندئذٍأن نحيا. لأن ناموس هذه الذبيحة هو ناموس جديد. ولهذا فإن طريقة النار هي غريبة. لأنه لا يحتاج إشعالها إلى خشب ومواد أخرى، بل أن نارنا هذه تشتعل من ذاتها، ولا تحرق الذبيحة، بل تحييها بالأكثر. هذه الذبيحة هي التي طلبها الرب منذ البداية. ولهذا قال النبي: ” ذبائح الله هي روح منكسرة “ [6] . وهذه الذبيحة قد قدمها الثلاثة فتية، قائلاً: ” ليس لنا في هذا الزمان رئيس ولا نبي ولا قائد ولا محرقة ولا ذبيحة ولا تقدمة ولا بخور ولا موضع لتقريب البواكير أمامك .. ولكن لانسحاق نفوسنا وتواضع أرواحنا اقبلنا “ [7] .

          2  لكن، لاحظ كيف أنه (أي ق. بولس) يستخدم كل كلمة بدقة شديدة. لأنه لم يقل اجعلوا أجسادكم ذبيحة، بل قال “قدموا”، كما لو كان يقول، ينبغي ألا يكون لكم بعد شيئاً مشتركاً مع هذه الأجساد، بل قدموها لآخر. كذلك أيضاً الذين يقدمون خيول الحرب، لا يكون لهم فيما بعد أي علاقة معها؛ وأنت أيضاً قد قدمت أعضاءك في الحرب ضد الشيطان، وفي هذه المعركة المخيفة لا تستدعي هذه الأعضاء لخدمتك الذاتية. وهو يُظهر، بالإضافة إلى ذلك، إنه يجب أن نجعلها (أي أعضاؤنا) مُختبرة أو مُجرّبة، طالما أننا ننوي تقديمها. لأننا لا نُقدمها إلى واحد من البشر الأرضيين، بل لله ذاته، ملك الجميع، لا لكي تحارب فقط، بل لكي يجعلها الملك ذاته عرشاً يجلس عليه. لأنه لا يرفض أن يجلس أو يحلّ في أعضائنا، لكنه يريد ذلك جداً. فما لا يُفضّله الملك البشري، هذا يفضّله ملك الملائكة.

          وعندما يكونوا مستعدين أن يقدموا أنفسهم ذبيحة، فيجب أن يستبعدوا عنهم كل ضعف، فإن كان لديهم أي ضعف ، فلن يستطيعوا أن يقدموا أنفسهم ذبيحة. فلا العين يمكن أن تقدم نفسها ذبيحة، عندما تنتظر إلى أشياء خبيثة، ولا اليد حين تخطف وتكون جشعة، ولا الأرجل عندما تسير بإعوجاج وتتجه نحو اللهو، ولا البطن عندما تصير عبدة للمتعة وتُشعل شهوات اللذات، ولا القلب عندما يكون فيه غضباً وعشقاً للزنا، ولا اللسان عندما يتكلم بكلام بذئ. ولهذا ينبغي أن يفحص جسدنا من كل جوانبه، حتى لا تكون به عيوباً.

          إذاً طالما أن أولئك الذين قدموا الذبائح القديمة، كانوا يلتزمون بالناموس بأن يفحصوا كل شيء، ولم يكن يُسمح لهم بأن يقدموا ذبيحة مقطوعة الأذن، أو مقطوعة الذيل، ولا حيوانات مريضة بالجرب، ولا حيوانات بها حزازات [8]. فبالأولى جداً نحن الذين لم نُقدم خرافاً غير عاقلة، بل قدمنا أنفسنا، أن نُظهر حرصاً أكبر أن نكون أنقياء من كل جهة، لكي نستطيع بحسب ق. بولس أن نقول ” أنا الآن أسكب سكيباً ووقت إنحلالي قد حضر “ [9]. بالحقيقة لقد كان أكثر نقاء من كل ذبيحة، ولهذا دعى نفسه سكيباً أو مسكوباً. هذا سيحدث إن أمتنا إنساننا العتيق، إن أمتنا أعضاءنا التي على الأرض، لو صلبنا العالم لنا.

          هكذا لن نحتاج بعد لسكين ولا لمذبح ولا لنار. أو من الأفضل أن نقول إننا سنحتاج لكل هذا، لكن ليست المصنوعة باليد، بل أن كل ذلك سيأتي إلينا من السماء، النار والسكين ستُعطى لنا من السماء، والمذبح بالنسبة لنا هي السماء الواسعة. وإن كان إيليا قدم ذبيحة مادية، ونزلت نار من السماء وأكلت كل شيء، الماء والخشب والحجارة، فبالأكثر جداً سيحدث هذا معك. وإن كان لديك بعد شيئاً حياً، وإن كان عندك شيئاً من التراخي، ولكنك رغم ذلك تُُقدم ذبيحة بإرادة مستقيمة، فبعدما تنزل نار الروح، سنأكل هذا الشيء الحيّ، وكل التقدمة ستحمل نهاية أو ستأتي بثمار. لكن ما هي العبادة العقلية؟ هي الخدمة الروحية، هي الحياة التي تتفق مع تعاليم المسيح. تماماً مثل من هو خادم وكاهن في بيت الرب، أياً كان هو، حين يكون في وقت تقديم الذبيحة، يصير أكثر وقاراً وورعاً، هكذا نحن أيضاً ينبغي أن نسلك كل أيام حياتنا، كما لو كنا نُقدم عبادة، وأن نكون كهنة. وهذا سيحدث، إن كنت تُقدم له كل يوم ذبائح، وتصير كاهناً لجسدك، ولفضيلة نفسك. أي حين تقدم تعقلاً، ورحمة، ورأفة، وتسامحاً.

          إذاً عندما تفعل كل هذا، فأنت تُقدم العبادة العقلية، أي العبادة التي ليس فيها شيئاً جسدياً، شيئاً ذهنياً، شيئاً مادياً.

          3  إذاً بعدما سمى بالمستمع بالصفات، وأظهر ان كل واحد يعتبر كاهناً لنفسه، من خلال سلوكه في الحياة، تكلم عن الطريقة التي يمكن بها تحقيق كل هذا. فما هي هذه الطريقة؟ هي:

” لا تُشاكلوا هذا الدهر. بل تغيروا عن شكلكم بتجديد أذهانكم ” (رو2:12).

          خاصةً وأن شكل هذا الدهر هو زائل وقتي ولا يُمثل شيئاً، وليس فيها أي شيء، وليس فيها شيئاً سامياً ولا دائماً، ولا مُمتداً، بل أن كل شيء فيه هو فاني. إذاً إن كنت تريد أن تسلك بطريقة صحيحة لا تُشاكل الحياة الحاضرة، لأنه لا يوجد شيئاً في هذه الحياة ثابت ودائم. ولهذا فقد دعى ذلك، شكلاً. أيضاً يقول في موضع آخر ” هيئة هذا العالم تزول “ [10]. لأن هيئة هذا العالم ليس فيها شيئاً دائماً ثابتاً، بل كل ما فيها هو وقتي. ولهذا قال: ” هذا الدهر” لكي يُعلن بهذا أنه فاني، بينما يُعلن “بالشكل”، أن ليس له أقنوماً. لأنه سواء تكلمت عن الغنى، أو المجد، أو جمال الجسد، أو المتع، أو أي شيء آخر من تلك الأمور التي تُعتبر كبيرة، فهي فقط شكل وليست حقيقة الشيء، هي عرض وقناع، وليست أقنوماً يبقى للأبد.

          لكن أنت لا تُشاكل هذا الدهر، بل كما يقول الرسول بولس ” تغيروا عن شكلكم بتجديد أذهانكم “. لم يقل تحوّل أي (na metaschmat…zesai) بل قال: (na metamorfènesai) أي تغيير (أي أن تتجلى)، لكي يُظهر أن الشكل هو للعالم، بينما فيما يختص بالفضيلة، فالأمر لا يتعلق بالشكل، بل هي صورة حقيقية لها جمال طبيعي، دون أن تحتاج المساحيق الخارجية التي تظهر وفي نفس الوقت تختفي. إن كل هذه تظهر بالحقيقة أولاً ثم تتحلل. إذاً لو أنك ألقيت عنك الشكل الذي ينتمي إلى العالم فستصل سريعاً إلى الصورة. لأنه لا يوجد شيئاً أضعف من الشر، ولا شيئاً يشيخ بسهولة أكثر من الشر. بعد ذلك ولأن الناس بشر، وبسبب طبيعتهم فهم معرضون أن  يُخطئوا كل يوم، فإنه يُعزي المستمع، قائلاً له، جدّد نفسك كل يوم. إن ما نصنعه داخل بيوتنا، حيث نُصلح دائماً ما أصابه القِدم، فهذا عينه اصنعه في نفسك. هل أخطأت اليوم؟ هل أصابت نفسك الشيخوخة؟ لا تيأس، ولا تفقد شجاعتك بل جدّد نفسك بالتوبة، بالدموع، بالاعتراف وفعل الخير، ولا تتوقف أبداً عن فعل ذلك.

          وكيف نستطيع أن نفعل ذلك؟ بأن ” تختبروا ما هي إرادة الله الصالحة المرضية الكاملة ” إما أنه يقصد: تجددوا لكي تعرفوا إرادة الله الصالحة المرضية، وإما: أنكم تقدروا على أن تتجددوا إن عرفتم أين هي منفعتكم، وبالأولى ما هي إرادة الله الصالحة المرضية. لأنه إن عرفت هذا، وتعلّمت أن تُميز طبائع الأشياء، تكون بهذا قد وصلت إلى الطريق الذي يقود إلى كل فضيلة. ومَن هم الذين لا يعرفوا ما هو الصالح بالنسبة لهم، وما هي إرادة الله؟ إن أولئك الذين يتأثرون بالأشياء الحاضرة، ويعتقدون أن الثراء يستحق الحسد ويحتقرون الفقر، والذين يسعون نحو السلطة، وسلّموا أنفسهم للمجد العالمي، أولئك الذين يؤمنون بأنهم عظماء، هؤلاء يبنون منازل فاخرة، يشترون قبوراً فخمة، يمتلكون عبيداً كثيرين، ويتجول معهم عدد كبير من الخصيان. هؤلاء يجهلون أين هي مصالحهم، وما هي إرادة الله. خاصةً وأن الاثنين هما واحد. لأن الله يريد تلك الأمور التي هي لمصلحتنا، فما يريده الله لنا هو ما يُحقق لنا الفائدة.

          إذاً ما هو الذي يريده الله لنا؟ أن نحيا بفقر، بإتضاع، باحتقار للمجد الباطل، بعفة، وليس بالمتعة، بل بألم، ليس بتنعم، بل بحزن، ليس بدعابات وضحكات، يريدنا أن نحيا بكل الأمور الأخرى التي قنّنها. لكن الكثيرين يعتبرون هذه الأمور تنجيماً أو عرافة، إنهم يبتعدون جداً عن معرفة مصلحتهم ومعرفة إرادة الله. إذاً فإن الذين لا يعرفون ما هي الفضيلة، بل يبتهجون بالشر، بدلاً من الفضيلة، ويأتون بالزانية إلى فراشهم بدلاً من المرأة المتعقلة، متى سيتمكنون أن يبتعدوا عن الدهر الحالي؟ ولهذا فقبل كل شيء يجب أن يكون حكمنا على الأمور واضحاً. فحتى وإن كنا لم لا نُمارس الفضيلة بعد، إلاّ أننا يجب أن نمتدح الفضيلة، وإن كنا لا نتجنب الشر، إلاّ أنه يجب علينا أن نُدين الشر، لكي يكون لدينا قبل كل شيء أحكاماً أو قرارات غير مُدانة. وهكذا نتقدم رويداً رويداً، سيُمكننا أن نصل إلى الأعمال. ولهذا تحديداً، فإن الرسول بولس يُعطي أمراً أن نتجدد ” لنختبر ما هي إرادة الله “. ولكن ما يبدو لي هنا أنه يُدين اليهود، الذين تمسكوا بالناموس. لأن إرادة الله كانت بالتأكيد تشمل الحياة القديمة أيضاً، على ألا تكون أولاً، وقد سمح بها بسبب ضعفهم، أما الكمال والأمر المرضي لدى الله، فهو الحياة الجديدة.

4  ” فإني أقول بالنعمة المعطاة لي لكل من هو بينكم أن لا يرتئي فوق ما ينبغي أن يرتئي بل يرتئي إلى التعقل. كما قسم الله لكل واحد مقداراً من الإيمان ” (رو3:12).

          فبعدما قال قبلاً ” أطلب إليكم أيها الاخوة برأفة الله “، يقول هنا مرة أخرى “بالنعمة” لاحظ إتضاع المعلم، لاحظ الإرادة الخجولة. لا يقول قط أنه هو ذاته، مستحق أن يوجه مثل هذه النصيحة وهذه المشورة، بل مرة يأخذ معه رأفة الله، ومرة نعمة الله. هكذا يوضح أنه لا يتحدث بكلامه الشخصي، بل بكلام الله. ولم يقل، إنني أكلمكم باسم حكمة الله، وباسم ناموس الله، لكنه قال: ” بالنعمة المعطاة لي ” لكي يُذكّر على الدوام بإحسانات الله، لكي يجعلهم بالأكثر ممتنين لله، وأن يُظهر بهذه الطريقة أنهم مسئولون عن الطاعة لكل ما يُقال.

          ” لكل من هو بينكم “. وليس لفلان وفلان فقط، بل للأرض، وللغنى، وللعبد والحر، وللبسيط والحكيم، وللمرأة والرجل، وللشاب والشيخ. لأن هذا الناموس هو واحد للجميع، لأنه ناموس الرب. وهكذا لا يجعل كلامه مُزعجاً، طالما أنه يُقدم التعاليم للجميع، ولأولئك الذين ليسوا هم مسئولين، لكي يتقبل المسئولون بأكثر سهولة هنا التوبيخ وهذا الاصلاح. أخبرني ماذا تقول؟ ” أن لا يرتئي فوق ما ينبغي أن يرتئي “. أنه يعرض هنا لتاج الصالحات، الإتضاع، متمثلاً بمعلمه. لأنه مثلما أن سيده صعد إلى الجبل وألقى الموعظة هناك، وكانت هذه هي البداية، وقد وضع هذه الأساسات، قائلاً: ” طوبى للودعاء “ [11]، هكذا بولس أيضاً، بعدما تدّرج من العقائد (الإيمانية)، إلى الموضوعات الأخلاقية، علم بشكل عام عن الفضيلة، بأن يطلب منا الذبيحة المرضية، لكنه يُريد أن يصفها بشكل منفصل، يبدأ من الإتضاع، كما كان قد بدأ من الأهم، ويقول: ” أن لا يرتئي فوق ما ينبغي أن يرتئي “، لأن هذه هي إرادة الله، ” بل يرتئي إلى التعقل “.

          ما يقوله يعني الآتي: لقد وُهبنا عقلاً، لا لكي نستخدمه بتباهي، بل بتعقل. ولم يقل بوداعة، بل قال “بتعقل”، قاصداً بالتعقل هنا، ليس الفضيلة التي هي عكس الفجور، ولا التحرر من الفسق، بل الصفاء الروحي، والصحة الذهنية. كذلك فإن هذا يُقال عنه تعقلاً، من حيث إنه صحيح ومنطقي لكي يُظهر إذاً أن ذاك الذي ليس لديه تواضعاً، لا يمكنه أن يقتني التعقل، أي لا يمكن أن يكون متوازناً بشكل جيد، وأن يحكم على الأمور بشكل صحيح، بل يكون ذلك الإنسان بلا منطق وقد أصيب بالجنون، وهو أكثر من أي محتل العقل يعتبر التواضع تعقلاً. وكما قسّم الله لكل واحد مقدار من الإيمان “.

          فنظراً لأن منح المواهب دفع الكثيرين للإفتخار، فعليك أن تلحظ الطريقة التي أوضح بها للكورنثيين سبب المرض وكيف حاصره تدريجياً. لأنه بعدما قال إنه ينبغي أن يكون التفكير بتعقل، أضاف: ” كما قسّم الله لكل واحد مقدار من الإيمان “. داعياً الموهبة هنا، إيماناً. ولكن بقوله كما قسّم، يكون قد عزّى مَن نال القليل، وضبط الذي تمتع بالكثير.

          إذاً إن كان الله هو الذي قسّم، وأن ما تحقق هو ليس منك، فلماذا تفتخر؟ لكن لو أن أحداً قال، إن الإيمان هنا لا يدعى موهبة، فهذا أيضاً يُظهر بدرجة كبيرة كيف أنه يجعل المفتخرين مُتضعين. إذاً فإن كان سبب الموهبة، أي الإيمان الذي به تحدث المعجزات، يأتي من الله، من أين يفتخر؟ بالتأكيد إن لم يكن رب المجد قد أتى ولم يصر إنساناً، فإن أمور الإيمان ما كان لها أن تتقدم. وبناءً على ذلك فإن بداية كل ما يتعلق بالأمور الصالحة تأتي من هنا. ولكن إن كان رب المجد يهب، فهو يعرف كيف يُقسّم. لأنه هو خالق الجميع، ويعتني بالجميع بنفس القدر. وكما أن سبب عطائه هي محبته للبشر، هكذا أيضاً مقدار العطية هي بسبب محبته للبشر. لأنه لم يكن ممكناً أن يظلمك في القدر الذي يعطيك إياه، طالما أنه قد أظهر صلاحه في الأمم، بل والأكثر أهمية، هو منحه للمواهب. لأنه، إن كان يريد أن يُقلل من شأنك ما كان له أن يعطيك البداية، أما إن كان قد حرص على أن يُخلّصك ويكرّمك، خاصةً أنه لهذا قد أتى، وقسّم كل هذا القدر من الخيرات، فلماذا تقلق، وتضطرب، وتستخدم العقل في الحماقة، فتهين نفسك أكثر من الأحمق بطبعه؟ لأنه أن يكون أحد بطبيعته أحمق، فهذا ليس إتهاماً، ولكن أن يصير بالعقل، أحمق، فيكون قد حرم نفسه من التسامح، ونال أكبر عقاب.

          5  مثل هؤلاء الذين يفتخرون بالحكمة (العالمية) ويسقطون في أسوأ افتخار. لأنه هكذا يصف النبي الشخص البربري بقوله: ” لأن اللئيم يتكلم باللوم “ [12]. ولكي تعرف أن حماقته من كلامه، اسمع ماذا يقول: ” أصعد إلى السموات أرفع كرسي فوق كواكب الله .. أصير مثل العليّ “ [13]. إذاً هل هناك حماقة أكثر من هذا الكلام؟ وكل كلام افتخار يجلب على الفور هذه الإدانة. وإن أوردت كل كلام يقوله المفتخرون، فلن يُمكنك أن تُميز أياً من الكلام يتعلق بمفتخر أو بأحمق. هكذا فإن النقص أو العيب هو واحد هنا. وقد يقول بربري آخر: ” قلت أنا إله “ [14]، يقول آخر: ” من هو الإله الذي ينقذكم من يدي “ [15]. ومن ناحية أخرى يقول المصري: ” من هو الرب حتى اسمع لقوله فأطلق إسرائيل. لا أعرف الرب وإسرائيل لا أطلقه “ [16]. والجاهل الذي أشار إليه النبي هو مثل ذلك، عندما قال في قلبه “ليس إله” [17]، وقايين أيضاً هو هكذا، إذ يقول “أحارس أنا لأخي” [18].

          ترى، هل يُمكنك أن تُميز أياً من الأمرين، هل تميز ما إذا كان الكلام هو للمفتخرين أم للجهال؟ لأن الشخص القاسي يفقد المعيار المتعارف عليه الذي يأتي من الذهن (ولهذا يُقال عنه تقسى)، كذلك فإن رأس الحكمة مخافة الله. وبناء على ذلك فإن رأس الحماقة هو الجهل بالرب. فإذا كانت المعرفة حكمة، فإن الجهل يكون حماقة، وهنا الجهل يأتي من الافتخار. لأن رأس الافتخار هو الجهل بالرب. إذاً فالافتخار هو أسوأ حماقة. مثلما كان نابال [19] ، وإن لم يكن هكذا أمام الرب، فكان هكذا أمام إنسان، بعدما صار أحمق بسبب افتخاره، لكنه مات في النهاية كما ينبغي له أن يموت. لأنه حين يفقد المرء معيار التعقل، يصبح على التو جباناً ووقحاً، بعدما تمرض نفسه. فكما أن الجسد حين يفقد صلابته ويصير ضعيفاً، تسود عليه كل الأمراض، هكذا النفس أيضاً، عندما تفقد تعقلها وتواضعها، تياً، وارفاً مثل أرز لبنان عبرت فإذا هو ليس بموجود. هكذا اكتسحوا فجأة من نظر م الروحيةوتُصاب بمرض معتاد، تصير جبانة، ووقحة، وحمقى، وتجهل بالأكثر ذاتها.

          أما الذي يجهل ذاته، كيف سيعرف الأمور التي هي أسمى منه؟ لأنه مثلما أن الذي يُُصاب بمرض عقلي، عندما يجهل ذاته، لا يعرف ولا حتى الأمور التي هي أمام قدميه، والعين أيضاً عندما تُصاب بالعمى، يحدث لها نفس الأمر، فتُلقى بكل أعضاء الجسد الأخرى في ظلام، هكذا يحدث مع الافتخار. ولهذا فإن أولئك الذين هم بالطبيعة يكونوا أكثر بؤساً وتعاسة من المجانين والحمقى. كذلك فإن أمثال هؤلاء يُثيرون السخرية، ويسببون إزعاجاً. وهم بكل تأكيد مجانين، تماماً مثل هؤلاء، ولا يُترفق بهم مثل المجانين، هم مخبولين، تماماً مثل هؤلاء، لكنهم لا يُسامحوا مثل هؤلاء المجانين، بل يُبغضوا فقط، وبينما يحملون نقائص الاثنين (أي المفتخرون والمخبولون)، لكنهم لا يلقون أي تعاطف، ويكونوا موضع سخرية، ليس فقط حين يتكلمون، بل وبحضورهم أيضاً.

          إذاً أخبرني لماذا ترفع قامتك بافتخار؟ لماذا تنفخ صدرك؟ إنك لا تستطيع أن تجعل شعرة واحدة بيضاء أو سوداء، وتتخيل أنك تسود على كل شيء. ربما أردت تزرع لك أجنحة، لكي لا تمشي على الأرض، ربما تشتهي أن تكون مسخاً. فبينما أنت إنسان، تحاول أن تطير؟ أو من الأفضل بعدما تطير في داخلك، تشتعل من كل جانب؟ ماذا أدعوك لكي أنزع عنك الافتخار؟ هل أدعوك تراباً ورماداً ودخاناً وغباراً؟ من ناحية فإني أرجع افتخارك إلى تفاهتك، لكنني من ناحية أخرى لا أعرف أن أرسم لك الصورة التي أردتها. إنني أريد أن أعرض لحججهم، وكل مجدهم الباطل. إذاً ما هي الصورة التي يمكن أن نرسمها لتتطابق مع هؤلاء؟ يبدو لي أنهم يُشبهون الرماد، خاصةً وأن المفتخر بينما يكون منتفخاً باشتعاله، ويقف منتصباً، لكن بمجرد أن يستقبل لمسة بسيطة من الأيدي يسقط كله إلى أسفل ويصير أكثر تفاهة من أي رماد.

          هكذا تكون نفوس هؤلاء (المفتخرين). لأن أي ضربة بسيطة يمكنها أن تُهين انتفاخهم الباطل وتُفتته. لأن المفتخر هو بالضرورة مريض. لأن الارتفاع ليس من سمات الصحة الجيدة، فكما تنفجر فُقعات الصابون بسهولة، هكذا هؤلاء (المنتفخون) ينهارون بسهولة. لكن إن لم تُصدق، قدّم لي شخصاً مفتخراً ووقحاً، وستراه يصير أكثر جُبناً من الأرنب، أمام أبسط شيء. لأنه كما أن الشعلة التي تنتج عن احتراق قطع صغيرة من الخشب، تشتعل سريعاً ثم تتحول إلى رماد، بينما الخشب الصلب لا يشتعل بسهولة، بل ويبقى مشتعلاً لفترة طويلة، هكذا النفوس القوية، فهي بكل تأكيد قوية، لا تشتعل ولا تُطفئ بسهولة، أما هؤلاء المفتخرون فهم يُعانون الأمرين في أقل من الثانية.

          إذاً ونحن نطّلع على هذه الأمور، لنعيش الإتضاع. لأنه لا يوجد شيئاً أكثر قوة من الإتضاع، بل هو أكثر قوة من الصخرة، وأكثر صلابة من الماس، ويجعلنا في أمان أكثر من الأبراج، ومن المدن، ومن الأسوار، طالما أنه (أي الاتضاع) يصبح أكثر علواً من كل آلات الشيطان الحربية. إذاً فكما أن الافتخار يجعلنا عرضة للهزيمة بكل سهولة، حتى أمام الأمور العارضة طالما أنه ينكسر كما قلت بسهولة أكثر من فقاعات الصابون، ويتمزق بأكثر سرعة من العنكبوت، ويضمحل بأكثر سرعة من الدخان.

          فلكي نكون إذاً مُستندين على صخرة ثابتة، علينا أن نهجر الافتخار، ولنفضل الاتضاع. لأنه هكذا سنجد الراحة في الحياة الحاضرة، وسنتمتع في حياة الدهر الآتي بكل الخيرات بالنعمة ومحبة البشر اللواتي لربنا يسوع المسيح الذي يليق به مع الآب والروح القدس المجد إلى دهر الدهور آمين.


[1] إش12:1.

[2] مز23:50.

[3] مز31:69ـ32.

[4] مز13:50ـ14.

[5] هو4:9.

[6] مز17:51.

[7] نبوءة دانيال 38:3ـ39.

[8] انظر لا17:22ـ33.

[9] انظر 2تيمو6:4.

[10] 1كو31:7.

[11] مت3:5.

[12] إش6:32.

[13] إش13:14.

[14] خر2:28.

[15] دا15:3.

[16] خر2:5.

[17] مز1:14.

[18] تك9:4.

[19] 1صم2:25ـ28.

Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF

معلومات حول الصفحة

عناوين الصفحة

محتويات القسم

الوسوم

arArabic
انتقل إلى أعلى