Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
☦︎
☦︎

” لأنه إن كنا قد صرنا متحدين معه بشبه موته نصير أيضاً بقيامته” (رو5:6).

          1 ـ هذا الذي قلته في العظة السابقة، سأقوله الآن أيضاً. إن الرسول بولس دائماً ما يلجأ إلى الحديث عن السلوك الأخلاقي بجانب التعليم الإيماني، بينما في أغلب رسائله الأخرى يقسم الرسالة إلى قسمين، الأول: يخصصه للأمور الإيمانية، والثاني: للاهتمام بالأمور الأخلاقية. إنه لا يصنع هنا نفس الشيء، بل يمزج الأمرين معاً في كل الرسالة ، حتى يصير حديثه مقبولاً بسهولة أكثر. إنه يتكلّم هنا عن نوعين من الموت. الأول حدث بالمسيح في المعمودية، بينما الآخر يجب أن يصير من خلالنا، بواسطة جهادنا الذي يأتي بعد المعمودية. فإن دفن خطايانا السالفة، كان عملاً خاصاً بعطية الله، أما من حيث أننا نظل بعد المعمودية أمواتاً عن الخطية، فهو عمل خاص بجهادنا، وإن كنا نرى أن الله هنا أيضاً يُساعدنا بصورة كبيرة جداً. لأن المعمودية لا تحقق فقط إزالة خطايانا السالفة، بل تؤّمنا أيضاً ضد الخطايا التي يمكن أن تحدث في المستقبل. فكما أنك تعلن الإيمان بفاعلية المعمودية لكي تختفي الخطايا، هكذا بالنسبة للخطايا المستقبلية، يجب عليك أن تُظهر تحولاً في الرغبة حتى لا تلوث نفسك مرة أخرى (بدنس الخطية). إذاً فهو ينصح بهذه الأمور وأمور أخرى مشابهة بقوله: ” إن كنا قد صرنا متحدين معه بشبه موته نصير أيضاً بقيامته”.

          أرأيت كيف أنه قد سمى بالمستمع حتى قاده إلى الرب مباشرةً، محاولاً أن يُبيّن عظمة التشبه به؟ ولهذا لم يقل (متحدين معه في موته) لكي لا تعترض على ذلك، لكنه قال “بشبه موته”، لأننا حين نموت معه في المعمودية فإن الذي يموت هو الإنسان الخاطئ، أي الشر. ولم يقل “لأنه وإن كنا قد صرنا مشتركين معه بشبه موته” لكنه قال “متحدين معه بشبه موته” قاصداً بهذه الكلمة تلك النبتة التي أثمرت والتي أتت من المسيح إلينا. فكما أن جسده بعدما دُفن في الأرض أتى بثمار الخلاص للبشرية، هكذا فإن جسدنا بعدما دُفن في المعمودية، نال ثمر البر والقداسة والتبني وخيرات أخرى لا تحصى، وسينال العطية الأخيرة وهي القيامة. لأننا نحن دُفنا في الماء، بينما هو قد دُفن في الأرض، ونحن قد مُتنا من جهة الخطية، أما هو فقد مات بالجسد، ولهذا لم يقل: “متحدين معه في موته” لكن “بشبه موته”. لأن هناك موتان، موت المسيح وموتنا ولكنهما موتان مختلفان.

          فإذا قال ” قد صرنا متحدين معه بشبه موته”، فإننا في القيامة ” سنصير أيضاً بقيامته”، وهو يقصد هنا القيامة العتيدة. لأنه تحدّث سابقاً عن الموت قائلاً: ” أم تجهلون أيها الأخوة أننا كل مَن اعتمد ليسوع المسيح اعتمدنا لموته” [1] ، لم يذكر شيئاً واضحاً عن القيامة، ولكنه أشار إلى طريقة حياتنا بعد المعمودية، حيث يحثنا على أن يتفق سلوكنا مع مقتضيات الحياة الجديدة، ولهذا فإنه هنا يذكر نفس الكلام، ويخبرنا مسبقاً عن تلك القيامة العتيدة. ولكي تعرف أنه لا يتحدث عن القيامة من المعمودية، بل عن القيامة العتيدة، نجده بعدما قال: ” لأنه إن كنا قد صرنا متحدين معه بشبه موته” لم يقل سنصير متحدين بشبه قيامته، لكنه قال:” نصير أيضاً بقيامته”. ولكي لا نقول وكيف يحدث هذا، طالما أننا لم نمت كما مات، فكيف سنقوم كما قام؟ نقول إنه عندما أشار إلى الموت لم يقل متحدين بموته، لكن “بشبه موته”، إلاّ أنه عندما أشار إلى القيامة لم يقل بعد بشبه قيامته، بل قال سنصير متحدين بقيامته ذاتها. ولم يقل قد صِرنا، لكن “سنصير” مُشيراً بهذه الكلمة أيضاً إلى القيامة التي لم تحدث بعد، إنما التي ستحدث فيما بعد.

          2 ـ ثم أراد بعد ذلك أن يجعل حديثه موضع ثقة، فأظهر كيف أنه قد حدثت بالفعل قيامة هنا في هذه الحياة، قبل أن تأتى تلك القيامة العتيدة، وذلك حتى تؤمن من خلال هذه القيامة التي حدثت في الحياة الحاضرة بالقيامة الأخرى. لأنه بعدما قال سنصير متحدين أيضاً بقيامته، أضاف:

”عالمين هذا أن إنساننا العتيق قد صُلب معه ليبطل جسد الخطية” (رو6:6).

يُشير هنا إلى السبب وكذلك الدليل على القيامة العتيدة. وهو لم يقل إن إنساننا العتيق قد صلب، بل قال ” قد صُلب معه”، فيُحضر المعمودية بجانب الصليب. ولهذا قال من قبل: ” صرنا متحدين معه بشبه موته”. ” ليُبطل جسد الخطية” وهو لا يدعو هذا الجسد البشرى، بجسد الخطية، لكن جسد الخطية هو كل أمر خبيث وشرير، لأنه تماماً كما يدعو كافة الرذائل بالإنسان العتيق، هكذا فإنه يدعو الخبث أيضاً جسد الخطية الذي يتشكل من أنواع مختلفة من الشرور.

          وهذا الحديث ليس مجرد فكر بسيط، وأرجو أن تلاحظ بولس نفسه وهو يشرح ذات الأمر بالضبط في الآيات القادمة. لأنه بعدما قال ” ليبطل جسد الخطية ” أضاف ” كي لا نعود نُستعبد أيضاً للخطية ” إذاً فهو يريد للجسد أن يصير ميتاً من جهة الخطية. إنه لا يريد أن يموت الجسد ويفنى بل يريد ألاّ يُخطئ. ثم يتقدم بعد ذلك شارحاً هذا الأمر بأكثر وضوح قائلاً:

” لأن الذي مات قد تبرأ من الخطية ” (رو7:6).

          هذا ما يقوله لكل إنسان، لأنه كما أن المائت قد تحرر تماماً من إمكانية أن يُخطئ طالما أنه مائت، هكذا أيضاً الذي تعمّد، فلأنه مات مرة واحدة في المعمودية، ينبغي أن يبقى على الدوام مائتاً بالنسبة للخطية. إذاً فإن كنت قد مت في المعمودية، فلتبقى مائتاً على الدوام، لأن هذه هي الحقيقة، أن كل مائت لا يستطيع بعد أن يُخطئ. بيد أنك لو أخطأت فستكون بذلك قد احتقرت عطية الله. وبعدما طلب منا أن نسلك بهذا القدر الكبير من الحكمة، أوضح على الفور قيمة المكافأة قائلاً:

  ” إن كنا قد متنا مع المسيح ” (رو8:6).

          وإن كان هذا في حد ذاته يُمثل كرامة كبيرة قبل نوال المكافأة، بمعنى أنك قد صرت شريكاً مع الرب، لكنه يعطيك مكافأة أخرى. وما هي هذه المكافأة؟ هي الحياة الأبدية. لأنه يقول ” نؤمن أننا سنحيا أيضاً معه”.

          ومن أين يتضح هذا؟ يتضح من قوله:

  ” عالمين أن المسيح بعدما أُقيم من الأموات لا يموت أيضاً ” (رو9:6).

ولاحظ محاولة الرسول بولس لإثبات هذا أيضاً من خلال هذه المفارقة. لأنه كان طبيعياً أن يُثير البعض لغطاً حول الصليب والموت، فبيّن كيف أن لهذا السبب بالتحديد، ينبغي بالأحرى أن تكون لدينا الشجاعة حتى لا تعتقد أن المسيح فانٍ. بل أنه يبقى بالحقيقة حياً إلى الأبد. لأن موته قد صار موتاً للموت. ولأنه مات، فلهذا لن يموت (مرة ثانية).

  ” لأن الموت الذي ماته قد ماته للخطية ” (رو10:6).

ماذا يعني ” قد ماته للخطية؟” يعني أنه لم يكن مستحقاً الموت، لكنه مات لأجل خطايانا، لكي يمحي الخطية ويقطع عصبها وكل قوتها، لهذا مات. أرأيت كيف أنه أرهب الموت حيث إنه لن يموت مرة ثانية، وحيث إنه لا توجد معمودية ثانية، فينبغي عليك أن تموت من جهة الخطية. إذاً فهو يقول كل هذا بهدف أن يقاوم مَن يقول ” لنفعل السيئات لكي تأتى الخيرات ” وأيضاً مَن يقول ” أنبقى في الخطية لكي تكثر النعمة “. إذاً هو يذكر كل هذا لكي يجتث مثل هذا الفكر من جذوره.

” والحياة التي يحياها فيحياها لله ” أي أنه يتحدث عن عدم الفناء، وأن الموت لن يسود بعد. لأنه إن كان الموت الأول قد جازه دون أن يكون مُستحقاً له إذ أنه جازه لأجل خطايا الآخرين، فبالأحرى كثيراً أنه لن يموت الآن مادام أنه قد أبطل الموت. هذا ما قاله في الرسالة إلى العبرانيين:     ” فإذ ذاك كان يجب أن يتألم مراراً كثيرة منذ تأسيس العالم ولكنه الآن قد أُظهر مرةً عند انقضاء الدهور ليبطل الخطية بذبيحة نفسه وكما وضع للناس أن يموتوا مرة ثم بعد ذلك الدينونة هكذا المسيح أيضاً بعدما قُدم مرةً لكي يحمل خطايا كثيرين سيظهر ثانية بلا خطية للخلاص للذين ينتظرونه” [2] . لقد أوضح قوة الحياة التي هي بحسب مشيئة الله، وفي نفس الوقت أظهر قوة الخطية. وقوة الحياة تُستعلن فينا بحسب مشيئة الله لأنه لن يسود عليه الموت بعد، بينما ندرك مدى  قوة الخطية من أنها قد جعلت الذي هو بلا خطية يموت (من أجل خطايا البشر)، فكيف لا تُحطم أولئك الذين هم مسئولون عن الخطايا؟

3 ـ ثم بعد ذلك ـ ولأنه تكلم عن الحياة في المسيح ـ وحتى لا يقول أحد وما علاقة هذا الكلام بنا نحن، فقد أضاف:

  ” كذلك أنتم أيضاً احسبوا أنفسكم أمواتاً عن الخطية ولكن أحياء لله بالمسيح يسوع ربنا ” (رو11:6).

          وحسناً قال “احسبوا” لأنه بواسطة اللغة الوصفية لا يمكننا عرض حقيقة أننا متنا، لذلك استخدم هذه الكلمة “احسبوا”، للتأكيد على حقيقة هامة وهي (أننا بالفعل قد متنا عن الخطية). وماذا يعني بعبارة نحسب؟ يعني أننا     ” أمواتاً عن الخطية لكن أحياء لله بالمسيح يسوع ربنا “. ومَن يحيا هكذا سيتمكن من الانتصار على الخطايا، لأن يسوع ذاته هو المعين له. وهذا معنى عبارة ” في المسيح “.

          فإن كان قد أقامهم عندما كانوا أمواتاً، فبالأكثر جداً سيستطيع أن يحفظهم أحياءاً.

  ” إذاً لا تملكن الخطية في جسدكم المائت لكي تطيعوها في شهواته ” (رو12:6).

          لم يقل إذاً ينبغي ألا يحيا الجسد وألاّ يعمل، لكنه قال ” لا تملكن الخطية في جسدكم “، لأنه لم يأتِ لكي يهلك طبيعة الجسد، بل ليُصلح الإرادة. بعد ذلك أظهر أن الخطية لا تملك علينا بالعنف والإجبار، بل بملء إرادتنا، ولم يقل ينبغي ألا تستبد بكم الخطية، الأمر الذي يُدلل على أنها بمثابة قوة متجبرة، لكنه قال: ” لا تملكن الخطية”. لأنه بالحقيقة سيكون أمراً غير معقول أن تسود الخطية عليهم كأنها ملكة بينما هم ينقادون نحو ملكوت السموات، وبينما هم مدعون أن يملكوا مع المسيح، يُفضلون أن يصيروا أسرى للخطية. مثلما يعتبر أنه من غير المعقول أيضاً لو أن شخصاً ألقى تاج الملك من على رأسه، ويريد أن يصير عبداً لامرأة بها شيطان، تتجول متسولة وترتدي ملابس مُمزقة.

          ولأن الانتصار على الخطية يبدو لنا أمراً صعباً، فقد أظهره على أنه أمراً سهلاً، وأثنى على الجهاد الذي يُبذل، قائلاً: ” في جسدكم المائت”. ولهذا أوضح أن المتاعب ستكون وقتية وتنتهي سريعاً. لكنه يذكّرنا بالشرور السابقة وبالجذور التي أنبتت موتاً تلك التي إذا انقاد الجسد إليها لصار جسداً مائتاً، لأنه لم يكن مائتاً منذ بدء خلقته. بيد أنك من الممكن أيضاً ألاّ تخطئ مع أنك تحمل جسداً قابلاً للموت. أرأيت فيض نعمة المسيح؟ يا لها من مفارقة عجيبة لأن آدم على الرغم من أنه لم يكن بعد حاملاً لجسد مائت إلاّ أنه سقط، بينما أنت على الرغم من أنك قد أخذت جسداً قابلاً للموت، إلاّ أنه بإمكانك أن تُتوج. وكيف تملك الخطية؟ لا تملك من خلال قوتها، بل من خلال لامبالاتك أنت. ولهذا بعدما قال: “لا تملكن”، يوضح طريقة هذا التملك، بقوله: ” لكي تطيعوها في شهواته (أي شهوات الجسد)”. لأنه ليس هو شيئاً يدعو للكرامة أن ننهزم باختيارنا أمام شهواته (أي شهوات الجسد)، بل يُعَّد عبودية أسوأ واحتقار أكبر، لأن الجسد عندما يفعل كل ما يريده يكون قد فقد الحرية، بيد أنه عندما يقدر أن يتحكم في رغباته، عندئذٍ يصون قيمته وكرامته بشكل جوهري.

  4 ـ ” ولا تقدموا أعضاءكم آلات إثم للخطية .. بل آلات بر لله ” (رو13:6).

          وبناءً على ذلك فإن الجسد يوجد بين حالة الإثم والبر، مثلما يحدث بالنسبة للآلات (هناك آلات إثم وآلات بر)، وممارسة أي من الإثم أو البر يتوقف على من يستخدم الآلات. كما يحدث مع الجندي الذي يحارب من أجل وطنه، والسارق الذي يتسلح ليهاجم المواطنين، فالاثنان يتحصنان بنفس الأسلحة. فالجريمة إذاً ليست عملاً يتعلق بنوع السلاح المستخدم بل هي مسئولية أولئك الذين يستخدمون هذه الأسلحة لكي يفعلوا الشر. وهذا يمكن أن نقوله بالطبع في حالة الجسد، حيث يصير فعل الإثم أو فعل البر رهناً بموقف النفس، وهذا ليس له علاقة بطبيعتها. لأن العين إذا نظرت نظرة غير بريئة للجمال، صارت آلة للإثم، لا بحسب طبيعتها أو عملها، لأن عمل العين هو أن تنظر، لكن هذا النظر لا يكون للشر، ولكن إذا نظرت العين نظرة غير نقية فسيكون ذلك راجعاً للفكر الخبيث الذي أمر بهذا. بيد أنك لو استطعت أن تضبط العين، فسيصير الجسد آلة للبر. وهذا ينطبق على اللسان وعلى الأيدي، وعلى جميع الأعضاء الأخرى. وحسناً يدعو الرسول بولس الخطية إثماً. لأن المرء عندما يخطئ إما أن يؤثم نفسه أو يؤثم قريبه، ومن الأفضل أن نقول إنه يؤثم نفسه قبل قريبه.

          إذاً بعدما نصحهم بعدم ممارسة الشر، بدأ يقودهم نحو ممارسة الفضيلة قائلاً: ” بل قدموا ذواتكم لله كأحياء من الأموات”. لاحظ كيف أنه يحثهم على حياة البّر بمسميات بسيطة، فهو يشير في الفقرة السابقة إلى الخطية، بينما يُشير هنا إلى الله. لأنه بعدما أوضح الفرق الضخم بين أولئك الذين يملكون (في ملكوت الله) وبين مَن هم عبيداً للخطية، نجده لا يتسامح مع المؤمن الذي ترك الله وأراد أن يخضع لسلطان الخطية. وليس هذا فقط، لكنه يوضح هذا الأمر بما سيحدث في المستقبل قائلاً: ” كأحياء من الأموات”. لأنه بهذا الكلام يُبيّن مدى بشاعة الخطية وكم هي عظيمة عطية الله. إذاً فلتفكروا في مَن أنتم وماذا صرتم. مَن أنتم؟ أنتم أموات، وهذا المصير المفقود لا يمكن لشيء أن يصلحه، لأنه لا يوجد أحد مهما كانت مقدرته يستطيع أن يُعينكم. وأتساءل ماذا صرتم بين أولئك الأموات الذين أنتم منهم؟ صرتم أُناساً ترغبون في الحياة الأبدية. وأيضاً بمعونة مَن صرتم (أحياءاً من الأموات)؟ بمعونة الله القادر على كل شيء. وبناء على ذلك فمن العدل أن تخضعوا لأوامره برغبتكم الكاملة، وهذا بالطبع يليق بأناس صاروا أحياء بعد أن كانوا أمواتاً.

          ” أعضاءكم آلات بر” ولذلك فإن الجسد ليس شراً، طالما أنه من الممكن أن يصير آلة بر. لكن قوله بأنه آلة، فهذا يُبيّن أن هناك حرباً مخيفة تواجهنا. ولهذا فإن الأمر ـ بالإضافة لضرورة تسلحنا القوى ـ يحتاج إلى إرادة شجاعة وأن نعرف جيداً كل ما يتعلق بهذه الحروب، وبالطبع وقبل كل شيء يجب أن نعرف القائد. بالنسبة لهذا القائد هو حاضر ومستعد على الدوام للمساعدة، ولا يستطيع أحد أن يسود عليه، ويُعد لنا دوماً أسلحة قوية. بيد أن الأمر يحتاج فيما بعد إلى إرادة تستخدم هذه الأسلحة كما ينبغي، وأن تطيع أوامر القائد، وأن تحمل السلاح من أجل خلاص أو حماية الوطن (أي النفس).

          5 ـ إذاً بعدما أخبرنا بالأمور العظيمة، وذكّرنا بالأسلحة والمعركة والحروب لاحظ كيف أنه أيضاً يُعطى شجاعة للجندي ويُهيئ إرادته قائلاً:

  ” فإن الخطية لن تسودكم لأنكم لستم تحت الناموس بل تحت النعمة ” (رو14:6).

فإن كانت الخطية لن تسودنا بعد، فلماذا يأمرنا أو يوصينا بهذه الأمور الكثيرة قائلاً: ” لا تملكن الخطية في جسدكم المائت” و” لا تقدموا أعضاءكم آلات إثم للخطية ” ماذا يعني هذا الكلام؟ إنه يُلقى هنا حديثاً كمَن يلقى بذرة، كمقدمة لما سيقوله فيما بعد، ويُمهد لذلك كثيراً. وما هو هذا الحديث؟ كان من السهل قبل مجيء المسيح أن تسود الخطية على جسدنا. بل وبعد الموت أُضيفت علينا آلام كثيرة. ولهذا السبب تحديداً لم يكن الطريق إلى البر سهلاً أو مريحاً. لأن الروح القدس لم يكن قد أُعطى لكي يساعدنا، ولا المعمودية التي كان من الممكن أن تُميت الجسد مع شهواته. فقد كان (الجسد) يركض مثل جواد غير مُروض، وكثيراً ما كان يرتكب الزلات في الوقت الذي كان فيه الناموس يوصي بتلك الأمور التي ينبغي فعلها، وتلك التي لا ينبغي فعلها، لكنه لم يُقدم لأولئك الذين يجاهدون أكثر من مجرد نصيحة بالكلام فقط.

ولكن عندما أتى المسيح صار الجهاد فيما بعد أكثر سهولة. ولهذا فإن تجارب أكبر تواجهنا، ذلك لأننا أخذنا معونة أكبر. ومن أجل هذا قال المسيح له المجد: ” إن لم يزد بركم على الكتبة والفريسيين لن تدخلوا ملكوت السموات “ [3] . وهذا ما يقوله بكل وضوح في الآيات اللاحقة، بينما هنا هو يُشير إليه بكلام مختصر، مظهراً كيف أنه إن لم نتضع جداً، فإن الخطية ستنتصر علينا. لأنه لا يوجد الآن الناموس الذي يحث فقط على ممارسة الفضيلة، لكن النعمة التي تصفح عن الأمور السالفة، والتي تؤّمن الأمور المستقبلية. لأن الناموس كان يَعد بالتيجان بعد اجتياز الأتعاب، بينما النعمة توّجت أولاً، ثم بعد ذلك دعت إلى الجهاد الروحي. ولكن يبدو لي أنه لا يُشير إلى كل ما يتعلق بحياة المؤمن، لكنه يعقد مقارنة بين المعمودية والناموس، الأمر الذي يقوله في موضع آخر إن ” الحرف يقتل ولكن الروح يُحيي” [4] . لأن الناموس يُدين التعدي، بينما النعمة تُزيل التعدي، تماماً كما أن الناموس يُدين الخطية، فإن النعمة تصفح وتخلّصك من سلطان الخطية. وبناء على ذلك فأنت مُتحرر من طغيان الخطية بشكل مضاعف من حيث أنك تحررت من الخضوع للناموس، وأنك تمتعت بالنعمة.

6 ـ بعد هذا الحديث الذي يجعل المستمع إليه يشعر بالارتياح وبالأمان يضيف إلى ذلك نصائح بقوله:

” فماذا إذاً أنخطئ لأننا لسنا تحت الناموس بل تحت النعمة؟ حاشا” (رو15:6).

          إذاً فهو أولاً يستخدم أسلوب المنع، لأن الكلام المشار إليه يُعد مبالغ فيه وغير معقول على الاطلاق. لكن بعد ذلك يوجه الحديث نحو النصح، ويُظهر أن اجتياز المصاعب برضى يعد أمراً عظيماً، قائلاً:

  ” ألستم تعلمون أن الذي تقدمون ذواتكم له عبيداً للطاعة أنتم عبيد للذي تُطيعونه إما للخطية للموت أو للطاعة للبر ” (رو16:6).

          لم يُشر بعد إلى جهنم ولا إلى ذلك الجحيم الكبير بل إلى العار الذي يظهر في هذه الحياة، عندما تصيرون عبيداً، وعبيداً بكامل إرادتكم، وعبيداً للخطية، وعندما يكون أجركم هو الموت مرة أخرى. فإن كانت الخطية قد سبَّبت موت الجسد قبل نوال المعمودية واحتاج الجرح لهذا القدر الكبير من العلاج حتى أن سيد الكل ينزل من السماء ويموت، فينتهي الشر، فإنك تُلقي بنفسك في الدناءة إذا استسلمت للخطية بكامل إرادتك بعد نوال الحرية وهذه العطية العظيمة. وأتساءل مندهشاً: ما الذي لم يفعله الله لك؟

          إذاً لا تركض نحو هذا الهلاك الكبير، ولا تُسلّم نفسك للخطية بإرادتك. لأنه مرات كثيرة قد يحدث في الحروب أن يستسلم الجنود، ولكن دون إرادتهم، ولكنك هنا إذ لم تتقدم بنفسك نحو معسكر العدو (أي معسكر الشيطان) فلن ينتصر عليك أحد. وبعدما قال لهم ما ينبغي عليهم فعله، يخيفهم من المجازاة ويذكر الأمرين، البر والموت. ليس الموت الجسدي، ولكنه موت أكثر رعباً من هذا الموت. لأنه إن كان المسيح لم يمت بعد، فمَن كان يستطيع أن يقضى على ذلك الموت؟ لا يوجد أحد. وبناء على ذلك كان من المحتم علينا أن نتعذب وأن نُعاقَب على الدوام. لأن الموت المادي بالنسبة لنا لم يكن قد حدث بعد، حيث يستريح الجسد وينفصل عن النفس ” فآخر عدو يُبطل هو الموت “ [5] . وبناء عليه فإن الجحيم سيظل قائماً، لكن ليس للمؤمنين بل للأشرار، لأن المؤمنين تنتظرهم المكافآت والخيرات التي تنبع من البر.

  7 ـ ” فشكراً لله إنكم كنتم عبيداً للخطية ولكنكم أطعتم من القلب صورة التعليم التي تسلمتموها ” (رو17:6).

          وبعدما أخجلهم من جهة عبودية الخطية، وبعد أن أخافهم بالعقاب وحثهم على فعل الخير، يُصحح مسيرتهم مرة أخرى بواسطة تذكيرهم بعمل الخير. إذ أنه بواسطة هذه الأعمال يبرهنون على أنهم تخلّصوا من شرور كثيرة، لكن يذكّرهم أيضاً بأنه ليس بجهادهم قد تم هذا، وأن أمور الدهر الآتي هي أكثر راحة. تماماً مثلما يحدث لو أن شخصاً ما، أنقذ أسيراً من يد طاغية مُستبد، ونصحه بعدم العودة لهذا الطاغية، وذلك بأن ذكّره بالآلام المخيفة التي جازها، هكذا صنع الرسول بولس فهو يُذكّرهم بالخطايا السالفة التي ارتكبوها قبلاً ويشكر الله لأجل الغفران. لأنه لم يكن في استطاعة أي قوة إنسانية أن تُخلّصنا من كل هذه الخطايا، لذلك يجب أن نشكر الله الذي أراد خلاصنا وحقق لنا أموراً كثيرة. وحسناً قال: ” أطعتم من القلب ” لأنه لم يجبركم ولا أكرهكم، لكنكم بإرادتكم وبرغبتكم ابتعدتم عن الخطايا. إلاّ أن هذا الكلام يُمثل مدحاً لهؤلاء، وفي نفس الوقت إدانة لهم. وكأنه يقول لهم: يا مَن ابتعدتم عن الخطايا بإرادتكم ودون أي إجبار أي عذر يكون لكم وأي تبرير إذا عُدتم للخطايا السالفة؟

          ثم بعد ذلك لكي تعلم أنه لا يُعرب عن امتنانه بهم فقط بل يُرجع الفضل إلى نعمة الله التي تشمل الكون كله، فبعدما قال: ” أطعتم من القلب ” قال   ” صورة التعليم التي تسلمتموها ” لأن الطاعة من القلب تظهر بالتأكيد حرية قبولهم. وكون أنهم تسلّموا التعليم، فهذا يعني أن الله قدّم لهم هذه المعونة (النعمة). وما هي صورة التعليم؟ هي أن يحيوا بطريقة صحيحة، وبسلوك مُرضى.

  ” وإذ أُعتقتم من الخطية صرتم عبيداً للبر ” (رو18:6).

          هنا يُظهر عطيتين لله، التحرر من الخطية، والعبودية للبر، الأمر الذي هو أفضل من كل حرية (عالمية زائفة) لأن ما صنعه الله يشبه شخصاً تعهد طفلاً يتيماً قد انتقل من بلاد البربر إلى بلده، فهو لم يحرّره من الأسر فقط، بل صار له أباً معتنياً به، ورفعه إلى أعظم كرامة. هذا بالضبط ما حدث معنا. لأنه لم يحرّرنا فقط من الخطايا السالفة، بل قادنا إلى الحياة الملائكية، وفتح أمامنا طريق السلوك الحسن، وبعد أن سلّمنا إلى البر الآمن أزال الخطايا السالفة، وأمات إنساننا العتيق، وقادنا إلى الحياة الأبدية.      

          8 ـ إذاً فلنتمسك بأن نحيا هذه الحياة، لأن كثيرين من أولئك الذين يعتقدون أنهم يحيون هذه الحياة ويسيرون فيها يسلكون بصورة أكثر تعاسة من الأموات. لأنه بالحقيقة توجد أنواع مختلفة من الميتات. يوجد موت الجسد والذي بحسبه، لم يكن إبراهيم مائتاً على الرغم من أنه كان قد مات، لأن الله ” ليس إله أموات بل إله أحياء” [6] . هناك موت آخر هو موت النفس والذي قصده المسيح بقوله: ” دع الموتى يدفنون موتاهم” [7] . ويوجد موت آخر والذي ينبغي أن يُمتدح وهو الذي يصير من خلال ضبط النفس، والذي قال عنه بولس: ” فأميتوا أعضاءكم التي على الأرض” [8] . ويوجد موت آخر والذي صار بسبب الخطية، وهذا هو الذي صار في المعمودية لأن: ” إنساننا العتيق صلب” [9] أي مات. وإذ نعرف كل هذا لنتجنب ذلك الموت، والذي بحسبه وإن كنا أحياء إلا أننا نجوز الموت، بينما يجب ألا نخشى ذلك الموت الجسدي الذي يشمل الجميع. فليكن لدينا تفضيل للموتين الآخرين، والذي يُعد الواحد منهما مُطوباً، ذلك الذي أُعطى من الله، بينما الآخر مُمتدحاً، وهو الذي يتحقق من خلالنا ومن خلال معونة الله، وليكن سعينا نحوهما. لأن الواحد منهما يطوبه داود قائلاً: ” طوبى للذي غُفر إثمه وسترت خطيته” [10] . بينما الآخر يمدحه القديس بولس حيث كتب إلى أهل غلاطية قائلاً:” الذين هم للمسيح قد صلبوا الجسد مع الأهواء والشهوات” [11] .

          وبالنسبة للموتيّن الآخرين، قال المسيح عن الواحد أن ليس له أهمية    ” لا تخافوا من الذين يقتلون الجسد ولكن النفس لا يقدرون أن يقتلوها”، بينما الموت الآخر مُخيف ” بل خافوا.. من الذي يقدر أن يهلك النفس والجسد كليهما في جهنم” [12] . ولهذا طالما أننا نتجنب ذلك الموت (أي موت النفس) فعلينا أن نجوز ذلك الموت الذي يُطوّب والذي هو محط للإعجاب، حتى نأتي إلى الموتين الآخرين، فنتجنب الواحد منهما (أي موت النفس)، والآخر لا نخشى منه (أي موت الجسد). لأنه لا توجد أي منفعة لنا، نحن الذين نعيش ونرى الشمس ونأكل ونشرب، إن لم تكن هناك أعمالاً صالحة ترافق الحياة. أخبرني ما هي المنفعة عندما يرتدى الملك الأرجوان، ويمتلك الأسلحة، دون أن يكون له فرق حماية تابعة له ولا يكون في مأمن من أولئك الذين يرغبون في مهاجمته وإهانته؟ هكذا يكون المسيحي فهو لن ينتفع بشيء لو كان لديه إيماناً ولديه العطية التي من المعمودية، دون أن يكون محمياً في مواجهة الشهوات، لأن الإهانة ستكون أعظم والخزي أكثر. لأنه كما أن الملك الذي يرتدى التاج والأرجوان ليس فقط لن يربح أي شيء من وراء هذا الملبس فيما يختص بالكرامة التي ينالها، لكنه يُسئ لهذا الملبس إذا كان سلوكه مخزياً، هكذا فإن المؤمن الذي يحيا حياة فاسدة، ليس فقط لن يكون موضع احترام، بسبب هذه الحياة الفاسدة، بل سيصير محطاً للسخرية بدرجة كبيرة. ” لأن كل مَن أخطأ بدون الناموس فبدون الناموس يهلك. وكل مَن أخطأ في الناموس فبالناموس يُدان” [13] . وعندما كتب إلى العبرانيين قال: ” مَن خالف ناموس موسى فعلى شاهدين أو ثلاثة شهود يموت بدون رأفة. فكم عقاباً أشر تظنون أنه يُحسب مستحقاً مَن داس ابن الله “ [14] . وهذا أمراً طبيعياً جداً لأن كل الشهوات قد أُخضِعت لك بالمعمودية. إذاً ماذا حدث حتى تُهين هذه العطية العظيمة، وتصير إنساناً آخر بدلاً من أن تكون مختلفاً (عما كنت عليه سابقاً)؟ لأن الله قد أمات ودفن خطاياك السابقة كما تُدفن الحشرات. إذاً لماذا تلد خطايا أخرى؟ علماً بأن الخطايا هي أسوأ من الحشرات، إذ أن الحشرات تُدمر الجسد بينما الخطايا تُدمر النفس، وتُثير عفونة أكثر. لكن نحن لا نشعر بهذه العفونة، لهذا فإننا لا نحرص على تنقية نفوسنا. لأن المخمور لا يعرف كيف يكون النبيذ الفاسد أو رائحته الكريهة، لكن الإنسان الواعي يعرف هذه الأشياء بالتدقيق. هذا ما يحدث مع الخطية. فذاك الذي يحيا بالعفة، يعرف بدقة مدى عفونة الخطية ووصمتها، بينما ذاك الذي أسلم نفسه للشر، كالمخمور، فهو لا يعرف أنه مريض.

وهذا على أية حال هو الشيء المخيف في ارتكاب الخطية، إنها لا تترك مجالاً لأولئك الذين يسقطون فيها لكي يُدركوا حجم التدمير الذي أصابهم. فبينما هم موجودون داخل العفونة، يعتقدون أنهم يتمتعون برائحة طيبة. ولهذا تحديداً لا يستطيعون أن يتخلّصوا منها، وبينما هم مملئون بالحشرات، يفتخرون كما لو كانوا مُزينين بأحجار كريمة. ومن أجل هذا فهم لا يريدون أن يُميتوها، لكنهم يُغذونها ويجعلونها تتكاثر داخلهم، حتى ذلك الحين الذي ستكون معهم في الجحيم، لأن هذه الحشرات هي سبب وجود الحشرات التي لا تموت في الجحيم ” حيث دودهم لا يموت” [15] . هذه الحشرات تُشعل جهنم التي لا تُطفأ أبداً. ولكي لا يحدث هذا إذاً، فلنحرص على أن نُدمر مصدر الشرور، ولنطفئ كمين النار، ولنقتلع الخطية من جذرها. لأنه لو قطعت شجرة الشر من أعلى، فإنك لم تفعل شيئاً، طالما أن الجذر باقٍ من أسفل وسيُنبت نفس الأشياء مرة أخرى.

          9 ـ وأتساءل: ما هي جذور الخطايا؟ أجيب: تعلّم من البستاني الصالح، الذي يعرف هذه الأمور جيداً، الذي يعتني بالكرم الروحي ويرعى كل المسكونة.

          أيضاً ما هو أصل كل الشرور؟ أقول: هو محبة المال، لأن الرسول بولس يقول: “محبة المال أصل لكل الشرور” [16] . من هنا تأتى المشاجرات والعداوات والحروب، من هنا تأتى المشاحنات والكلام البذيء والشكوك والإهانات، من هنا يأتي القتل والسرقات ونبش القبور. بسبب محبة المال فإنه ليس فقط المدن والقرى تكون مملوءة بالدماء والقتل، بل أيضاً الشوارع والأرض الآهلة بالسكان والمهجورة والجبال والوديان والتلال كلها بشكل عام. ولا البحر أيضاً قد نجا من هذا الشر، بل إن القتل قد طاله بهوّس شديد، إذ أن القراصنة يحيطون به من كل ناحية، ويخترعون طرقاً جديدة للسطو والسرقة. لقد انقلبت كل أواصر القرابة بسبب محبة المال، بل وديست بالأقدام كل الوصايا الإلهية الخاصة بقانون المحبة.

          لأن سلطة المال الطاغية، لم تُسلح تلك الأيدي ضد الأحياء فقط، بل وضد الأموات أيضاً. حتى الموت لا يجعل هؤلاء يتوقفون عن ممارسة شرورهم، لكنهم يفتحون القبور، ويمدون الأيدي الملوثة إلى أجساد الموتى، دون أن يتركوا حتى ذلك الذي فارق الحياة بعيداً عن عبثهم. وإذا صادفت رؤية مرتكبي الخطايا مهما كان مقدارها، سواء في البيت أو في السوق أو في المحاكم أو في البرلمانات أو في القصور أو في أي مكان آخر، سترى أن كل هذه الخطايا تأتى نتيجة محبة المال. لأن هذه الخطية هي التي غمرت الجميع بالدماء والقتل، هذه الخطية هي التي أشعلت لهيب جهنم، وهي التي لم تجعل المدن أفضل من الصحراء (من حيث الأمان)، بل أسوأ. لأنه من السهل أن نتحصن من أولئك الذين يتربصون بنا في الصحراء، لأنهم لا يهاجمون بصفة دائمة، بل إن الذين يقلدونهم داخل المدن، هم أشر منهم، ومن الصعب أن نتحصن ضدهم، إنهم يشرعون في ارتكاب تلك الأمور علناً بينما أولئك يصنعونها سراً. لأن القوانين التي من المفروض أنها موجودة تُحجّم خطيتهم، هؤلاء جعلوها حليفة لهم، فملأوا المدن بالقتل وبكل ما يُثير التلوث.

          أخبرني أليس هو قتلاً وأشر من القتل حين نُسلم الفقير إلى الجوع، ونضعه في السجن، وبالإضافة إلى معاناة الجوع نسلمه إلى عذابات وإلى مساوئ غير محدودة؟ وحتى لو لم تصنع أنت هذه الأمور، لكنك تدفع آخر لكي يُنفذها، إنك تمارس هذه الأمور بالأكثر عن طريق خدامك. لأن القاتل يستخدم سيفه في نفس وقت ارتكاب جريمته، والعذاب الناتج عن القتل لا يستمر إلاّ لوقت قصير. أما أنت فبوشاياتك، وإهاناتك، وهجماتك، تجعل النور بالنسبة له ظلاماً، وتجعله يشتهي الموت آلاف المرات، فكر في كم تكون عدد الميتات التي ترتكبها مقابل الموت الواحد. والأكثر فزعاً من كل شيء أنك تسلب وتخطف، وأنك طماع وشره، لا لأن الفقر يضغط عليك ولا لأن الجوع يجبرك على هذا، بل لكي تُغطى سرج الجواد بذهب كثير، وأيضاً سقف البيت ورؤوس الأعمدة. كم تستحق شيئاً أكثر من جهنم، عندما تُلقى بالأخ الذي صار شريكاً لك في الخيرات السمائية والذي كُرّم بهذا القدر الكبير من سيدك، إلى هذه النكبات غير المحدودة، لكي تُزين أرضيات وحوائط مسكنك وأيضاً أجساد الجياد التي في غنى عن هذه الزينة لأنها لا تشعر بها؟

          يا للعجب فقد صار الكلب موضع اهتمام بالغ من الأغنياء، أما الإنسان أو من الأفضل أن نقول إن كل مَن دُعي باسم المسيح، يواجه حالة أسوأ من الجوع بسبب اهتمام الأغنياء بالكلب. وهل يوجد ما هو أسوأ من هذا الخلط وهذا الالتباس؟ وهل هناك أمراً أكثر فزعاً من هذه المخالفة؟ وكم يكون عدد أنهار النار التي ستكفي لمثل هذه النفس؟ عجباً فالإنسان الذي خُلق على صورة الله، يُترك هكذا في حالة بائسة، بسبب وحشيتك أيها الغني، بينما مناظر البغال التي تجر مركبة زوجتك، تلمع من كثرة الذهب وأيضاً من كثرة الأموال التي تُنفق على تزيين العربة بالمعادن الثمينة والأخشاب والجلود. وإذا احتاج الأمر أن تصنع عرشاً أو مسنداً لراحة القدمين، فإنك تصنعها كلها من الذهب والفضة، بينما يوجد عضو من أعضاء المسيح، ذاك الذي من أجله أتى من السماء وسفك دمه الكريم، لا يتمتع حتى بالقوت الضروري لإعاشته، وذلك بسبب طمعك وشراهتك. وبالطبع فإن فراش النوم في قصرك أيضاً يكون مُغشى بالفضة من كل ناحية، بينما أجساد القديسين تحرم من الغطاء الضروري، وصار المسيح (الفقير) بالنسبة لك  يستحق أقل مما يقدم للخدم وللبغال وللفراش ولكرسي العرش، ولمسند القدمين. أما الأواني التي هي أكثر ثمناً من هذه الأشياء، فإني أتجاوزها تاركاً لكم أن تقدروها.

          فإذا كنت تشعر بالفزع عندما تسمع هذه الأمور، امتنع عن ممارستها، ولن يصيبك شيئاً مما قيل. ابقى بعيداً عن هذا الهوس، لأن الاهتمام بهذه الأمور التي أشرنا إليها هو بالحقيقة جنون مطبق. ولهذا فبعدما نترك هذه الأمور، ليتنا نتطلع نحو السماء، حتى ولو جاء هذا متأخراً، لنتذكر يوم الدينونة، لنفكر في القضاء المخوف والمسئوليات المؤكدة (التي نتحملها نتيجة أفعالنا) وأحكام الله العادلة. وعلى الرغم من أن الله يرى هذه الأمور، إلاّ أنه لم يُرسل علينا صاعقة من السماء، برغم أن ما يحدث لا يستحق صواعق فقط بل نكبات أخرى أكثر هولاً، فلنفكر في كل هذه الأمور. ومع هذا لم يفعل ذلك، ولا جعل فيضان البحر يتجه نحونا، ولا الأرض انفتحت من المنتصف، ولا الشمس انطفأت، ولم يلقِ ما في السماء من كواكب ونجوم، ولم يدمر كل شيء، لكنه مازال يترك كل شيء يسير في نظام، ومازال الكون كله في خدمتنا.

          10 ـ إذاً طالما أننا نفكر في هذه الأمور، لنرتعد أمام عظمة محبته للبشر ولنعد إلى أصلنا النبيل. لأننا بالتأكيد لا نسلك الآن بطريقة أفضل من الحيوانات غير العاقلة، لكن بطريقة أسوأ منها بكثير. لأن هذه الحيوانات تحب الحيوانات الأخرى التي من جنسها، وهي سعيدة بشركتها في هذه الطبيعة الحيوانية وما يجمع بينها هو الحنو، بينما أنت على الرغم من أن لك دوافع غير محدودة تقودك وتدفعك باتجاه آخرين هم أعضاء في جسد واحد بسبب الشركة في نفس الطبيعة، والتي منها أنك كُرمت بالعقل، وأنك تشترك معه في ممارسة التقوى، وأنك شريك معه في خيرات لا تحصى، ومع هذا صرت أكثر وحشية من تلك الحيوانات، مادمت تُظهر اهتماماً كبيراً بأشياء لا قيمة لها، وتتجرأ على هدم هياكل الله [17] بأن تتركها فريسة للجوع والعرى، ومرات كثيرة تسبب لها شرور عديدة. وأقول لك إذا كنت تصنع كل هذا بسبب حبك الكبير للمجد، إلاّ أنه كان ينبغي عليك أن تهتم بأخيك أكثر من اهتمامك بالجواد. لأنه على قدر اهتمامك بالإنسان الذي هو أولى بالإهتمام من الحيوان، على قدر ما يُنسج لك إكليل مُشرق من أجل رعايتك له واهتمامك به. لكن للأسف أنت الآن تسقط في هوة التناقضات وتجلب على نفسك اتهامات كثيرة لا تشعر بها.

          لأنه مَن ذا الذي يرى أفعالك ولا يدينك؟ ومَن من البشر سوف لا يتهمك بهذه القسوة الشديدة وكراهية الناس، عندما يرى أنك تُهين جنس البشر، وتهتم بالحيوانات وبأثاث البيت على حساب البشر؟ ألم تسمع الرسل الذين قالوا إن أولئك الذين قبلوا الكلمة أولاً، قد باعوا البيوت والحقول لكي يُطعموا الأخوة؟ إلاّ أنك للأسف تسلب بيوتاً وحقولاً، لكي تُزين جواد وأخشاب وجلود وحوائط وأرضيات. والمؤكد أنه ليس فقط رجال بل ونساء أيضاً يُعانون من هذا الهوس، للأسف يخصصون رجالاً لمثل هذا العمل المتعب والباطل ويجبرهن على الإنفاق على أمور نافلة، بدلاً من الاعتناء بالأمور الضرورية. وإن قام أحد باتهامهن لأجل اعتناءهن بهذه الأمور الباطلة فيكون دفاعهن حاضراً ومملوءاً بالإدانة القاسية، ونستشف من دفاعهن أنهن أُصبن بنفس الهوس، وأنهن يدفعَّن رجالهَّن نحو هذا الطريق.

          وأتساءل ماذا تقول؟ ألا تخشى وتُحصى المسيح الذي يتضور جوعاً، ضمن الجياد والبغال والفراش ومساند الأرجل؟ أو من الأفضل أن نقول إنك لا تُحصه مع هذه الأشياء الباطلة بل وتخصص الجزء الأكبر من أموالك لها، بينما تعطى للمسيح أقل جزء. ألا تعرف أنك مدان له بسبب أن كل الأشياء التي تمتلكها هي مِلك له؟ إلاّ أنك لا ترد الجميل ولا تريد أن تعطى له مكافأة صغيرة. إليك هذا المثال الذي سوف يوضح لك هذا الأمر، فلو أنك قد أجّرت منزلاً صغيراً، فإنك تُدقق في طلب الإيجار، ولكنك الآن وأنت تتمتع بكل ما في الكون الذي هو ملك له، وبهذا العالم الكبير كمسكن لك، ألا تتحمل مسئولية دفع إيجار قليل، إنك تسلم نفسك وكل أموالك للمجد الباطل. لأنه بالحقيقة كل هذه الأمور تعتمد على ما نحن فيه الآن. لأنه ليس من الممكن أن يصير الجواد أفضل من حيث القيمة أو الإمكانية، عندما توضع عليه هذه الزينة، ولا أيضاً الإنسان الذي يجلس فوقه، بل في بعض الأحيان يصير بالأكثر غير مستحق للكرامة. لأن كثيرين يتركون الفارس، ويوجهون أنظارهم إلى زينة الجواد، وإلى الخدم المحيطين به، والذين يسيرون بطريقة رسمية، بينما ذاك المحاط من كل هؤلاء، يبغضونه وينصرفوا عنه كعدو لهم. بيد أن هذا لا يحدث لك عندما تُزين نفسك بالفضيلة، بل إن الناس والملائكة ورب الملائكة، الجميع ينسجون لك الإكليل.

          فلو أنك تشتهي المجد، اهرب بعيداً عن تلك الأمور التي تمارسها الآن، ولا تهتم بتزيين البيت، وزيّن النفس بالفضيلة لكي تصير مُشرقاً ومعروفاً. أما ما يحدث الآن فمن المؤكد أنه يجعلك أكثر تفاهة من أي شيء، طالما أنك تحمل نفساً مُقفرة بلا ثمر، وتهتم بجمال البيت أولاً أكثر من اهتمامك بالبشر.

إن لم تكن تعاني من هذا الذي أقوله، اسمع ماذا فعل أحد الوثنيين، وسوف تشعر بخزي على الأقل من أجل فلسفتهم، قيل أن شخصاً من هؤلاء، عندما دخل إلى بيت يلمع من كثرة ما به من نقوش ذهبية، ومُضئ من شدة جمال المرمر والأعمدة والأرضيات المفروشة بالسجاد، بصق في وجه صاحب البيت. وعندما أدانوه لأجل هذا الفعل، قال بأنه لم يكن مسموحاً له أن يبصق في أي موضع من مواضع البيت الأخرى، ولهذا اضطررت لإهانة وجهه [18] . أرأيت أن ذاك الذي يهتم بالزينة الخارجية هو مثار للسخرية، ويُحتقر من أولئك الذين لهم رؤية ثاقبة؟ وهذا أمر طبيعي جداً. لأنه لو أن أحداً ترك زوجته ترتدي ملابس مُمزقة، ولم تهتم بمظهرها الخارجي، ثم اعتنى بالخادمات فألبسهن حللاً براقة، فإنك لن تقبل هذا الأمر، بل ستغضب وستقول إن هذا يُعد عمل غير لائق بالمرة.

          إذاً فهذا ما ينبغي أن تفكر فيه بالنسبة للنفس. لأنه عندما تُزين الحوائط والأرضيات، والأثاث، وكل الأشياء الأخرى، ولا تقدم أعمال الرحمة بسخاء، ولا أيضاً تعيش حياة العفة فيكون كل ما تفعله مجرد تكرار لشيء واحد، أو من الأفضل أن نقول إنك ترتكب شروراً مُرعبة. لأنه لا يوجد أي فرق بين الخادمة وربة البيت (من جهة الجسد)، لكن يوجد فرقاً كبيراً بين النفس والجسد. وطالما أن هناك فرقاً كبيراً بين النفس والجسد، فبالأكثر جداً سيكون هناك فرقاً كبير بينها وبين البيت، والفراش، ومساند الأرجل. إذاً أي تبرير لديك يمكن أن تقوله، عندما تُغطى كل هذه الأشياء بالفضة، بينما تترك النفس رثه، مهملة، وجائعة ومليئة بالجروح وتنهشها كلاب كثيرة (أي شرور كثيرة)، ثم بعد ذلك تعتقد أنك تنال مجداً حين تزين كل الأشياء التي تُحيط بك من الخارج؟ هذا على أية حال دليل على أسوأ حالة من فقدان العقل فبينما تكون مثاراً للسخرية والتهكم، وتسلك بسفه وتُحتقر، وتسقط في أشر عقوبة، فإنك لا تزال تفتخر بكل هذه الأمور. ولهذا أرجو، بعدما نفكر جيداً في كل هذا، أن نستفيق ولو مرة واحدة على الأقل وحتى ولو جاء هذا متأخراً، ولنرجع إلى عقولنا، مُحولين الزينة من زينة خارجية إلى زينة النفس. لأنه بذلك تبقى زينة ثابتة، وستجعلنا مساويين للملائكة، وسنصير سبباً لخيرات أكيدة. وليتنا جميعاً ننال كل هذه الأمور الحسنة بالنعمة ومحبة البشر اللواتي لربنا يسوع المسيح الذي يليق به مع الآب والروح القدس المجد إلى دهر الدهور آمين.


[1] رو6:3.

[2] عب26:9ـ28.

[3] مت20:5.

[4] 2كو6:3.

[5] 1كو26:15.

[6] مت32:22.

[7] مت22:8.

[8] كو5:3.

[9] رو6:6.

[10] مز1:32.

[11] غل24:5.

[12] مت28:10.

[13] رو12:2.

[14] عب28:10ـ29.

[15] مر44:9.

[16] 1تيمو10:6.

[17] ويعني بها أجساد البشر التي صارت مسكناً لله ” أنتم هيكل الله وروح الله يسكن فيكم” (1كو16:3).

[18] هذه القصة الهزلية وردت عند أريستيبو (Ar…stippo) ، كما يخبرنا ديوجينيس (Diogšnhj) عندما يكتب عن سيرة الفيلسوف.

Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF

معلومات حول الصفحة

عناوين الصفحة

محتويات القسم

الوسوم

arArabic
انتقل إلى أعلى