Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
☦︎
☦︎

” فماذا إذاً أنحن أفضل (كيهود)؟ كلاّ البتة. لأننا قد شكونا أن اليهود واليونانيين أجمعين تحت الخطية. كما هو مكتوب  أنه ليس بار ولا واحد. ليس مَن يفهم. ليس مَن يطلب الله. الجميع زاغوا وفسدوا معاً. ليس مَن يعمل صلاحاً ليس ولا واحد. حنجرتهم قبر مفتوح بألسنتهم قد مكروا. سم الأصلال تحت شفاهم. وفمهم مملوء لعنة ومرارة. أرجلهم سريعة إلى سفك الدم. في طرقهم اغتصاب وسحق وطريق السلام لم يعرفوه. ليس خوف الله أمام عيونهم ” [13] (رو9:3ـ18).

          1 ـ لقد اشتكى بولس على كل من اليونانيين، واليهود، فكان متوقعاً أن يتكلّم فيما بعد عن البر الذي يأتي من الإيمان. مادام الناموس الطبيعي لم ينفع، ولا الناموس المكتوب صنع شيئاً أكثر، لكن كلاهما أضرّا بأولئك الذين لم يستخدمونهما كما ينبغي، وأظهرا أنهم مستحقين لدينونة أكبر، إذاً كان هناك احتياجاً للخلاص الذي نناله نتيجة النعمة. ولكنه لا يخاطر بالحديث عن النعمة، لأنه ارتاب في شجاعة اليهود ووجّه كلمته مرة أخرى إليهم ليُدينهم. فاستشهد أولاً بداود الذي قال هذا الكلام بإسهاب وأفاض فيه الأمر الذي صنعه إشعياء أيضاً ولكن في إيجاز. وهو بهذا قد وضع لجاماً على أفواه هؤلاء اليهود، وذلك حتى لا يضل أحد من المستمعين ولا يهجر الفضيلة أو يتشدق بالحديث عنها، مع أنه لا يمارسها، لأنه سيكون قد أهين بالقدر الكافي من خلال الإدانات التي وجهها الأنبياء. لأن هناك ثلاث إدانات قد أوردها النبي في الحقيقة وهي أن الجميع قد فعلوا الشر، ولم يمزجوا الصلاح بالشرور، لكنهم انشغلوا فقط بالشرور، وقد صنعوا هذا بكل مغالاة. ثم بعد ذلك، ولكي لا يقولوا إن هذه الأمور لا تُقال لآخرين غير اليهود، أضاف بولس الرسول:

  ” ونحن نعلم أن كل ما يقوله الناموس فهو يُكلم به الذين في الناموس” (رو19:3).

ولهذا فبعد إشعياء تحديداً ـ والذي بشهادة الجميع كان يتوجه (بكلامه) لهؤلاء اليهود ـ أضاف كلام داود النبي لكي يُدلّل على أنهما متفقان في ذات الأمر. لأنه يقول ما هي الحاجة لأن يدين النبي آخرين وقد أُرسل من أجل إصلاحنا وتقويمنا؟ لأن الناموس لم يُعط لآخرين ولكن أُعطي لكم. ولكن لماذا لم يقل بولس “ونحن نعلم” أن كل ما يقوله النبي، بل قال ” كل ما يقوله الناموس “؟ ذلك لأنه قد اعتاد أن يطلق كلمة الناموس على العهد القديم كله. فهو في موضع آخر يقول: ” ألستم تسمعون الناموس فإنه مكتوب أنه كان لإبراهيم ابنان “ [14] . وهنا يُسمي المزامير ناموساً، قائلاً:    ” ونحن نعلم أن كل ما يقوله الناموس فهو يُكلم به الذين في الناموس “.

          وفيما بعد يُبين كيف أن هذه الأمور لم تقال من أجل الإدانة فقط بل قيلت لكي يُمهد الناموس الطريق إلى الإيمان أيضاً. إن توافق العهد القديم مع العهد الجديد هو أمر مهم، إذ أن الإدانات والإنتقادات، قد وُجّهت، لكي يُفتح باب الإيمان ببهاء أمام أولئك الذين يسمعون. أما اليهود فبسبب إفتخارهم فقد ضلّوا وفسدوا، الأمر الذي أوضحه فيما بعد قائلاً: ” لأنهم إذ كانوا يجهلون بر الله ويطلبون أن يثبتوا بر أنفسهم لم يخضعوا لبر الله” [15] .

لقد حجّم الناموس والنبي منذ البداية أفكار اليهود ووضعا ضوابط لتعاليمهم حتى أنهم عندما يفهمون خطاياهم ويهجروا حماقاتهم ويدركون بأنهم مُعرّضين للخطر عندئذٍ سيركضون بشوق جارف نحو ذاك الذي يهبهم غفران الخطايا ويقبلون النعمة من خلال إيمانهم. هذا ما يقصده هنا بولس بقوله: ” ونحن نعلم أن كل ما يقوله الناموس فهو يكلم به الذين في الناموس لكي يستد كل فم ويصير كل العالم تحت قصاص الله “. هنا يُظهر كيف أنهم مجردين من الأعمال الصالحة الظاهرة، وأنهم يفتخرون بالكلام فقط، وبأسلوب عديم الحياء. ولهذا فقد استخدم الكلمة على سبيل الحصر قائلاً: ” لكي يستد كل فم ” مُظهراً عدم حياء، الذي يظهرونه بطريقة التباهي وأحاديث الإفتخار، وبذلك يستد كل فم بالحقيقة. لقد انطلق لسانهم، تماماً مثل نهر جارف، ولكن النبي قد سده. إلاّ أنه عندما يقول الرسول بولس ” لكي يستد كل فم ” فهو لا يعني أنهم أخطأوا لكي يستد فمهم، ولكنهم من أجل هذا قد بُكّتوا (لأنهم أرادوا أن يثبتوا بر أنفسهم)، لكي لا يتجاهلوا هذا الأمر عندما يصنعون هذه الخطية تحديداً.

” يصير كل العالم تحت قصاص الله ” وهو هنا لم يشر إلى اليهودي فقط، بل إليهودي كل العالم. لكنه عندما يقول ” لكي يستد كل فم ” فهو يقصد هؤلاء (اليهود)، وإن لم يقل هذا بوضوح، حتيهودي لا يكون قاسياً في كلامه، بينما ” أن يصير كل العالم تحت قصاص الله” فهذا يشمل اليهود واليونانيين معاً.

وهذا ليس أمراً هيناً لكبح افتخارهم، وذلك عندما لا يكون لديهم أي شيء أكثر من اليونانيين في هذه الحالة، أما في موضوع الخلاص فليس لأحد فضل، إذ أنه قُدم مجاناً. والذي يُدافع عن نفسه، هو بصفة خاصة الذي لا يستطيع أن يستند على قدراته من أجل الدفاع (عن نفسه) لكنه يحتاج لمساعدة آخر، مثلما يحدث في كل ما يخصنا، طالما أننا فاقدين لتلك الأمور التي تساهم في خلاصنا.

” لأن بالناموس معرفة الخطية ” (رو20:3).

ومرة أخرى يحذر من الناموس، لكن في حدود. لأن الكلام الذي سبق الإشارة إليه لم يكن لإدانة الناموس، بل كان يتعلق بلامبالاة اليهود. لأنه حاول هنا أن يُظهر كيف أنه (أي الناموس) ضعيفاً جداً، لأن حديثه سيتجه إلى الكلام عن الإيمان. إذاً لو أنك تفتخر بالناموس فإن هذا يخجلك بالأكثر. فهذا (الناموس) يكشف خطاياك الدنيئة ” .. لم أعرف الخطية إلاّ بالناموس… لأن بدون الناموس الخطية ميتة” [16] . لم يتكلم هنا بقسوة شديدة، لكنه مرة أخرى تكلم بنغمة هادئة ” لأن بالناموس معرفة الخطية”، وعليه فإن العقاب سيكون أكبر ولكن لليهود. لأن الناموس قد عرّفك بالخطية، بيد أنه يمكنك بعد ذلك أن تتجنبها. وطالما أنك لا تتجنبها، فإنك تجلب على نفسك الدينونة. فالناموس أصبح بالنسبة لك سبباً لدينونة أكبر.

2 ـ وعندما زاد من الترهيب والتخويف أضاف تلك الأمور المتعلقة بالنعمة بعد أن جعل غفران الخطايا أمراً مرغوباً فيه جداً، بقوله:

” وأما الآن فقد ظهر بر الله بدون الناموس ” (رو2 1 :3).

ما يقوله هنا يعتبر كلاماً عظيماً، ولكنه يحتاج لدليل قوي. لو أن أولئك الذين عاشوا تحت وصايا الناموس، ليس فقط لم يتجنبوا الدينونة، بل بالأكثر قد عاشوا في معاناه، فكيف يكون ممكناً، بدون الناموس، ليس فقط أن يتجنب المرء الدينونة بل أن يتبرر أيضاً؟ إن الرسول يتحدث عن كل من التبرير، وتحقيق الخيرات بدون ناموس. ولهذا لم يقل البر فقط، لكنه قال “بر الله” مظهراً، من حيث إستحقاق الشخص، أن العطية أكبر والوعد أقوى لأن كل شيء هو ممكن لدى الله. ولم يقل أُعطي بل “ظهر” لكي ينزع عن هذا “البر” وصفه بأنه جديد، لأن هذا الذي ظهر أخذ يظهر باعتبار أن له وجود من قبل ولكنه لم يكن مُعلناً.

ليس هذا فقط، بل أن الكلام اللاحق يُظهر أن هذا ليس جديداً. لأنه، بعدما قال: ” ظهر” أضاف ” مشهوداً له من الناموس والأنبياء” إذاً لا تضطرب، لأنه أُعطي الآن، ولا تقلق، كما لو كان هذا البر جديداً أو غريباً، لأن الناموس والأنبياء تنبأوا عن أنه يأتي من الله. وقد أوضح كل شيء من خلال هذا الدليل، فعندما تحدث الرسول بولس سابقاً عن إنجيل المسيح، باعتبار أن فيه ” مُعلن بر الله ” فقد أشار إلى إبراهيم بقوله: ” البار بالإيمان يحيا” [17] . أما عن الأمور اللاحقة فإن إبراهيم، وداود قد سبقا وتكلما عنها. لأنه بالحقيقة كان كلامهما تجاه اليهود بإسهاب، الأول كان بطريركاً ونبياً، بينما الآخر كان ملكاً ونبياً، وقد أُعطيت الوعود لهذين الشخصين.

ولهذا فإن متى يبدأ إنجيله بهذين الشخصين أولاً، ثم بعد ذلك يذكر الأجداد. لأنه عندما قال: ” كتاب ميلاد يسوع المسيح “ [18] ، لم يذكر بعد ذلك مباشرةً إبراهيم واسحق ويعقوب معاً، ولكنه ذكر داود مع إبراهيم. والأهم أنه وضع داود قبل إبراهيم، قائلاً: ” أين داود ابن إبراهيم ” ثم بعد ذلك بدأ يذكر اسحق ويعقوب ومن جاءوا بعدهما. ولهذا فإن الرسول هنا يذكر هؤلاء ويقول إن: ” بر الله .. مشهوداً له من الناموس والأنبياء ” لكي لا يقول أحد، وكيف نخلص بدون (الناموس والأنبياء) باعتبار أنهما يُساعدان على نوال الخلاص؟ بيد أنه نحن الذين نساهم كثيراً في هذا، ولكن بالإيمان. وبعدما قال: ” برّ الله ” أضاف:

” بالإيمان .. إلى كل وعلى كل الذين يؤمنون ” (رو22:3).

وهنا أيضاً ينزعج اليهودي، برغم أنه لا يتميّز بشيء عن الآخرين، إذ أنه يُحسب مثل سائر البشر الذين في العالم. ولأن الرسول لا يشعر بهذا التميّز فهو يحاصره بالتخويف مرة أخرى، مُضيفاً:

” لأنه لا فرق إذ الجميع أخطأوا ” (رو23:3).

لا تقل لي إذاً، إن فلاناً يوناني، وآخر سكيثي، وغيره من أهل ثراكي، لأن الجميع يرتكبون نفس الخطايا. أما أنت فعلى الرغم من أنك قد أخذت الناموس فإن شيئاً واحداً تعلّمته من الناموس، هو معرفة الخطية وليس تجنبها. ولكي لا يقولوا بعد ذلك إنه على الرغم من أننا أخطأنا، فلسنا مثل هؤلاء (الأمم)، فقد أضاف ” وأعوزهم مجد الله”. وعليه فلو أنك لم تُخطئ مثل الآخرين، فإنه يعوزك “مجد الله” بنفس القدر لأنك واحد من هؤلاء الذين عاندوا الله. إلاّ أن ذاك الذي عاند، ليس هو بين أولئك الذين نالوا “المجد” بل ينتمي لأولئك الجاحدين. وكأن بولس يقول إني قد قلت لكم هذه الأمور لا لكي أقودكم لليأس ولكن لكي أُظهر محبة الرب للبشر. ولهذا أضاف:

” متبررين مجاناً بنعمته بالفداء الذي بيسوع المسيح الذي قدمه الله كفارة بالإيمان بدمه لإظهار بره ” (رو24:3ـ25).

          لاحظ كيف أنه يُدلّل على ما سبق وأشار إليه. أولاً: من خلال استحقاق الشخص. لأن الذي يهب البرّ ليس إنساناً لكنه الله الذي يستطيع كل شيء، فالرسول بولس يصف هذا البر بأنه ” برّ الله “، ثانياً: من خلال شهادة الناموس والأنبياء. إذاً لا تخاف عندما تسمع قوله “بدون الناموس”، لأن هذا ما يُعلنه الناموس نفسه. ثالثاً: من خلال الذبائح التي صارت في العهد القديم. ولهذا قال: “بدمه”، مُذكّراً هؤلاء بالخراف والأبقار (الذبائح). إذاً فلو أن الذبائح الحيوانية تمنح غفراناً للخطايا كما يقول الرسول بولس، فبالأولى كثيراً جداً فإن دم المسيح يهب هذا الغفران. وهو لم يقل بالعتق لكن “بالفداء”، كما لو كان الأمر يتعلق بعدم العودة مرة أخرى لذات العبودية. ولذلك فقد دُعيّ المسيح “كفارة” لكي يُبيّن أنه إذا كان المثال يحمل هذا القدر من القوة، فبالأولى كثيراً ستُظهر الحقيقة نفس الشيء وأكثر. موضحاً مرة أخرى أن هذا ليس بالأمر الجديد، ولا أنه يُسمع لأول مرة، وهذا يتضّح من قوله: ” قدمه الله ” مظهراً أن هذا الإنجاز يتعلق “بالآب”، ونفس الأمر يذكره على أنه يتعلّق “بالابن”. بالتأكيد الآب قدمه (أي قدّم الابن)، لكن المسيح تمّم كل شيء بدمه.

” لإظهار برّه” ماذا يعني ” إظهار البر”؟ إظهار البر مثل إظهار الغنى، وهذا يعني ألاّ يكون الله فقط هو الغنى بل أن هذا الغنى هو لآخرين أيضاً لكي يجعلهم أغنياءً، ومثل إظهار الحياة والذي يعني أنه ليس فقط هو الحياة لكنه أيضاً يُقيم الأموات، ومثل إظهار القوة في ألاّ يكون ذاك هو القوي فقط، لكنه يجعل الضعفاء أقوياءاً. هكذا فإن إظهار البرّ هو، ألاّ يكون ذاك هو البار فقط، لكنه يجعل أولئك الذين فسدوا بالخطية أبراراً على الفور. ولتفسير ذلك أضاف شارحاً معنى الإظهار:

” ليكون بار ويبرّر مَن هو من الإيمان بيسوع ” (رو26:3).

3 ـ لا تشك إذاً في أن البر يأتي من الإيمان وليس من الأعمال (أي أعمال الناموس)، ولا تخشى الإقتراب من “بر الله”، فإن صلاحه مضاعف، ولأنه ميسوراً فإن الجميع يستطيعوا الوصول إليه. ولا تشعر بالعار ولا تخجل. فإذا كان المسيح قد ظهر ليهبك بره، فيمكنك أن تعلن هذا وأن تفتخر وتتباهى، فكيف تتوارى وتخفي وجهك من هذا الذي به تمجّد سيدك؟ وإذا كان قد سَمَا بالمستمع، بقوله إن هذه الأمور التي حدثت هي لإظهار بر الله، فإنه يحث ـ مرة أخرى وعن طريق التخويف ـ ذاك الذي يتردّد ويتجنّب الاقتراب، قائلاً:

“من أجل الصفح عن الخطايا السالفة” أرأيت كيف أنه يذكّرهم دائماً بالخطايا؟ لأنه قال سابقاً ” لأن بالناموس معرفة الخطية ” ثم بعد هذا يقول  ” الجميع أخطأوا”، بينما هنا يوضّح الأمر أكثر، لكنه لم يقل من أجل الخطايا، لكن ” من أجل الصفح ” بمعنى “الصفح” عن الموت. لأن رجاء شفاء النفس هو في الله، تماماً مثل الجسد المقعد الذي احتاج إلى عون من الله، هكذا أيضاً النفس التي ماتت. والسبب الذي يذكره دائماً يثير شعوراً بالخوف هو أن الإدانة ستكون أعظم. وما هي هذه الإدانة؟ هي تلك المرتبطة بالصفح الذي صار بإمهال الله. لأنه يقول لا يمكنكم أن تزعموا أنكم لم تتمتعوا بإمهال الله وصلاحه ” في الزمان الحاضر “، ومرة أخرى يُظهر الإمهال الكثير ومحبه الله للبشر. لأنه يقول عندما يئسنا، وكان زمن الدينونة، وازدادت الشرور وتفاقمت، تجلّت قدرة الله عندئذ، لكي تعلم مقدار فيض البرّ الإلهي. وهذا الأمر لم يكن له أن يُثير الدهشة والإعجاب، إن كان قد حدث من البداية، مقارنة بظهوره الآن حيث تأكد الشفاء الكامل (بالنعمة).

” أين الافتخار. قد انتفى. بأي ناموس. أبناموس الأعمال كلا بل بناموس الإيمان ” (رو27:3).

عظيم هو جهاد الرسول بولس، فقد أراد أن يبرهن على أن الإيمان قد حقق الكثير، ما لم يستطيع الناموس أن يتخيّله أبداً. إذاً بعدما قال إن الله يُبرّر الإنسان من جهة إيمانه ينشغل مرة أخرى بالناموس ولم يقل أين هي إنجازات اليهود أين هي أعمالهم البارة ولكنه قال “أين الافتخار” مبيناً في كل موضع أنهم يفتخرون بالكلام  فقط، كما لو كانوا يمتلكون شيئاً أكثر من الآخرين، على الرغم من أنهم لم يقدموا أي عمل. وبعدما قال ” أين الافتخار”؟ لم يقل اختفى وانتهى بل “انتفى”، الأمر الذي يُبيّن عدم موافقة أو ملائمة الوقت، لأنه لا يوجد زمن بعد. تماماً مثلما يأتي وقت الدينونة، فإن أولئك الذين يرغبون في التوبة لن يكون لديهم وقتاً. هكذا أيضاً عندما يصدر الحكم فيما بعد وعندما يتعلّق الأمر بفنائهم جميعاً، ثم يأتي ذاك الذي يُزيل كل هذه الأمور المخيفة بنعمته، فإن أولئك لن يكون لديهم وقتاً للتوبة أو تقديم مبررات وأعذار.

إذاً لو كان يحق لهم أن يدّعوا هذا، لكان ينبغي عليهم أن يفعلوا ذلك قبل مجيء المسيح. لكن عندما أتى ذاك الذي يُخلّص بالإيمان اختفى فيما بعد زمن الإفتخار بالأعمال (أي أعمال الناموس). ولأن الجميع مُدانون (لأنهم زاغوا وفسدوا)، لهذا فقد خلّصهم بالنعمة. ومن أجل ذلك فقد أتى الآن حتى لا يقولوا إنه كان ممكناً أن يخلصوا بالناموس وبأتعابهم وإمكانياتهم لو أنه أتى من البداية. ملجماً سفاهاتهم أو عدم حيائهم هذا. وقد انتظر زمناً طويلاً، حتى بعدما اتضح جلياً من خلال كل الأشياء أنهم لا يستطيعون أن يساعدوا أنفسهم، أتى في هذا الزمان لكي يخلّصهم بنعمته. ولهذا بعدما قال سابقاً “لإظهار بره” أضاف ” في الزمان الحاضر”. لكن لو أن البعض يجادلون، فإنهم يشبهون تماماً شخصاً سقط في زلاّت كثيرة ولم يستطع أن يقدم تبرير عما فعل أمام المحكمة، ثم بعدما أُدين وكان ينتظر تنفيذ العقوبة تُرك حراً بواسطة عفو ملكي. فإذا تفاخر بعد هذا العفو وقال إنه لم يصنع أي خطأ أو زلة، فسيكون عديم الحياء.

          إذاً كان من الممكن أن يُستعلن الله الكلمة قبل زمن النعمة، ولكن بعدما أتى، فلا يحق لأحد أن يفتخر. هذا بالضبط ما حدث بالنسبة لليهود. لأن إعتمادهم كان على أنفسهم ولذلك كانوا مُدانين، وقد أتى كلمة الله لكي يقضي بحضوره على افتخارهم. لأن ذلك الذي يقول إنه معلّم الأطفال ويفتخر بالناموس، ويدعو نفسه مهذب الأغبياء، مثل هذا يكون في احتياج لمعلّم ومُخلّص، وبذلك لا يكون لديه مبرر للافتخار. ومادام الرسول بولس قد بيّن أن الختان قد صار غرلة قبل مجئ المسيح، فبالأولى كثيراً الآن لأنه قد أُستبعد من العهدين. وبعدما قال “انتفى” أوضح الوسيلة ” إنتفى الإفتخار”. كيف انتفى، يقول ” بأي ناموس. أبناموس الأعمال، كلاّ بل بناموس الإيمان”.

4 ـ وها هو يدعو الإيمان ناموساً، حرصاً منه على إختيار الكلمات المعبّرة حتى يفرحهم بهذا التجديد الواضح. ولكن ما هو ناموس الإيمان؟ هو أن يخلص الإنسان بالنعمة. لاحظ أن القديس بولس يُظهر هنا قوة الله، لأنه ليس فقط قد خلّص لكنه قد برّر، وقاد إلى الإفتخار الحقيقي دون الحاجة إلى أعمال الناموس، بل إلى الإيمان فقط. وهو يقول هذه الأمور، لكي يُعّد اليهودي الذي آمن ليكون متواضعاً، ولكي يُقَوِّمْ ذاك الذي لم يؤمن بهدف أن يدعوه (للإيمان). وسيكتشف ذاك الذي خَلُص ـ إذا كان يفتخر بالناموس ـ أن الناموس قد أغلق فمه، أدانه وحرمه من الخلاص، ومنع افتخاره. أما الذي لم يؤمن، فطالما أنه اتضّع عن طريق تلك الأمور، فيمكن أن يُقاد إلى الإيمان. أرأيت مقدار الغنى الذي للإيمان وكيف أن القديس بولس إجتاز بهم الأمور السابقة (الخاصة بالناموس)، ولم يسمح لهم أن يفتخروا بها.

” إذاً نحسب أن الإنسان يتبرّر بالإيمان بدون أعمال الناموس ” (رو28:3).

وعندما أوضح أن الذين هم من الإيمان هم أسمى من اليهود، تكلّم عن الإيمان بعد ذلك بكل جرأة، مقدماً الشفاء مرة أخرى لذاك الذي يُثير صخباً، لأن اليهود كانوا قد انزعجوا من أمرين: الأول، أنه كان ممكناً أن يخلص البعض بدون أعمال الناموس، لأن الذين تمموا أعمال الناموس لم يخلصوا، والثاني، أنه ليس من العدل أن يتمتع غير المختتنين بنفس المزايا مع أولئك الذين عاشوا كل هذا الزمان تحت الناموس، وهذا قد أزعجهم أكثر من الأمر الأول. وبعدما أوضح هذا، تحدّث بعد ذلك عن ما أثار حنق اليهود، لدرجة أنهم أدانوا القديس بطرس، بسبب كرنيليوس وما حدث معه [19] . فماذا يقول؟ ” إذاً نحسب أن الإنسان يتبرر بالإيمان بدون أعمال الناموس ” لم يقل اليهودي أو ذاك الذي يحيا بوصايا الناموس، لكنه جعل كلمته أكثر اتساعاً وفتح أمام العالم كله أبواب الخلاص، عندما استخدم تعبير ” الإنسان” أي ما يخص الطبيعة الإنسانية كلها. ثم إتخذ من ذلك دافعاً ليقضي على الاعتراض الذي لم يُذكر. بمعنى أنه كان طبيعياً لليهود الذين سمعوا أن الإيمان يُبرر كل إنسان أن يحزنوا ويتعثروا، ولذلك أضاف ” أم الله لليهود فقط” (رو9:3) كما لو كان يقول، لماذا يبدو لك أن خلاص كل إنسان يعد أمراً غير معقول أو غير ملائم؟ هل الله لبعض الناس دون البعض الآخر؟ مبيناً بهذا أنهم يريدون الإساءة إلى الأمم ويدمرون بالأكثر مجد الله عندما لا يقبلون أن يكون إلهاً للجميع. وإذ أن الله هو إله الجميع فهو يعتني بالجميع. وعندما يهتم بالجميع بطريقة واحدة فإنه يخلّصهم من قِبل إيمانهم. ولهذا قال:

” أم الله لليهود فقط أليس للأمم أيضاً بلا للأمم أيضاً ” (رو29:3).

إن الله ليس لبعض الناس فقط، مثل الذي تُصوّره أساطير اليونانيين، بل أنه واحد للجميع. ولهذا أضاف: ” لأن الله واحد” أي أن الله بذاته هو لهؤلاء ولأولئك. لكن إن كنت تحدثني عما حدث في الماضي، فإن عناية الله كانت واحدة (تجاه الجميع)، على الرغم من أنها إتخذت أسلوباً متنوعاً. لأنه قد أُعطى لك الناموس المكتوب، وأُعطى أولئك الناموس الطبيعي، ولم يكن هؤلاء في وضع أقل (من اليهود) ولو أنهم أرادوا لاستطاعوا أن يصبحوا في وضع أسمى. ولهذا فقد أضاف قاصداً هذا المعنى بالضبط قائلاً.

” الذي سيُبرر الختان بالإيمان والغرلة بالإيمان” (رو30:3).

مُذكراً هؤلاء بالأمور التي قالها سابقاً عن الغرلة والختان، كيف أنه لا يوجد أي اختلاف بينهما فإذا لم يكن هناك إختلاف آنذاك، فبالأولى كثيراً الآن، الأمر الذي أظهره بكل وضوح، مبيناً أن كل واحد لديه نفس الاحتياج للإيمان قائلاً:

” أفنبطل الناموس بالإيمان. حاشا بل نُثبّت الناموس ” (رو31:3).

أرأيت مثل هذه الرؤية في تعدّد جوانبها وصعوبة وضعها؟ لأن بقوله “نُثبّت”، يوضّح كيف أن الناموس لم يعد سارياً الآن بل أُلغي. ولاحظ مقدار القوة التي للرسول بولس، وكيف أنه يُبرهن على ما يريد بهذا القدر من السهولة. لأنه يُظهر هنا أن الإيمان ليس فقط لا يُبطل الناموس، بل يساعده بنفس الطريقة التي يمهد الناموس بها الطريق للإيمان. لأنه كما قال سابقاً أن الناموس يشهد للإيمان، فهو يقول: “مشهوداً له من الناموس والأنبياء” هكذا فإن الإيمان يُثبّت الناموس. وكيف يثبّته؟ وما هو عمل الناموس؟ ولأي سبب سعى الناموس ليتمم كل شيء؟ كانت غاية الناموس تبرير الإنسان ولكنه لم يستطع أن يحقق هذا. لأنه يقول “الجميع أخطأوا” لكن عندما أتى الإيمان، حقق (البر). لأن الإنسان آمن وتبرر في آن واحد وثبّت فيه روح الناموس، وحقق الإيمان كل ما كان يسعى إليه الناموس بكافة الطرق. وعليه، فهو لم يبطله لكن كمّله. لقد أظهر هنا ثلاثة أمور:

          + من الممكن أن يتبرّر المرء بدون الناموس.

          + لم يستطع الناموس أن يحقق ذلك البر.

          + الإيمان لا يحارب الناموس. ونظراً لأن اليهود قد أثاروا ذلك بصفة خاصة، أي أن الإيمان هو ضد الناموس، فقد أظهر أكثر مما أراد اليهود أن يسمعوه، بقوله إن الإيمان ليس ضد الناموس بل أنه مساعد ومعين له، الأمر الذي اشتهوا أن يسمعوه بشكل خاص.

5 ـ لأنه بعد هذه النعمة، التي تبرّرنا بها، فإن الأمر يحتاج لأسلوب حياة مناسب، فلنُظهر محاولة تليق بهذه العطية لتطبيق مثل هذا الأسلوب. ولنعتني أن نحفظ المحبة التي هي تاج كل الخيرات، وأن نُظهرها ولو بمحاولات كثيرة. لأن المحبة لا تعني الكلام فقط، ولا المحاضرات الكثيرة، ولكنها تكمن في مساعدة الآخر، إذ أنها تظهر في الأعمال، وعلى سبيل المثال يتجلّى عمل المحبة عندما يقلل أحد من حالات الفقر، أو يُعين المرضى، أو يُبعد الأخطار، أو يقف بجوار الذين يواجهون مواقف صعبة، أو يبكي مع الباكين، ويفرح مع الفرحين. وعلى الرغم من أن الفرح مع الفرحين يبدو أمراً بسيطاً، إلاّ أنه يعد عملاً عظيماً للغاية، ويحتاج إلى فكر حكيم. فمن الممكن أن نرى كثيرين قد حققوا أموراً صعبة المنال، ولكنهم لا يستطيعون أن يحققوا (المحبة التي تفرح بفرح الآخرين) لأن كثيرين يبكون مع الباكين، لكنهم لا يفرحون مع الفرحين، إذ نجدهم يذرفون الدموع عندما يفرح الآخرين، وهذا هو الحسد والحقد.

          إذاً فكون الإنسان يشارك أخاه في فرحه فهذا ما يعد إنجازاً عظيماً، وهو أكبر ليس فقط من أن يبكي مع الباكين، بل أيضاً من أن يقف إلى جوار أولئك الذين يتعرّضون للمخاطر. لقد خاطر كثيرون مع أولئك الذين تعرضوا للخطر، وعندما ابتهج هؤلاء تضايقوا هم، هذا هو مرض الحسد، على الرغم من أن الأول (البكاء) ينتج عنه تعب وعرق، بينما الثاني (الفرح) يأتي نتيجة اختيار وقرار فقط، فإن الكثيرين يحتملون ما هو أصعب ويتركوا ما هو أسهل، فنجدهم يئّنوا ويحزنوا جداً عندما يرون الآخرين يفرحون وعندما يرون أن الكنيسة كلها تنتفع، سواء بالكلمة أو بأي طريقة أخرى. وهل يوجد أسوأ من هذا؟ لأن مثل هذا الإنسان، لا يحارب اخوة فقط، بل يقاوم إرادة الله أيضاً. إذاً يجب عليك عندما تدرك هذا أن توقف المرض (أي الحسد)، وإن لم تستطع أن تقبل قريبك، فعلى الأقل حاول أن تخلّص نفسك من شرور كثيرة (تنتج عن هذا الحسد).

ولماذا تسمح بالحرب أن تخترق أفكارك؟ لماذا تملأ نفسك بالضجيج؟ لماذا تتسبب في الكوارث؟ لماذا تُثير القلق والإرتباك؟ كيف يمكنك أن تطلب غفراناً للخطايا عندما تصنع كل هذا؟ فإن كان الله لا يغفر لأولئك الذين لا يغفرون خطايا الآخرين، فكم بالحري أولئك الذين يحاولون أن يظلموا أُناساً لم يرتكبوا أي ظلم في حقهم. وأي غفراناً سيُعطى لهم؟ [20] هذا يعد برهاناً على ممارسة أسوأ أنواع الشرور. هؤلاء الظالمون إنضموا إلى الشيطان في محاربة الكنيسة، بل ربما بصورة أسوأ بكثير. لأنه من الممكن أن نحترس من الشيطان لأننا لا نجهل حيله، لكن هؤلاء الأشرار وهم يرتدون قناع المحبة، فإنهم يشعلون النار خفيةً. إن ذلك لا يمكن أبداً أن يدعو للشفقة، بل أنه مثار للسخرية أيضاً. أخبرني إذاً، لماذا يصفّر وجهك وترتعش وتقف مرتعباً؟ وما هو الشر الذي حدث؟ هل لأن أخاك قد صار مشهوراً، ممجداً وناجحاً؟ إن هذا يدعوك أن تتهلل وتفرح وتمجد الله، فإن أحد أعضائك صار مشهوراً ومُمجداً، إلاّ أنك في الحقيقة تتألم بسبب أن الله قد تمجد في أبنائه.

أرأيت إلى أين تقود هذه الحرب؟ وإن كان أي يهودي يدّعي بأنه لا يتألم لأن الله يتمجّد، لكنه يتألم لأن الأخ يُمجد. إن مجد الله يُستعلن من خلال مجد الأخ، وعليه فأنت الذي تقود هذه الحرب. ومع هذا تقول إن هذا لا يضايقني وما أريده فقط هو أن يتمجد الله من خلالك. كان ينبغي عليك أن تفرح عندما يفرح أخوك، تماماً كما تفرح عندما يتمجد الله من خلالك، عندئذ سيقول الجميع مبارك الله الذي لديه مثل هؤلاء الخدام المتحررين من كل حسد، والفرحين بكل الأمور الحسنة التي تسود فيما بينهم. ولماذا أتكلّم عن الأخ؟ لأنه لو كان الذي تمجّد الله من خلاله خصماً وعدواً، ولكن الله تمجّد من خلاله، فينبغي عليك لأجل هذا السبب أن تجعله صديقاً لك. ولكنك تجعل الصديق عدواً لأن الله قد تمجد بتقدمه ونجاحه. فلو أن شخصاً ما قد ساهم في شفاء جسدك المتألم فسوف تعتبره فيما بعد من أصداقائك المقرّبين حتى ولو كان عدواً، بينما ذاك الذي يُزين جسد المسيح، أي الكنيسة، وهو صديق لك، فأنت تعتبره عدواً. وهل توجد طريقة أخرى أسوأ من ذلك تُحارب بها المسيح؟ ولهذا فحتى لو صنع المرء معجزات، أو سلك طريق البتولية أو مارس الصوم أو النوم على الأرض، ووصل بفضيلته إلى مستوى الملائكة، لكنه يحمل هذا العيب (أي الحسد) سيعتبره الجميع مريضاً، وأشّر جداً من الزاني والعاهر والسارق ونابش القبور.

6 ـ ولكي لا يتهمني أحد بالمبالغة في القول فسوف أسألكم، لو أن شخصاً ما أخذ ناراً وأدوات هدم وقام بهدم وحرق هذه الكنيسة ودمر هذا المذبح، ألا يرميه كل أحد من الموجودين هنا بحجر كدنس ومُدان؟ ماذا إذاً، لو أحضر شخص، هذا اللهب المشتعل جداً، أي الحسد، والذي لا يهدم فقط مبني مشيداً بالحجارة، ويُدمر مذبحاً من الذهب بل يهدم ما هو أثمن وأقيم بكثير من الحوائط ومن المذبح، يدمر البناء الروحي الذي أقامه المعلّمين، فأي غفراناً يمكن أن يناله؟ ولا يقل لي أحد، إنه حاول مرات كثيرة أن يتخلّص من هذا الداء (أي الحسد) ولم ينجح، لأن كل الأمور يُحكم عليها من جهة الإرادة. لأن شاول أُعتبر أنه قتل داود، على الرغم من أنه لم يتمكن من ذلك.

أخبرني، هل لا تعلم أنك تتآمر على خراف المسيح، تحارب الراعي والخراف التي بذل المسيح دمه من أجلها وأوصانا أن نجوز الآلام وأن نعمل بكل اجتهاد من أجلها؟ ألا تتذكر، أن سيدك طلب من الآب مجداً لك ولم يطلب لنفسه، بينما أنت لا تطلب مجد الرب بل مجدك الذاتي على الرغم من أنه لو طلبت مجد الرب، فستنال عندئذٍ مجدك الشخصي. أما إن طلبت المجد الذاتي قبل مجد الرب، فلن تتمتع أبداً بهذا المجد. فما هو طريق الشفاء إذاً؟ نصلي معاً ونرفع جميعاً صوتاً واحداً من أجل هؤلاء كما لو كانوا مرضى. لأنه بالحقيقة هؤلاء سلكوا بشكل أكثر سوءاً من أولئك الذين سلكوا بشهوة جامحة. لأن هذا المرض (الحسد) يحتاج صلوات وتضرعات كثيرة، لأن الذي لا يُحب أخاه لن يحقق أي شيء، حتى لو أنفق أموالا كثيرة، وحتى لو أُفرز للشهادة. تأمل حجم العقوبة التي يمكن أن ينالها الذي يُحارب أخاه دون أن يكون ذاك قد ظلمه أبداً. إنه يُعد أسوأ من الوثنيين.

إذاً لو أننا نحب أولئك الذين يحبوننا فلن نتميّز عنهم بشيء. أخبرني أين سيقف ذاك الذي يحسد أولئك الذين يحبونه عندما يمثل أمام الله يوم الدينونة العتيدة؟ لأن الحسد يعتبر حقاً أشر من الحرب. لأن العداوة بين المتحاربين تزول بزوال أسباب الحروب، بينما الحاسد لا يمكن أن يصير صديقاً لآخر. والأول (أي المحارب) يُعلن عن معركته بينما الثاني (أي الحاسد) يُخفيها. الأول يستطيع أن يذكر في مرات كثيرة مبررات شن الحروب، بينما الثاني لا دوافع لديه سوى الحماقة والرغبة الشيطانية. إذاً بأي شيء يستطيع المرء أن يقارن هذه النفس؟ بأي شيء فاسد؟ بأي وسيلة دفاع؟ بأي حشرة؟ بأي دويبة؟ لأنه لا يوجد شيئاً يُثير الإشمئزاز أكثر من هذه النفس. لأن مرض الحسد يقود بالحقيقة إلى فوضى في الكنائس، وقد ولّد الخطايا، ووضع سلاحاً في يد الأخ، وجعل اليد اليمنى ترتوي بدم البار، دمر نواميس الطبيعة، فتح أبواب الموت، وقد تسبب في اللعنة [21] ، ولم يترك قايين البائس أن يتذكر آلام الوضع ولا حالة الوالدين وحزنهم على فراق ابنهما ولا أي شيء آخر، لكن هذه اللعنة جعلته مشتتاً، وقادته إلى هذا الجنون، وعلى الرغم من أن الله قد قال له ” عند الباب خطية رابضة وإليك اشتياقها وأنت تسود عليها” [22] ، فإنه لم يتراجع. فالشفاء من هذا المرض (أي الحسد)، يعد أمراً صعباً، حتى ولو أُعطي المريض أدوية كثيرة، الحسد يُفجر الفساد (أي فساد الحاسد).

إذاً لماذا تتألم وأنت أكثر بؤساً من الجميع؟ هل لأن الله تمجّد؟ إن هذا الأمر يكشف عن سيادة الشيطان على النفس. هل لأن أخاك صار أفضل منك؟ إنك تستطيع أيضاً أن تتفوق عليه وتصير أفضل. وبناء على ذلك، فلو أردت أن تفوز ينبغي ألا تذبح وألا تقتل، بل يجب أن تتركه ليحيا لكي يبقي لديك دافعاً للجهاد وتنتصر الحياة، لأنه بذلك سيكون تاجك منيراً. لكنك بهذا الفعل تكون قد أصدرت ضد نفسك أكبر قرار بالهزيمة. لا شيء من كل هذا يعرفه الحاسد. ولأي سبب تحب المجد بهذا القدر مع أنك ستبقى وحيداً؟ إن قايين وهابيل هما فقط اللذان كانا يعيشان في هذه الأرض. لكن ولا هذا أيضاً قد جعل قايين يضبط مشاعره، لكنه أفرغ نفسه من كل صلاح وأخذ موقفاً وقتل أخاه بتحريض من الشيطان. لأن الشيطان كان حقيقة هو القائد آنذاك لأنه لم يكن كافياً للشيطان أن الإنسان قد صار فانياً، لكنه حاول أيضاً أن يجعل الكارثة أكبر، عن طريق القتل، فأقنع قايين بأن يقتل أخيه. لأن ذاك الذي لا يشبع مطلقاً من ممارستنا للشرور قد تَعجّل وكان مُتلهفاً أن يرى قرار القتل وقد تحقق، تماماً مثل شخص، رأى عدوه محبوساً، وأن حكماً بالاعدام قد صدر ضده، فيكون متعجلاً لرؤية تنفيذ حكم الاعدام داخل المدينة قبل أن يخرج منها ولا ينتظر الوقت المحدد لتنفيذ الحكم، هكذا صنع الشيطان آنذاك. فعلى الرغم من أنه قد سمع أن الإنسان سيعود إلى الأرض [23] إلاّ أنه كان مُتلهفاً أن يرى المزيد، أن يموت الابن قبل الأب، والأخ يقتل أخاه، وبأسلوب بشع وعنيف.

7 ـ أرأيت حجم أو كم الخدمات التي يُقدمها الحاسد للشيطان؟ وكيف أنه أشبع رغباته التي لا تُشبع، إذ قدّم له مائدة غنية على قدر ما يشتهي، ليتنا إذاً نتجنب هذا المرض. لأنه بالحقيقة من غير الممكن أن نتجنب تلك النار التي أُعدت للشيطان وأعوانه إن لم نتخلّص من هذا المرض (أي الحسد) لكننا سوف نتخلّص منه لو أدركنا أن المسيح قد أحبنا وأعطانا وصية أن نُحب بعضنا بعضاً. وكيف أحبنا؟ لقد أحبنا حين سفك دمه الكريم لأجلنا، على الرغم من أننا كنا أعداءاً، وصنعنا شروراً كثيرة.

نفس الأمر اصنعه أنت تجاه أخيك، لأن المسيح أمرنا قائلاً: ” وصية جديدة أنا أعطيكم أن تحبوا بعضكم بعضاً كما أحببتكم” [24] . أو من الأفضل أن نقول إن الأمر يتجاوز مجرد محبتنا بعضنا لبعض، لأن المسيح فعل هذا لأجل أعدائه. ومع هذا فأنت لا تريد أن تعطي دمك لأجل أخيك. لكن لماذا إذاً تسفك دمه مخالفاً الوصية؟ على الرغم أن ما صنعه المسيح لم يصنعه كدين عليه، ولكن عندما تفعل أنت ذلك، فأنت تُسدد دينك. لأن ذاك أيضاً الذي أخذ عشرة آلاف وزنة، وطالب بالمائة دينار من العبد المديون لم يُدان فقط من أجل هذا، أي لأنه طالب بما له، ولكن لأنه لم يصر أفضل، لا بفعل الاحسان، ولا أنه صنع كما صنع سيده معه في البداية، ولا أعاد الدين. لأن هذا الدين ملقى على عاتق العبد وعليه أن يسدده [25] . فإن كل ما نفعله فإننا نفعله بالحقيقة لكي نُسدد ديناً. ولأجل هذا قال المسيح: “متى فعلتم كل ما أُمرتم به فقولوا إننا عبيد بطالون. لأننا إنما عملنا ما كان يجب علينا” [26] ، حتى عندما نُظهر محبة، أو نُعطي أموالاً للمحتاجين، فإننا في الحقيقة نسدد ديناً. ليس فقط لأن ذاك قد بدأ بالإحسان، لكن لأننا نُعطي مما له، هذا لو حدث مرةً وأعطينا.

لماذا إذاً تحرم نفسك من تلك الأمور التي يريد الله بها أن يجعلك سيداً؟ طالما أنه لأجل هذا أوصاك أن تقدّم محبة للآخر، لكي تحصل عليها أنت أيضاً. لأن كل ما تقتنيه لنفسك فقط لن تتملكه، ولكنه سيكون لك عندما تعطي للآخر. ترى، هل هناك ما يكون مساوياً أو مشابهاً لهذه المحبة، إن المسيح سفك دمه لأجل الأعداء، بينما نحن لا نُعطي أموالاً حتى لأجل خيرنا. ذاك سفك دمه بينما نحن لا نعطي ولا حتى الأموال التي ليست لنا. ذاك أُعطى أولاً، لكننا لم نقدّم أي شيء بعد ذلك. وبرغم أن ذاك قدّم نفسه لأجل خلاصنا، إلاّ أننا لم نفعل أي شيء، حتى وإن كان لأجل منفعتنا. فما قدّمناه لا يتعدى مجرد أعمال الرحمة الإنسانية، على الرغم من أن كل الأشياء تؤول في النهاية لنا. ولهذا فقد أُعطينا وصية المحبة، حتى تكون لنا هذه المحبة.

تماماً كما لو أن شخصاً أعطى مالاً لطفل صغير وأمره أن يمسك به جيداً، أو أعطاه لخادم لكي يحفظه، حتى لا يستطيع مَن يطمع فيه أن يخطفه، هذا بالضبط ما صنعه الله. وأنت أيضاً إعطِ  لمَن له إحتياج، لكي لا يأتي آخر ويسلبه منك، مثل السارق أو الشيطان. إن الموت سيخطفه في نهاية الأمر. لذلك حتى وإن احتفظت بهذه الأموال، فلن تحتفظ بها في أمان. ولكنك إذا قدمتها إلى الله، من خلال عطائك للفقراء، فإنه سوف يحفظها لك في أمان، وسوف يردها لك وبوفرة وفي الوقت المناسب. لأن الله لا يأخذها لكي ينزعها منك ولكن لكي يزيدها، ولكي يحفظها في أمان أكثر، لكي يحفظها لذلك الزمان الذي يختفي فيه مَن يُقرض أو مَن يقدم عمل رحمة للآخرين.

إذاً بعد كل هذه الوعود هل هناك مَن هم أكثر قسوة منا عندما نرفض أن نُعطي لله أو أن نقرضه؟ ما ينبغي إدراكه أننا سوف نذهب لله مجردين من كل شيء، بل وفقراء دون أن نحتفظ بشيء مما قد استأمنا هو عليه، لأننا لم نودعه عند ذاك الذي يستطيع أن يحفظه بأمانة أكثر من الجميع. ولهذا فإننا سنُعاقب أشد عقاب. ماذا نستطيع أن نقول إذاً عندما سُندان بسبب تقصيرنا في العطاء. وأي تبرير سنُقدم؟ ولأي سبب لم نُعطي؟ ألا تثق بأنك سوف تأخذ ما قدّمته مرةً أخرى؟ وكيف يمكن أن يكون لهذا مُبرر؟ لأن الله أعطى بسخاء لذاك الذي لم يعط شيئاً فكيف لا يعطي الإنسان أكثر بكثير بعدما أخذ مجاناً؟ وهل الأخذ دون عطاء يسبب لك فرحاً؟ لأجل هذا ينبغي عليك أن تعطي بوفرة، فإن هذه العطايا ستجعلك تفرح أكثر في الحياة الأخرى، هناك حيث لا يستطيع أحد أن ينزعها منك، ولكن إن احتفظت بها لنفسك الآن، فإنك ستعاني شروراً كثيرة. ومثلما يفعل الكلب الذي يريد أن يخطف قطعة خبز من يد طفل وهو ممسك بها، هكذا يفعل الشيطان في هجومه على الأغنياء.

إذاً فلنعطي هذه الأموال لله، وعندما يرى الشيطان هذا العطاء فإنه سينسحب بكل تأكيد. وعندما ينسحب، فإن الله وقتها سيعطيك كل ما قدّمت وليعوّضك عن هذا العطاء أضعافاً هناك في حياة الدهر الآتي حيث لا يستطيع الشيطان أن يُسبب أي إزعاج. فالأغنياء الآن لا يختلفون على الإطلاق عن الأطفال الذين ينزعجون من بعض الكلاب عندما تعوي جميعها حولهم، والشياطين أيضاً تحاول أن تفترس البشر بإستعبادهم للشهوة، وبالنهم، وبالسكر، وبالنفاق، وبالفجور. وعندما تكون هناك حاجة لكي نُقرض، فإننا ندقق في أولئك الذين أعطوا كثيراً، ونفحص جيداً فاعلي الإحسان (حتى نرى حجم العطاء)، لكن نحن هنا نصنع العكس. فالله الذي يصنع الإحسان، والذي يعطي ليس فقط مائة، لكن مائة ضعف، نتركه، ونسعى نحو أولئك الذين لن يردوا حتى أصل المال.

8 ـ ودعني أتساءل: ماذا يَفضُل عنا بعد الأكل بشراهة؟ فضلات ورائحة نتنة. أو دعني أقول ما هو المجد الباطل؟ بغضة وفساد. وماذا عن البخل؟ إهتمام زائد بالمال ومحبة كبيرة له. وماذا عن الفجور؟ جهنم وحشرات ضارة، لأن المديونيين للأغنياء هم الذين يدفعون الفوائد التي لأصل المال، أي الشرور الحاضرة، والكوارث المنتظرة (التي سينالها الأغنياء). أخبرني إذاً، هل ستُقرض هؤلاء وتُربح كل هذه العقوبات ولا تعطي بثقة كل هذه للمسيح (أي للفقراء والمحتاجين) الذي يَعِد بملكوت السموات وبالحياة الأبدية وبالخيرات التي لا توصف؟ وإذا لم نُقدم لمَن هم في إحتياج فأي تبرير سنُعطي؟ ولأي سبب لا نعطي كل ما نملك للمسيح الذي سيعطيك حتماً، وسيعطيك بوفرة؟ هل لأنه يعطي بعد زمن طويل أي في الدهر الآتي، على الرغم من أنه من المؤكد، أنه يعطينا خيرات أيضاً في هذه الحياة، فهو الذي قال: ” اطلبوا أولاً ملكوت الله وبره وهذه كلها تزاد لكم” [27] فهو لا يكذب. هل رأيتم محبة أكثر من هذه؟ إذ أن الأمور المختصة بملكوت الله محفوظة لك ولن تنقص، أما الأمور الأرضية، فهو يعطيها لك على كل حال وأيضاً بوفرة.

وفوق كل هذا، فإنك ستربح بعد حين، غنى أوفر، لأن الربح وقتها سيصير أعظم. لأنه حقاً من جهة هؤلاء الذين يقترضون، نرى أن هذا هو ما يصنعه المُقرضون، طالما أنهم يُقرضون برغبة قوية لأولئك الذين يسدّدون بعد زمن طويل. لأن ذاك الذي يرد الدين على الفور يُعتق من دفع الفوائد، لكن ذاك الذي يحتفظ بالمبلغ لزمن أطول فإنه يعمل به لفترة أكبر (ويقدم عنه فائدة أكثر). علينا ألاّ نحزن إذا تأجل ما يختص بالبشر، بل ونبرره حتى لو طالت فترة التأجيل. ولكن بالنسبة لله هل سوف نتصرف بصغر نفس ونتردد فنُصاب بالحيرة والخوف بالرغم من أنه ـ كما سبق وأشرنا ـ يُقدم عطايا وفيرة في هذه الحياة، وأيضاً يدّخر لك شيئاً أكبر وأعظم في الحياة الأخرى؟ لأن مقدار وجمال العطايا التي يهبها الله في حياة الدهر الآتي، يفوق تفاهة الحياة الحاضرة. وبكل تأكيد أننا لا نستطيع أن نقبل في هذا الجسد الفاني تلك التيجان الخالدة، وأيضاً لا يمكننا أن نتمتع بهذا الميراث الثابت غير المتغيّر في هذه الحياة الحاضرة المليئة بالقلاقل والاضطرابات، والتي تسودها تغييرات كثيرة.

وعليك أن تفكر لو أن شخصاً ما كان مديوناً لك بأموال بينما أنت متغرب في بلد أجنبي، وتعهّد برد هذا الدين، ولم يكن لديك خدم ولا تستطيع أن تحمل هذه الأموال إلى بيتك، فإنك ستترجاه بإلحاح ألاّ يدفعها لك في بلد غريب بل تُفضل أن يسدّدها لك في وطنك، ومع أنك تفعل هذا في أموالك إلاّ أنك فيما يختص بالأمور الروحية والخيرات الغير الظاهرة، فإنك تطلب أن تأخذها هنا في هذه الحياة الحاضرة. هل يوجد دليل على الحماقة أكثر من هذا؟ لأنك إذا حصلت عليها هنا في هذه الحياة فستأخذها بكل تأكيد ولكنها ستنتهي، ولكن إذا انتظرت حياة الدهر الآتي فسيعوضك الله بالخيرات التي لا تفنى. لو أخذت هنا فإنك تأخذ معدناً ثقيلاً لا ثمن له، أما إذا أخذت هناك فإنك تأخذ ذهباً نقياً. ومع هذا لن يحرمك الله من الأمور الأرضية لأنه مع الوعد بملكوت الله، أضاف أمراً آخر، قائلاً إن مَن يشتهي ملكوت الله وبره، سيأخذ مائة ضعف في هذه الحياة، وسيرث الحياة الأبدية.

ولكن لو أننا لم نأخذ مائة ضعف في هذه الحياة، فالسبب يرجع لنا لأننا لم نُعط لله الذي يستطيع أن يُعطينا بغنى. لأن أولئك الذين أعطوا، قد أخذوا الكثير، على الرغم من أنهم أعطوا القليل. أخبرني، أي شيء عظيم كان بطرس قد أعطاه، ألم يعطي شبكة ممزقة، وسنارة، وحربة؟ لكن الله فتح أمامه كل بيوت المسكونة، وجال الأرض والبحر، ودعاه الجميع في بيوتهم. والشيء الرائع أنهم باعوا ممتلكاتهم وأحضروها تحت أقدامه، دون أن يضعوها في يده (لأنهم لم يجرؤا على هذا) ناسبين إليه السخاء والإكرام. وقد يقول قائل إن هذا كان بطرس. لكن هل هذا يعني شيئاً بالنسبة لك؟ إن الله لم يَعِد بطرس فقط بملكوت الله، ولم يقل أنت يا بطرس ستأخذ مائة ضعف، بل قال ” وكل مَن ترك بيوتاً أو اخوة أو اخوات .. يأخذ مائة ضعف” [28] لأنه لا يحابي الوجوه، بل إن وعوده هي للجميع.

ربما يقول قائل إن لديه أولاداً كثيرين، ويتمنى أن يتركهم أغنياء. وتقول له لماذا تريد أن تجعلهم فقراءاً (أي بهذا السلوك الخالي من المحبة)؟ إذا تركت لهم كل شيء، فإنك تُعطي كل مالك وأنت ترجو لهم الآمان. لكنه أمان غير مؤكد. أما عندما تنجح في أن تجعل الله وريثاً معهم ووصياً عليهم تكون قد تركت لهم كنوزاً لا حد لها. مثلما يحدث عندما يريد أحد أن ينال منا، فإذا ما دافعنا عن أنفسنا فإن الله لا يُعيننا، ولكن عندما نترك لله الأمر كله، فستصير النهاية أفضل مما نتوقع. وهذا ما يحدث بالنسبة للمال، لو أننا اهتممنا به فإنه سينسحب ولن يعتني به، أما إذا وضعنا كل شيء تحت عناية الله، فهذا المال، والأولاد أيضاً سيحفظهم هو في أمان كامل. ولماذا تندهش لو أن هذا يحدث في حالة تعاملنا مع الله؟ فبالنسبة للبشر يستطيع المرء أن يرى مثل هذا الأمر. لأنه إن لم تترجى أحد أقربائك في أيام حياتك الأخيرة لكي يعتني بأولادك، فلن يقوم بهذا العمل من تلقاء نفسه، بل يخجل ويتردد كثيراً في تعهد هذا الأمر، ولكنك إذا وضعت رجاءك في الله لكي يتعهدهم بالرعاية، باعتبار أنك تُكرّمه بأعظم ما تكون الكرامة، فإنه سيعوّضك بأعظم مجازاة.

          9 ـ إذا أردت إذاً أن تترك غنى وافراً لأولادك، اتركهم للعناية الإلهية. فالله قد خلق النفس والجسد ومنح الحياة دون أن تقدم أنت أي شيء. لذلك عندما يرى أنك تظهر شهامة وأنك تُسلّم له كل ما يتعلق بالأولاد، بل والأولاد أنفسهم، فكيف لا يغدق عليهم بكل الغنى؟ فإيليا قد أكل الفطيرة التي أعدتها له المرأة بقليل من الدقيق، وعندما رأى الله أنها فضلّته على ابنها، فإنه ملأ غرفة الأرملة بأجران دقيق وبراميل زيت [29] ، وعندما تتأمل في مقدار اللطف الذي أظهره إله إيليا، فإنه لا ينبغي إذاً أن نهتم بحجم الغنى الذي نتركه لأبنائنا، بل نعتني بالأحرى أن نترك لهم الفضائل. لأنه لو وضع الأولاد ثقتهم في الغنى والمال فلن يعتنوا بأي شيء آخر، وسيحاولون أن يحجبوا صفاتهم السيئة بواسطة أموالهم الكثيرة. ولكن إذا رأوا أن عزاءهم لا يتحقق بواسطة الغنى، فسيفعلون كل شيء، حتى أنهم سينالون عزاءً بالفضيلة، وحتى في حالة الفقر والاحتياج.

إذاً اهتم بأن تترك لهم الفضيلة على أن تترك لهم الأموال، لأنه بالحقيقة هو دليل على الغباء الشديد، عندما نحرم الأبناء السيادة على كل ما لنا أثناء حياتنا، بينما عندما نموت، نمنحهم حرية أوسع على الرغم من أنه عندما نكون أحياءاً، ستكون لدينا الفرصة أن نحمّلهم مسئوليات، وأن نُهذبهم ونضبطهم عندما يسيئون استخدام الأمور المادية. لكن عندما نموت فإن غيابنا، مع إندفاع الشباب، يُعطي الفرصة للتسلط الذي يأتي من المال، وبهذا ندفعهم إلى الحزن والشقاء وإلى انحدار شديد ونضع ناراً فوق نار، ونلقي بزيت فوق سعير النار المخيف. وبناء عليه فإذا أردت أن تترك لهم غنى وأمناً حقيقياً، اتركهم في عناية الله التي تنفعهم، وسلّم لله كل ما لهؤلاء الأبناء. لأنهم لو أخذوا هذه الأموال فلن يدركوا إلى مَن سيعطونها وسيقعون ضحية لكثيرين من الفاسدين والجاحدين. ولكن إذا أقرضت هذه الأموال لله مسبقاً، فسيبقى الكنز مُحصّناً فيما بعد، وسوف تسترده مرة أخرى بصورة سهلة جداً. لأن الله يُسّر بالحقيقة بالأكثر عندما يمنحنا أكثر مما قدمنا وينظر إلى قارضيه بفرح كبير أكثر من أولئك الذين لم يقرضوه، وينظر إلى دائنيه نظرة محبة وتقدير.

وبناء عليه، فإذا أردت أن يكون الله رفيقاً لك على الدوام، ينبغي أن تجعله مديناً بالكثير. رغم أن المقرض لا يفرح هكذا عندما يكون لديه مدينين، كما يفرح المسيح عندما يكون لديه مُقرضين، وهؤلاء الذين لا يدين لهم بشيء، يتجنبهم، بينما أولئك الذين يدين لهم، فإنه يركض نحوهم بشكل خاص. فلنفعل إذاً كل شيء لكي نجعله مديناً لنا. لأن هذا الوقت هو وقت للإقراض، والآن هو في حالة احتياج (وهو يقصد هنا كل من له إحتياج). ولو لم تعطه الآن، فلن يحتاج لك بعد موتك. لأنه هنا هو عطشان، وهنا هو جوعان، وهو عطشان لأجل خلاصك. ولهذا صار طالباً للصدقة، ولهذا يتجول عرياناً، وهو يُعِدّ لك حياة أبدية. لا ينبغي إذاً أن تزدري به، لأنه لا يريد أن يُميت بل أن يقوت، لا يريد أن يلبس، لكن أن يُلبس الآخرين ويصنع لك ذلك الزي الذهبي، والرداء الملوكي.

ألا ترى الأطباء المجتهدين هم أنفسهم يغتسلون عندما يصنعون حماماً للمرضى، وإن كانوا ليسوا في حاجة لهذا؟ هكذا يصنع المسيح، يفعل كل شيء من أجلك أنت أيها المريض. لذلك فلكي يعطيك المجازاه فهو لا يطلبك بالإجبار، لكي تعلم أنه يبحث عنك، لا لأنه في احتياج لك، بل لكي يُسدد احتياجك أنت. بتواضع يأتي إليك باسطاً يده اليمنى. وحتى لو أعطيته فلساً واحداً، فلن يردك، وحتى لو ازدريت به فلن يبتعد عنك، لكنه سيقترب منك أيضاً مرة أخرى. لأنه يشتهي خلاصنا جداً.

إذاً فلنحتقر المال، لكي لا يتركنا المسيح. لنحتقر المال، لكي نفوز بهذا المال. لأننا لو تمسكنا بهذا المال هنا في هذه الحياة فسوف نخسره في هذه الحياة، وفي الدهر الآتي أيضاً. ولكننا إن وزعناه بكل سخاء وكرم، فسنتمتع بغنى وفير في هذه الحياة وفي حياة الدهر الآتي.

إذاً فذاك الذي يريد أن يصير غنياً، فليصر فقيراً، لكي يصير غنياً، لينفق (على الفقراء)، لكي يجمع (هبات وعطايا من الله)، ليهب الآخرين، لكي يحصل (على غنى سمائي). لكن لو أن هذه الأمور تُعد جديدة وغريبة عليك، فلتلاحظ الفلاح الذي يزرع، وفكر أن هذا الفلاح لن يجمع (حصاداً) بطريقة اخرى، إن لم ينثر ما لديه، وإن لم يلقي البذور الجاهزة في الأرض. لنبذر نحن أيضاً، ونزرع للسماء، لكي نحصد بوفرة ونحصل على الخيرات الأبدية بالنعمة ومحبة البشر اللواتي لربنا يسوع المسيح الذي يليق به المجد والقوة والكرامة مع الآب والروح القدس، الان وكل أوان وإلى دهر الدهور آمين.


[13] انظر مز3:14، 3:53، 9:5، 3:140، 27:10، أم16:1، إش7:59، مز1:35.

[14] غل21:4ـ22.

[15] رو3:10.

[16] رو7:7ـ8.

[17] رو17:1.

[18] مت1:1.

[19] حينما دخل كرنيليوس إلى الإيمان، واستدعى القديس بطرس ليشرح له الرؤيا التي رآها، وكلام القديس بطرس معه، انظر أع1:10ـ11، 18.

[20] ولذلك نصلي في أبانا الذي … ونقول اغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضاً للمذنبين إلينا.

[21] عندما قال الله لقايين “ملعون أنت من الأرض التي فتحت فاها لتقبل دم أخيك من يدك” (تك11:4).

[22] تك7:4.

[23] عندما قال الله لآدم ” ملعونة الأرض بسببك.. بعرق وجهك تأكل خبزاً حتى تعود إلى الأرض التي أخذت منها ” (تك17:3، 19).

[24] يو34:13.

[25] انظر مت23:18ـ35.

[26] لو10:17.

[27] مت33:6.

[28] رو37:10.

[29] 1مل7:17ـ16.

Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF

معلومات حول الصفحة

عناوين الصفحة

محتويات القسم

الوسوم

arArabic
انتقل إلى أعلى