الكلمة السابعة: “في يديك استودع روحي” (لوقا 23: 46)
“ونادى يسوع بصوت عظيم وقال: يا أبتاه، في يديك استودع روحي. ولما قال هذا اسلم الروح” (لو46:23). وقد حقق الرب بذلك نبؤة أخرى لداود النبي في مز5:31 وكانت هذه صلاة مألوفة عند اليهود أيام المسيح ولا سيما عند النوم، وقد أضاف المسيح إليها فقط كلمة “يا أبتاه”. لقد انتهت الظلمة التي شعر فيها المخلص أن الأب قد تركه، وهو ألان يستودع روحه بين يدي ذاك القادر أن يُقيمه ويُخلصه من الموت (عب 7:5). وكأنه نطق حينئذ بقول الرسول بولس: “ابتُلع الموت إلى غلبة. أين شوكتك يا موت؟ أين غلبتك يا هاوية؟ (1كو 45:15 و55). أيها العالم، أين قوتك التي بها أردت أن تهلك أبن الله؟
قال الطبيب الجراح لشاب مسيحي مصاب بالسرطان في لسانه قبل أن يُجري له عملية جراحية: “إن أردت أن تقول شيئاً فالأفضل أن تقوله ألان، فربما تكون هذه هي أخر كلمات تنطق بها. ففكر بعمق وانهمرت دموعه ثم قال: “يا أبتاه، في يديك استودع روحي”!
ويُعلّق العلاّمة أوريجانوس على هذه العبارة التي فاه بها الرب على الصليب قائلاً:
[ قال الرب ذلك لانه أراد أن يُقدّس موتنا بهذه الكلمات حتى إننا نحن أيضا عندما نفارق الحياة الحاضرة نستودع أرواحنا في يدي الأب السماوي. كما أن هذه الكلمة تعلّمنا انه منذ أن حدث ذلك مع المسيح، فان نفوس القديسين لم تعُد مغلقاً عليها في العالم السفلي كما كانت سابقاً، لان الرب غيّر طريق رحلتهم ليكون إلى أعلى].
الذين يعيشون كسائحين غرباء على الأرض ويتطلعون بلهفة إلى كنزهم السماوي، هم فقط الذين يموتون بملء الرجاء المفرح في الحياة الفُضلى التي تنتظرهم. لقد وصفت أبنة ستالين (زعيم الاتحاد السوفيتي السابق أثناء الحرب العالمية الثانية) موت والدها المُرعب قائلة: “انه عندئذ نظر إلى كل من كانوا حوله نظرة مليئة بالرعب والخوف من الموت، ثم رفع يده وكأنه يشير إلى شخص فوقه، ثم صبّ اللعنة على جميع المحيطين به”! كم هو فرقٌ شاسع بين موت إنسان بلا إله مثل ستالين، وموت الشهيد اسطفانوس مثلاً الذي بينما كان يُرجم حتى الموت استودع روحه بين يدي مخلّصه!
والمسيح لم ينطق كلمته الأخيرة هذه بصوت إنسان ضعيف مُجهد يُسلم الروح، بل انه “صرخ بصوت عظيم واسلم الروح” (مت 50:27)، مما يوضّح انه لا يمكن لأي مخلوق أن ينتزع حياته منه، بل انه سلّمها بإرادته. فالموت لم يهاجمه مثل البشر، بل انه جاء ليواجه الموت ويحطمه لاجلنا مرة واحدة والى الأبد: “ليس أحد يأخذها مني، بل أضعها أنا من ذاتي. لي سلطان أن أضعها ولي سلطان أن أخذها أيضا” (يو18:10). وكما قال القديس كيرلس الاورشليمي: “وكأنه يقول: استودعها لكي أخذها ثانية، ثم اسلم الروح، ولكن ليس لمدة طويلة لانه قام سريعاً من الموت.
هذه الكلمة تشير إلى أن الفادي عبُر من أيدي أعدائه إلى يدي الله أبيه. فلا يهم مقدار ما نعانيه من أعدائنا، بل فلنتذكر حينئذ وعد الله لنا: “الإله القديم ملجأ، والأذرع الأبدية من تحت” (تث 27:33)! ومهما كانت طريقة موتنا فإننا سنرتمي بين يدي إلهنا، في حضن الحب الحقيقي، هذا الحب المقدس الذي يفيض بالرحمة الذي كشفه المسيح لنا عندما حوّل آلامه وموته إلى نصرة القيامة! فلنقل حينئذ باطمئنان: “يا أبتاه، في يديك أستودع روحي”! حتى وإن كنتُ لا اعلم هل سأستيقظ من نومي هنا أم هناك فلا يهم لان” الأذرع الأبدية” تحملنا! أيمكننا أن ننسى كيف أحتضن الأب ابنه التائب عندما عاد إلى بيته؟!
مبارك هو إلهنا ومخلصنا الذي علمنا ليس كيف نعيش فحسب، بل وأيضاً كيف نموت وعلى أفواهنا: “يا أبتاه، في يديك استودع روحي”!
قدس الأب أنتوني كونيارس
تجميع عن مقالات شهرية متفرقة
صادرة عن
دير السيدة العذراء “ينبوع الحياة”، دبين/الأردن