كلمات المسيح السبع على الصليب

أيقونة الصلب

 

الكلمة الأولى: “يا أبتاه أغفر لهم” (لوقا 23: 34)

لم يطلب الرب أثني عشر جيشاً من الملائكة لينقذوه، بل بالحري صلى لأجل صالبيه: رؤساء الكهنة والحكام والجنود الرومان والغوغاء الذين طالبوا بصلبه. كان يمكنه أن يهلك هؤلاء جميعاً، ولكنه دخل إلى أعماق كيانه، حيث شعر انه جاء خصيصاً لخلاص العالم كله، فقال: “يا أبتاه أغفر لهم، لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون” (لو34:23). لم يستجب معظمهم لحبه هذا، ولكن الأهم هو أنه قابل شرهم بخيره العميم. جسد المسيح المكسور ودمه المسفوك أظهرا لنا ما تفعله خطايانا، إذ تدق المسامير في جسده. وهذا هو الذي يهز مشاعرنا ويجعلنا نصرخ مثل العشار: “اللهم ارحمني أنا الخاطئ”(لو13:18)، وحينئذ يحطم الله الحجاب الحاجز بيننا وبينه ويؤكد لنا أن خطايانا لا يمكنها ؟أن تمنع حبه لنا أو تحرمنا منه !

قال احدهم:

مثل أشجار عطرية ينبعث منها أريج الروائح العطرية، سكب القلب العظيم من أعماقه على خشبة الحب صلاة مملوءة حلاوة ومغفرة للأعداء غير مسبوقة: ” يا أبتاه، اغفر لهم”. في تلك اللحظة، عندما تنقلب شجرة ضد خالقها وتصبح صليباً له، عندما ينقلب الحديد ضده ويصير مسامير، عندما تنقلب الزهور وتصير إكليلاً من الشوك، عندما ينقلب البشر ضده ويصيرون جلاّدين، يسمح الرب لصلاة من اجل أعدائه أن تنقطر من شفتيه لأول مرة في تاريخ العالم، ” لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون”.

ما الذي يخرج عندما تعصر ليمونة ؟ قطعاً، ما بداخلها. ونحن عندما نعصر، عندما تضغطنا كبشر تقلبات الحياة وتصدمنا الضيقات والتجارب بشدة، فإن ما بداخلنا هو الذي يخرج، سواء كان غضباً أو حقدا! أو مرارة أو حباً أو شكراً أو رأفة أو مغفرة. فعندما عصر مسيحنا بشدة على الصليب خرج ما بداخله: حب الله الغافر حتى للأشرار في هذه الصلاة الواحدة حصلنا على إنجيل حب الله الكلي لنا، وفيها تزودنا بكل حب الله الأب والابن والروح القدس !

يقول القديس مار أفرام السرياني:

تشفع الرب لأجل صالبيه لكي نعرف أنة غضب الغيظ لم يسد عليه. عذاب صالبيه كان لابد آت، ولكنه أظهر التمييز وليس الغيظ.

أعظم من أية معجزة:

صاحت الحشود من حوله: أنقذ نفسك، أظهر لنا معجزة من السماء، أنزل من على الصليب لنؤمن بك. فأعطاهم معجزة غير متوقعة هي مغفرته لهم ولجميع أعدائه. أليس هذا الغفران عسلاً إلهياً أعظم من أية معجزة وأقوى من أية علامة من السماء ؟! لقد أظهرت طلبة المغفرة تلك أن مسيحنا يختلف عنا تماماً وعن أي إنسان عاش على الأرض. عندما فوجئ احد المحكومين عليهم بالإعدام بهذه الكلمات في الإنجيل، قال انه رأى المعنى الكلي للمسيحية في ومضة واعترف بأنه: ” قد اخترقت هذه الآية قلبي إلى الأعماق”. وهكذا تغيرت حياته إلى الأبد.

تصور احد مشاهير الوعاظ أن الرب يسوع عندما ظهر لبطرس الرسول بعد قيامته قال له: “ابحث عن الذي بصق في وجهي واخبره أنني غفرت له. وابحث عن الذي وضع إكليل الشوك البشع على رأسي واخبره انه إذا قبل خلاصي له، فله عندي إكليل في ملكوتي ليس فيه شوكة واحدة. وابحث عن الذي أخذ القصبة من يدي وضربني بها على رأسي(متى30:27)، حيث عمّق الشوك داخل جبيني، واخبره أنه إذا قبل عطية الخلاص سأعطيه قضيب الملك. وابحث عن الجندي المسكين الذي طعنني بالحربة وأخبره انه يوجد طريق أقرب من ذلك إلى قلبي”!

“يا ابناه، اغفر لهم”، فإن كان قلبه رحمة للذين سمّروه، إذن تكون عنده رحمة لنا نحن أيضا. فإذا اعترفنا أن خطايانا كانت هي المسامير التي اخترقت يديه ورجليه، حينئذ تكون طلبته للمغفرة هي لنا نحن أيضا. نعم، لقد طلب ذلك لأجلي ولأجلك. فالغفران الذي نطق به على الصليب يعني أنه يوجد رجاء حقيقي لكل منا مهما كانت خطاياه. وكون اللص اليمين المحكوم عليه بالإعدام هو أول من دخل الفردوس إنما هي حقيقة تقف كمنارة رجاء لنا جميعاً.

ولكن هل كانوا فعلاً ” لا يعلمون ماذا يفعلون ” ؟ إنهم على قدر عظم خطيتهم، إلا انه لم تكن لديهم فكرة أنهم كانوا فعلاً يصلبون أبن الله ذاته. وهذا ما ذكره الرسول بولس: “لان لو عرفوا لما صلبوا رب المجد”(1كور8:2). لقد امتدت عطية المغفرة هذه من الرب إلى جميع صالبيه، ولكنها قبلت وخصصت للذين تابوا واعترفوا بخطاياهم يوم الخمسين. وأي موسم أفضل من الصوم الكبير لكي نفحص ضمائرنا ونتوب فيه ونحصل على هذه المغفرة التي وهبها لنا فادينا في غصّة آلامه ؟!

إنني أرى الصليب حباً مصلوباً من خطيتي ولأجل خطيتي، حباً مستعداً أن يقف معي ويقودني إلى حياة جديدة، حباً نزل من السماء وفعل كل شيء بما في ذلك الموت على الصليب لكي يرفعني إلى السماء ! ولعل أصعب وصية قالها الرب هي: “أحبوا أعدائكم. باركوا لاعنيكم. أحسنوا إلى مبغضيكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم”(مت44:5). وعلى الصليب تمم هذه الوصية ذاك الذي وضع لنا هذا المستوى العالي. ويقول القديس إيرينيوس بهذا الصدد:

{ هتف المسيح بقوة على الصليب طالباً المغفرة لصالبيه، فتجلت طول أناته وصبره ورأفته وصلاحه حيث إنه وهو يتألم صفح عن الذين أساءوا معاملته. لان ذاك الذي قال لنا: “أحبوا أعدائكم…”، تمم هو بنفسه ذلك على الصليب، إذ أحب الجنس البشري لدرجة انه صلى حتى لأجل الذين صلبوه.}

وإن كان ليس من طبيعة الإنسان أن يغفر لأعدائه ويحسن إلى مضطهديه، ولكنه لا يستطيع ذلك إلا بعمل نعمة المسيح في قلبه ! فالمسيح الذي صلى لأجل أعدائه على الصليب يخلق نفس روح الحب والمغفرة في الذين يتبعونه بكل قلوبهم. وهذا ما حدث مع الشهيد اسطفانوس عندما كانوا يرجمونه حتى الموت، فقد طلب من الرب ألا يحسب لراجميه هذه الخطية ! وهكذا عندما يسكن المسيح والروح القدس بقوة في قلب الإنسان، حينئذ يصير حبه لأعدائه ومغفرته لهم خبرة حقيقية له!

ولذلك يقول الشهيد إغناطيوس الأنطاكي:

“لا تطلبوا أن تنتقموا لأنفسكم من الذين يؤذونكم، بل فلنجعل منهم إخوة بلطفنا حتى يتمجد اسم الرب. ولنتشبه بالرب “الذي إذ شتم لم يكن يشتم عوضاً”. وعندما صلب لم يحتج، “وإذ تألم لم يكن يهدد”(1بط23:2)، بل صلى لأجل أعدائه”.

والقديس يوحنا ذهبي الفم يقول:

لا تحقد على من يخطئ إليك، هذا الذي يسبب لك الصالحات وكرامة عظيمة. لا تلعن الذي يعاملك بازدراء، لأنك بذلك تجتاز المشقة ولكنك تحرم من الثمرة، تصيبك الخسارة ولكنك تفقد المكافأة. ولكنك قد تقول: كيف يمكن ذلك ؟ لقد رأيت الله يصير إنساناً وينزل ويتألم بهذا المقدار لأجلك، ولا زلت تتساءل وتشك في كيفية غفرانك للعبيد رفقائك إهانتهم لك ؟ ألم تسمعه على الصليب وهو يطلب الصفح عن صالبيه؟ أم تسمع الرسول بولس يقول: “المسيح…الذي هو عن يمين الله يشفع فينا”(رو 8: 34)؟ ألم تر أنه حتى بعد أن صعد أرسل رسله إلى اليهود الذين قتلوه لكي يمنحهم ربوات من البركات، رغم أن الرسل كانوا سيقاسون ربوات العذابات على أيديهم ؟ ولكن ماذا تكون آلامك بالنسبة لآلام الرب ؟!…

في عام 1931م، عندما حكم الشيوعيون أسبانيا حيث حرقوا الكنائس والمستشفيات والأديرة، قبضوا على كاهن اسباني عمره 86 عاماً، واقتادوه إلى نار مشتعلة وهو مقيد اليدين. أما الكاهن فقد طلب منهم أن يمنحوه طلبه الأخير، وهو أن يفكوا رباط يديه لكي يتمكن من أن يباركهم قبل موته. فظن أحد حراسه انه مجنون، فقطع بفأس يدي ذلك الكاهن مع قيوده، فرفع الكاهن الشيخ ذراعيه المقطوعتي اليدين بآلامهما المبرحة ودمهما النازف على رؤوس جلاديه، ورسم عليهم بالبركة قائلاً: “إنني أغفر لكم. وهذه هي رغبتي الأخيرة: أن يغفر لكم الله أيضاً ويبارككم” !

arArabic
انتقل إلى أعلى