كلمات المسيح السبع على الصليب

أيقونة الصلب

 

الكلمة الثالثة: “هوذا أبنك… هوذا أمك” (يوحنا 19: 26-27)

“فلما رأى يسوع أمه، والتلميذ الذي كان يحبه واقفاً، قل لامه: يا امرأة، هوذا ابنك. ثم قال للتلميذ: هوذا أمك. ومن تلك الساعة أخذها التلميذ إلى خاصته”(يو26:19 و27).

بتلك الكلمة أظهر الرب اهتمامه الحاني بوالدته القديسة حيث إن احتياجاتها الأساسية ستظهر بعد موته، وهكذا أستودعها لعناية تلميذه المحبوب المُخلص يوحنا. وهذا دليل على اهتمامه غير المنقطع بجميع احتياجات مختاريه اليومية. فهو الراعي الصالح الذي بذل حياته لأجل غنماته، فحبه يحتضن ويشمل الجميع. وهو يريدنا أن نهتم بالاحتياجات اليومية لأولاده ابتداء-بالطبع- من أهل بيتنا.

كانت كلمة الرب الأولى على الصليب لأجل أعدائه، والثانية لأجل الخطاة الذين يمثلهم اللص اليمين، وهذه الثالثة لأجل القديسين. والمغبوط أغسطينوس يعتبر أن هذه هي “الساعة” التي نوهّ عنها الرب في عرس قانا الجليل، فيقول:

هذه بالطبع هي تلك الساعة التي قال عنها الرب يسوع لوالدته قبل أن يُحّول الماء إلى خمر: “ما لي ولك يا امرأة، لم تأت ساعتي بعد” (يو 2: 4). وهكذا تنبأ عن الساعة التي كان عليه -وهو على وشك الموت- أن يعترف فيها بفضل تلك التي وُلد منها جسدياً. فعندما كان على وشك أن يبدأ في انجاز أعماله الإلهية تصرف وكأنه صدّ أمه، وهو لم يفعل ذلك، أما الآن وهو يقاسي آلاماً بشرية فهو بعاطفة بشرية يستودع التي صار منها إنساناً. لأنه كان في قانا عرّف نفسه بواسطة قوته، أما الآن فإن الذي ولدته مريم كان معلقاً على الصليب. فالمعلم الصالح يلقّن تلاميذه بقدوته أن الأبناء ينبغي أن يعتنوا بوالديهم، وكأن خشبة الصليب هي منيرة. ولعل من هنا جاء تعليم الرسول بولس: ” إن كان أحد لا يعتني بخاصته، ولا سيما أهل بيته، فقد أنكر الايمان، وهو شر من غير المؤمن” (1تي 8:5).

ويحثنا القديس كيرلس الكبير على إكرام الوالدين بقوله:

تفكّر الرب في أمه غير مبال بمعاناة آلامه المرّة، وجعلها تحت عناية التلميذ المحبوب وأوصاه أن يأخذها إلى بيته ويعتبرها أمه. وأشار عليها أن تعتبره ابنها الحقيقي، هذا الذي يحبه الحاني يحل مكان ابنها الطبيعي. ولكن البعض يظن أن المسيح فعل ذلك مدفوعاً بعاطفة جسدية… ولكن ما هو غرضه الصالح من ذلك؟ أولاً: إنه أراد أن يثبت وصية الناموس: “أكرم أباك وأمك”(خر12:20)، فمن اللائق أن يتمم المخلص تلك الوصية لأن فيه يكمن كمال كل فضيلة، وهو المثل الأعلى للجميع. وثانياً: أليس من الصواب أن يفكر الرب في والدته عندما حلّت بها هذه الشدة والاضطراب؟ فهو حقاً إلهنا ويعلم خفيات القلب حيث إن صلبه قد ألقى بها تلك المحنة المؤلمة. ولذلك فقد أستودعها لهذا التلميذ الذي أمكنه (هو الوحيد) أن يوضح ذلك في إنجيله، ولكي يحقق مشيئة الله أخذها بفرح إلى بيته.

في عرس قانا الجليل قال الرب للقديسة والدته: “لم تأتِ ساعتي بعد”، أما الآن فقد حانت ساعة إتمام تدبيره الخلاصي، وهي ساعة الموت والوداع التي سيختفي فيها الابن الوحيد لتلك الأم التي نطقت بتلك النبوّة: “هوذا منذ ألان جميع الأجيال تطوبني” (لو48:1)، لأنها عانت ليس من موت وحيدها فحسب، بل أيضاً من رؤيتها لعذاب أبنها وفاديها.

وكلمة “امرأة” هي التي ذكرها الله عندما وعد أن نسلها سيسحق رأس الحيّة أي الشيطان: “أضع عداوة بينك وبين المرأة وبين نسلك ونسلها. هو يسحق رأسك وأنت تسحقين عقبه” (تك15:3). والرب يسوع هو”نسل المرأة” التي هي القديسة العذراء، وها هو يسحق رأس الشيطان بصليبه وقيامته، مع العلم بأن رأس الحية هي أخطر أعضاء جسمها المستعد للهجوم القاتل. وأنت “تسحقين عقبه” تشير ألى آلام الرب وموته. ولان المسيح هو آدم الثاني فيمكننا اعتبار أن “العذراء” هي حواء الثانية. ولأن العذراء رمز الكنيسة، فاهتمام الرب بها يشير إلى إتحاده بالكنيسة الذي ينتج عنه ولادة شعب إسرائيل الجديد الذي كتب عنه: “أما أنتم فجنس مختار، وكهنوت ملوكي”، أمة مقدسة، شعب اقتناء، لكي تخيروا بفضائل الذي دعاكم من الظلمة إلى نوره العجيب” (1 بط 9:2). ومن أجل هذا الجنس المختار ها هو الرب يحقق وعده للبشرية، فبينما يسحق الشيطان عقبه على الصليب، يسحق هو رأس الشيطان لأجلنا.

وقد رافقت العذراء عند الصليب ثلاث نساء مخلصات للرب (مر 40:15، يو 25:19). أما الرسل فقد تشجع واحد منهم فقط ورافق الرب حتى الصليب، أما النساء فتشجعن منهن أربعة مما جعل القديس يوحنا ذهبي الفم ينتبه ويقول: “أثبتت النساء-الجنس الأضعف-على الجلجلة أنهن أشجع وأقوى من الرجال”. لان الذين تبعوا الرب حتى الصليب كان يمكن أن يقبض عليهم ويحاكموا باعتبارهم أتباع المحكوم عليه.

لم تعد هناك حاجة لأمومة العذراء للرب، بل تغيرت مهمتها وصارت الآن أماً لابن آخر، كما أن الرسول يوحنا أصبح عليه أن يضطلع بالمهمة التي تركها الرب يسوع أي الاعتناء بوالدته القديسة التي تقدمت في العمر، حيث كان الصدّيق يوسف النجار قد فارق الجسد. فضلاً عن أن تكليف الرب ليوحنا الحبيب بالاعتناء بوالدته يؤكد أنها لم تنجب أحد بعده إذ طلت دائمة البتولية.

ويقول القديس يوحنا ذهبي الفم في ذلك:

أية كرامة منحها الرب للرسول يوحنا إذ استودع والدته القديسة لهذا التلميذ! كان لابد أن تحزن وتتطلب الحماية، ولذلك فقد أستأمن تلميذه المحبوب عليها إذ ربطهما معاً بالمحبة التي لما أدركها التلميذ “أخذها إلى خاصته” (يو 27:19). ولكن لماذا لم يذكر الرب أية امرأة أخرى من الواقفات؟ لكي يعلمنا أن نولي عناية أعظم بأمهاتنا. فان كنا عندما يقاومنا والدونا في الأمور الروحية لا نقر بسيطرتهم علينا، هكذا عندما لا يعوّقوننا، فعلينا أن نوليهم الاحترام اللائق ونفضلهم قبل غيرهم لأنهم أنجبونا واهتموا بتربيتنا وتحملوا ربوات من الشدائد لأجلنا.

arArabic
انتقل إلى أعلى