كلمات المسيح السبع على الصليب

أيقونة الصلب

 

الكلمة الرابعة: “إلهي إلهي لماذا تركتني” ؟ (متى 27: 46)

“ومن الساعة السادسة كانت ظلمة على كل الأرض إلى الساعة التاسعة. ونحو الساعة التاسعة صرخ يسوع بصوت عظيم قائلاً: إيلي إيلي، لما شبقتني. أي الهي الهي لماذا تركتني؟” (مت 45:27 و46)

هذه الظلمة تدل على أمرين: الأول: حزن الخليقة كلها على افتراء الإنسان على خالقها ورفض حبه وتبعيته، والثاني: تخلي الأب عن الابن لانه حمل خطايا البشرية: “حمل هو بنفسه خطايانا في جسده على الخشبة”(1بط 24:2).

ويرى القديس يوحنا ذهبي الفم أن هذه الكلمة الرابعة تدل على إكرام المسيح للأب وعلى شهادته للعهد القديم فيقول:

قال الرب ذلك حتى تعلموا انه حتى آخر نسمة يُكرِم أباه وانه ليس عدوّاً لله. كما انه نطق بصرخة محددة من (أقوال) النبي (داود) (مز1:22) شاهداً بذلك للعهد القديم، بل وباللغة العبرانية أيضاً، لكي يكون واضحاً ومفهوماً لهم، وهو يُظهر بكل ذلك أن له فكراً واحداً مع إلاب الذي ولده (منذ الأزل). ولكن لاحظ هنا استهتارهم وعبثهم وحماقتهم، فقد ظنوا يُنادي إيليا كما قيل (ولعل ذلك لانهم كانوا يتكلمون الآرامية)، وللحال أعطوه خلاً ليشرب، بل إن واحداً آخر طعنه بحربة! ماذا يمكن أن يكون اكثر جموحاً ووحشية من هؤلاء الناس الذين امتدّ جنونهم إلى هذه الدرجة حتى أهانوا أخيراً جسداً يموت! ولكن لاحظ أيضاً كيف أنه استخدم آثامهم لخلاصنا، لانه بعد هذه الضربة تفجرت منه ينابيع خلاصنا.

واضح أن الرب يسوع على الصليب كان منبوذاً من رؤساء شعب إسرائيل، ولكن كيف يمكننا أن نفهم انه صار منبوذاً من الله وأنّ الأب قد تركه؟ لقد ارتبك المسيحيون على مدى الأجيال بل فزعوا من صرخة المصلوب هذه التي قد توحي باليأس، فهل فقد المصلوب صلته بالأب ولو إلى لحظة واحدة؟! هذا التفسير يبدو متعارضاً مع كونه ابن الله الذي قال: “أنا والأب واحد”(يو10: 30)! ولكن فلنعلم أن الرب يسوع لم يكن في أي وقت أقرب إلينا مما هو في هذه الصرخة التي لإنسان مهجور منبوذ! بينما كان هو غير منفصل عن الأب: “لاهوته لم يُفارق ناسوته لحظة واحدة ولا طرفة عين” (القداس الإلهي-الاعتراف).

هذه الصرخة سبق أن أستهل بها داود النبي المزمور22 حيث نطق الروح القدس بها على فمه ليس كتعبير عن ضيقته هو فحسب، بل كنبوّة تحققت على الصليب. ولكن المخلّص عبّر بها عن شعور كل إنسان عندما ينفصل عن الله بسبب الخطيئة التي تجعله يتغرّب عن الله فلا يمكنه أن يشعر بحضرته، ولكنه في هذه الحالة ينبغي أن لا يفقد ثقته في الله بل يظل يدعوه” الهي”. النفس التي تيأس لا تصرخ إلى الله، ولكن الرب صرخ! وحتى عندما نزل إلى جحيم فهو لم ينفصل عن الأب، بل كان ذلك لكي يموت من اجلنا أي يحملنا نحن الخطاة حقاً في جسده! ويرى المغبوط أغسطينوس أن آية هذا المزمور هي صرخة الإنسان العتيق على الصليب، فيقول: “إن ذاك الذي صلّى هكذا وهو مُسمّر على الصليب هو في الحقيقة إنساننا العتيق الذي لا يعرف حتى لماذا تركه الله”. وهو ما ذكره الرسول بولس: “عالمين هذا: أن إنساننا العتيق قد صُلب معه ليُبطل جسد الخطيئة” (رو 6: 6). والنصرة بعد ذلك لا بد آتية، فقد أكمل داود النبي بما يوحي بالقيامة فبقول: “عليك اتكأ آباؤنا، إليك صرخوا فنجوا. عليك اتكلوا فلم يخزوا”(مزمور 4:22 و5). وبهذه الثقة صرخ مخلصنا أخيراً: “يا أبتاه في يديك أستودع روحي” (لو46:23)! وهي أيضاً آية مزمور (5:31).

والعلاّمة ترتليان يعبر أن هذه صرخة الإنسان نحو الله فيقول:

“كان هذا صوت جسد ونفس، أي إنسان، وليس الكلمة والروح، أي الله. وقد نُطقت هذه الكلمة بشرياً لتثبت عدم قابلية الله للتألم، وقد تخلى عن ابنه بل بذله لاجلنا أجمعين” (رو 32:8). وقد أدرك ذلك اشعياء النبي قبله فنطق بما يوحي بذلك: “نحن حسبناه مُصاباً، مضروباً من الله ومذلولاً… والرب أسلمه لاجل خطايانا…أما الرب فسُر بأن يسحقه بالحزن إن جعل نفسه ذبيحة إثم (اش 4:53-10 حسب السبعينية). فهو “تركه” بمعنى أنه لم يشفق عليه بل سلّمه (للألم). وفي جميع النواحي الأخرى، لم يتخل الأب عن الابن لانه في النهاية استودع روحه في يدي أبيه (لو 46:23)”.

معروف أن الله “جعل الذي لم يعرف خطيّة، خطيّة لاجلنا، لنصير نحن برّ الله فيه” (2كو 21:5)، وان الله نور: “وأية شركة للنور مع الظلمة”(2 كو 14:6)، وأن المسيح لبس طبيعتنا البشرية، ورضي أن يحمل خطايا البشرية كلها لكي يُعاقب عليها باسمنا، إشفاقاً منه علينا من الانفصال الأبدي عن الله وعذاب الجحيم الأبدي. ولذلك كان لا بد أن يتخلى عنه الأب أثناء حمله لتلك الخطايا التي لا تحصى لانه لا يطيق الخطيّة. إذن، فقوله للأب: “لماذا تركتني” ؟ تعني أن الأب تخلى عنه باعتباره الكلمة المتجسد حتى يتحمل بالكامل عقوبتنا ونحن فيه وهو حاملنا في جسده، وهذا هو معنى الفداء.

لقد اجتاز الرب أسوأ موقف في الوجود على الإطلاق، وبقوة لاهوته المطلق حوّل الجلجثة إلى افضل موقف في الوجود وهو خلاص البشرية. كما انه علّمنا بصرخة هذه الكلمة الرابعة عما يجب أن نفعل في ابشع ضيقاتنا: أن نصرخ إلى الله من أعماق قلوبنا ونشرح له احتياجنا إليه وهو بالتأكيد لن يحجب وجهه عنا، حيث إن تخلّي الأب المؤقت عن الابن ثم إقامته له في اليوم الثالث يمنحنا يقين حضرته ومعييته غير المنقطعة لنا: “إن الله بالحقيقة فيكم”(1كو25:14).

ولكن هل انطلقت هذه الصرخة من ضعف المخلّص أو إرتعابه من الموت؟ يقول القديس أثناسيوس: [قول الرب: “لماذا تركتني”؟ ذكرها الإنجيليون رغم أن الكلمة الإلهي غير قابل للألم. فطالما أن الرب صار إنساناً، وان هذه الأمور حدثت وقيلت كما من إنسان، فان هذه الكلمة قيلت لكي يخفف هو نفسه من هذه الآلام عن الجسد ويُحرره منه…ولا يحق لأحد أن يقول إن الرب كان مرتعباً، وهو الذي يرتعب منه بوّابو الجحيم (اي 17:38 حسب السبعينية)، و”القبور تفتحت وقام كثيرٌ من أجساد القديسين الراقدين… وظهروا لكثيرين” (مت 52:27 و53)… وهو الذي يهرب منه الموت كالحية والشياطين ترتعب منه، وهو الذي انشقت من اجله السموات واهتزت جميع القوات. لانه عندما قال: “لماذا تركتني” عرفت الأرض ربها الذي تكلم، وفي الحال تزلزلت وانشق الحجاب وتوارت الشمس وتشققت الصخور. والعجيب أن الحاضرين من الذين كانوا قد أنكروه عندما رأوا هذه كلها، اعترفوا انه “حقاً كان هذا ابن الله” (مت 54:27)].

وهكذا كانت هذه الصرخة: “الهي الهي لماذا تركتني”، سبباً في هياج الطبيعة ودخول الخليقة الجديدة إلى العالم، والتي لا يمكن أن تنفصل عن الله أو يتركها الله.

الله لا يتخلى عنا قط، فهو يبدو لنا كذلك. لقد تخلى الأب عن الابن المتجسد- أو بالحري عن إنساننا العتيق المصلوب معه وفيه- مرة واحدة. ولذلك فليست لنا حاجة بعد أن نصرخ بنفس هذه الكلمات، فقد حمل المسيح عنا ذلك وصرنا نحن في يقين أننا لن نُقاسي من التخلية فيما بعد، لان الرب بعد تحملها عنا أعد لنا القيامة! “ها أنا معكم كل الأيام، إلى انقضاء الدهر. آمين” (مت 20:28).

arArabic
انتقل إلى أعلى