كلمات المسيح السبع على الصليب

أيقونة الصلب

 

الكلمة الخامسة: “أنا عطشان” (يوحنا 19: 28)

“بعد هذا رأى يسوع أن كل شيء قد كمّل، فلكي يتم الكتاب قال: “أنا عطشان”. وكان أناء موضوعاً مملوءً خلاً، فملئوا اسفنجة من الخل، ووضعوها على زوفا وقدموها إلى فمه”(يو 28:19 و29).

ذاك الذي قال للسامرية: “من يشرب من الماء الذي أعطيه أنا فلن يعطش إلى الأبد” (يو14:4)، خالق الماء احتاج إلى الماء، وها هو يتوسل إلى أعدائه ليروي عطشه! في وسط الأرض كلها وفي خضم تاريخ البشرية الطويل ونّت صرخة معاناة مخلصنا على الصليب: “أنا عطشان”، وكانت هي صرخة الآمه الجسدية الوحيدة على مدى ساعات الصلب. وكان ذلك رد فعل جسدي طبيعي، فقد فَقد الرب كمية كبيرة من دمه في الجلد والصلب، وهكذا جف جسد الرب وتلوثت جروحه وتبددت قوته بحمى عنيفة وجف لسانه وحلقه، وكل ذلك بسبب مدة الصلب الطويلة كما سبق أن تنبأ المرتل: “يبست مثل شقفةٍ قوتي، ولصق لساني بحنكي”(مز15:22)

وقد عبّر القديس كيرلس الكبير عن هذه المعاني بقوله:

…الألم كفيل بأن يثير العطش، إذ انه يبدد رطوبة الجسد الطبيعية الداخلية المفرطة، ويلهب الأعضاء الداخلية بالوخزات المبّرحة. ولقد كان من السهل على كلمة الله العلي أن يُحرر جسده من هذا العذاب، ولكنه كما اخذ على عاتقه الآلام الأخرى بإرادته، هكذا تحملها أيضا بإرادته، حينئذ طلب أن يشرب، ولكنهم كانوا مجرّدين من الرحمة وابعد ما يكونون عن محبة الله، حتى انهم بدلاً من أن يعطوه ما يطفئ عطشه أعطوه ما يزيده شدة، ومقابل خدمة الحب عينها ارتكبوا عملاً اكثر نفاقاً… ولكن يستحيل أن يكذب الكتاب الملهم الذي وضع في فم المخلص كلمات داود النبي: “ويجعلون في طعامي علقماً، وفي عطشي يسقونني خلاً” (مز21:69).

ينبوع الماء الحي”تركوني أنا ينبوع المياه الحية” (ار 13:2) الذي اخرج الماء من الصخرة لشعبه في القديم، خالق الماء والحياة، يصير إنسانا بهذه الدرجة من الضعف حتى يعطش مثل خليقته! ولكن-كما يقول المغبوط اغسطينوس- عطش الرب على الصليب لم يكن عطشاً جسدياً فحسب، بل كان أيضا عطشاً إلى خلاص البشرية. لقد عطش لاجل المؤمنين لكي تفيض أجسادهم اليابسة بالماء الحي: “إن عطش أحد فليقبل إليّ ويشرب. من آمن بي، كما قال الكتاب، تجري من بطنه انهار ماء حي. قال هذا عن الروح الذي كان المؤمنون به مُزمعين أن يقبلوه”(يو37:7-39). فهو يدعونا باستمرار قائلاً: “أنا أُعطي العطشان من ينبوع ماء الحياة مجاناً(رؤ6:21).

” أنا عطشان”: هي صرخة إنسان يموت طالباً الماء، ولكنها أيضا كانت صرخة عطش إلى الله من وراء غيوم الجحود البشري وشر الإنسان. لقد كانت صرخة من يتوق إلى اليوم العظيم الذي يمكنه أن يقول فيه: “أنى ذاهب إلى أبي لأنني أنجزت عملي، آتياً معي بالبشر الذين فديتهم وقدّستهم ومجّدتهم”! وهذه الصرخة تعني أن جسد مخلصنا لم يكن خيالاً كما ظن البعض مثل أصحاب بدعة الدوسيتية ومن بعدهم المبتدع أوطاخي، بل إنه اخذ طبيعتنا البشرية كما هي بلا نقصان، وهذا أمر منطقي لكي يخلّص طبيعتنا البشرية كما هي.

كان في أورشليم في ذلك الوقت طائفة من النساء المُحبات للخير ممن كُنّ يقدمن للمحكوم عليهم بالصلب خمراً من النوع المخدّر قليلاً. وقد قُدّم للرب يسوع من هذا الخمر قبل الصليب، ولكنه رفضه حتى لا يعتفي من أي جزء من آلمه الخلاصية. ولكنه عندما قال إنه عطشان، قدّموا له خلاً أو خمراً رديئاً مما يستعمله الجنود، وبهذا تتم نبوّة النبي. والزوفا هو نبات”الزعتر” العطري الرائحة الذي يُبرّد الفم ويروي اكثر من الماء، ولذلك ظنوا انه يخفف من آلام المسيح على الصليب وهو يُستخدم في حزم صغيرة يمكن أن تُبلل بالسوائل. ورغم أن الرب عطش إلا أننا منه استقينا ولا زلنا نستقي “مياهاً بفرح من ينابيع الخلاص” (اش 3:12)، لانه هو الصرخة التي ارتوى منها شعبه في القديم (1 كو 4:10). وعندما طُعن المخلص خرج من جنبه الخلاص الحقيقي للبشرية: ماء لتعميدنا، ودم لتطهيرنا! حقاً لقد ذاق إلهنا أبشع أنواع العطش وهو على صليب خلاصنا، وهكذا “افتقر وهو غني لكي تستغنوا أنتم بفقره” (2كو 9:8).

عطش إلى العطاء:

كان عطش الرب ليس إلى اخذ الماء فحسب، بل أيضا إلى أن يعطينا حبه! انه لا يزال متعطشاً أن يعطينا ملكوته: “أيها الأب، أريد أن هؤلاء الذين أعطيتني يكونون معي حيث أكون أنا لينظروا مجدي الذي أعطيتني”(يو 24:17). إنه يعطش لكي يعطينا ماء الحياة. “الله يعطش لكيما يعطش إليه شعبه”! هكذا يقول القديس غريغوريوس النزينزي. فإن لم نعطش إلى الله كما عطش الرب يسوع لاجلنا فلن نجده، وما اجمل قول المرتل: “كما يشتاق الأيّل إلى جداول المياه هكذا تشتاق نفسي إليك يا الله. عطشت نفسي إلى الله، إلى الإله الحي” (مز 1:42 و2)! والقديس مار اسحق السرياني يقول: “اعطش إلى المسيح لكيما يُسكرك حتى الثمالة بحبه”! أما الذين يحفرون لانفسهم في الدينويات آباراً مشققة لا تضبط ماءً، فان جميع أمور العالم لا تروي عطشهم، لان العطش الحقيقي هو إلى الله!

الذين يقرءون كلمة الله أو يسمعون الوعظ، إن لم يوجد ذلك العطش في نفوسهم فباطلٌ هو كل ما يقرءونه أو يسمعونه، والروح القدس هو الوحيد الذي يمكنه أن يخلق فينا هذا العطش، ومن يعوزه ذلك فليطلب من الله الذي يُعطي بسخاء. والواعظ الناجح هو الذي يُصلي لكي يعطش سامعوه إلى الله.

كما أن الرب لا يزال عطشاناً إلى خلاصنا، لانه حاضر سراً في كل محتاج إلى معونة ويصرخ فيهم دائماً: أنا عطشان!

كانت آخر كلمات سجلها الرب يسوع في رؤيا يوحنا اللاهوتي هي: “من يعطش فليأت. ومن يُرد فليأخذ ماء حياة مجاناً (رؤ 17:22). ولا تزال هذه الدعوة موجّهة لجميع المسافرين في برية خطايا هذا العالم حيث الآبار المشققة التي لا تضبط ماء، لكي يُقدم لهم المسيح ماء الحياة الذي لا ينضب معينه، والذين يقبلون المسيح يقول عنهم القديس يوحنا الرائي: “لن يجوعوا بعد، ولن يعطشوا بعد، ولا تقع عليهم الشمس ولا شيء من الحر، لان الخروف الذي في وسط العرش يرعاهم، ويقتادهم إلى ينابيع ماء حيّة ويمسح الله كل دمعة من عيونهم”(رؤ16:7و17). نعم يا رب، فكما عطشت لأجلي على الصليب، هكذا أنا عطشان إليك !

arArabic
انتقل إلى أعلى