إن كمال الحياة المسيحية هو التمثّل بالمسيح. وبالتأكيد، في الحديث عن التمثّل لا نعني الانسجام الخارجي مع حياة المسيح الأرضية، بل الاشتراك في قوى المسيح، المشاركة والاتحاد معه. القديس غريغوريوس النيصصي، محللاً ماهيّة الكمال، يقول أنّنا مُطالَبون بتمييز أنفسنا في حياتنا بواسطة أسماء المسيح. ينبغي بنا تلخيص هذه الفكرة من عند القديس غريغوريوس النيصصي لأنها معبّرة إلى حد بعيد.
اتّخذ الشخص الثاني من الثالوث الإلهي اسم المسيح عند تجسّده. وكوننا مدعوين مسيحيين، هو يمنحنا أن نشترك في اسمه الموقّر من خلال المحبة والإحسان اللذين يظهرهما للجنس البشري. وهكذا، بالرغم من أنّ لكل منّا ميّزات مختلفة، كالثراء والغنى والنبل والشرف والفقر والشهرة والمسؤولية وغيرها، إلاّ إن الكلّ يُسمّون مسيحيين. فقبل كل شيء نحن مدعوون مسيحيين، وقد أُعطينا هذه الهبة العظيم بأن نتّخذ اسم المسيح. علينا أولاً أن نعترف بعظمة الهبة التي حصلنا عليها وأن نشكر الله، ومن ثمّ نظهر بحياتنا أننا على المستوى الذي يطلبه منّا هذا الاسم العظيم.
وللمسيح، كما ذكرنا سابقاً، أسماء عديدة. لكن بما أنّه قد بارك تسميتنا مسيحيين فعلينا أنّ نحقق وجود كل هذه الأسماء في ذواتنا التي تفسّر هذا الاسم، حتى لا يكون اسم المسيح مستعاراً. فعلى الإنسان أن يكون رجلاً ومن ثمّ يتقبّل تسمية طبيعته. إذا وجدنا اسم الإنسان على شجرة أو صخرة، فهذا لن يجعلها إنساناً. شيء واحد يشابه الإنسان، كتمثال له، وهو الإنسان. الطبيعة البشرية وحدها هي ما يظهر التسمية الحقيقية. لهذا كلّ الذين يسمّون أنفسهم باسم المسيح، أي مسيحيين، عليهم أولاً أن يكونوا ما يتطلبه هذا الاسم ومن ثمّ فليتّخذوا الاسم. ينبغي أن تلمع في حياة المسيحي كل الأسماء التي تعبّر وتفسّر معنى اسمه: القوة، الحكمة، السلام، الافتداء وغيرها…
يوجد بعض الذين يخلقون مسوخاً بجمعهم كائن واحد من عناصر مختلفة متغايرة الخواص، كمثل المسخ ذي الرأسين والرجل الحصان وغيرها. كذلك الإنسان لا يمكن أن يُسمّى مسيحياً إذا كان جيّداً في كل شيء إلا أنّه ذو رأس غير عاقل لأنّه لا يضع إيمانه في رؤوس الجميع أي الكلمة. كذلك ليس مسيحياً مَن لا يتلاءم جسده مع رأسه إذ يؤمن بالمسيح لكنّه يعكس في جسده غضب التنانين وغيظ الزواحف، أو يضمّ إلى الطبيعة البشرية شهوانية غير عقلانية، وهكذا يصبح مزدوج التركيب، أي من عناصر عاقلة وأخرى غير عاقلة. المسيح هو عضو في جسد المسيح وعليه أن يماثل الرأس، الذي هو المسيح، ويكون مرتبطاً به. ولكي يُعرَف الإنسان أنّه مسيحي، يجب أن توسَم طريقة حياته بميزات الفضائل المعروفة باسم المسيح. لهذا، فالذين دعاهم المسيح إلى الشركة معه وقبلوا هذه العطية العظيمة بقبول اسمه وأن يُسَمّوا مسيحيين، عليهم دائماً أن يفحصوا أفكارهم وأقوالهم وأفعالهم، ليروا إذا كانوا مرتبطين بالمسيح أو متغرّبين عنه. يختم القديس غريغوريوس النيصصي بقوله أنّ كمال الحياة المسيحية يكمن في الشخص الذي يشترك في كل الأمور التي يعنيها اسم المسيح بروحه وأقواله وأفعاله في حياته.
ليست الطبيعة المسيحية مجرّد عطية من النعمة بل هي أيضاً جهاد نسكي. على الأكيد، المسيح أعطانا هذه الهبة لكن علينا أن نكون على مستواها. كل الذين ينضمّون إلى المسيح يصبحون مسحاء الرب، أي مسيحيين حقيقيين. المسيح هو حكمة الله الحقيقية والمتجسدة. بتجسده، وتضحيته على الصليب وقيامته أعطى كل إنسان إمكانية الاتّحاد به وبلوغ الحكمة الروحية. بحسب الرسول يعقوب أخي الرب، هناك حكمتان: “الحكمة التي من العلاء”، الطاهرة السلامية اللطيفة، الراغبة في العطاء، المملوءة من الرحمة والثمار الصالحة، التي بلا محاباة ولا رياء. أمّا الحكمة الثانية فهي الأرضية الحسية والشيطانية (يعقوب 15:3-18). هاتان الحكمتان يحللهما أيضاً القديس غريغوريوس بالاماس في أعماله، لأنها تظهر اختلاف اللاهوت عن الفلسفة والمعرفة التي يمنحها الله من خلال المعرفة البشرية المخلوقة.
بحسب القديس غريغوريوس اللاهوتي، الحكمة هي ثمرة الحياة الفاضلة المتطهرة أمام الله. الله أكثر طهارة وصفاءً، وهو يطلب الطهارة كتضحية فريدة. إذاً الحكمة الأولى هي في تخطي الحكمة التي في المنطق، وأقوال حدة الذهن، والفروقات الخدّاعة غير الضرورية. يقول القديس غريغوريوس اللاهوتي أنّه يفضّل حكمة التلاميذ المتواضعين الذين أخذوا الروح القدس وأسروا العالم ضد حكمة حكماء العالم. فمَن يكون حكيماً بالأقوال وذا لسان بليغ فيما نفسه غير مستقرة وغير مثقّفة، فهو ليس حكيماً، بل مثل القبور الجميلة من الخارج فيما هي مملوءة بأجساد الموتى. الحكيم هو الذي يتحدث عن الفضيلة لكنّه يقوم أيضاً بأعمال كثيرة ويثبّت بحياته جدارة كلمته بالاعتماد.
ينبغي أن نكون أصحاب ميل للامتلاء من الحكمة بحكمة الله المتجسد أي المسيح.
Arabization of Father Antoine Melki
نقلاً عن: مجلة التراث الأرثوذكسي