المسيح كلمة الله

القديس يوحنا هو الإنجيلي الوحيد الذي يذكر أن المسيح هو “كلمة الله”، وذلك في إنجيله وفي رسالته الاولى وفي رؤياه. كما يكشف القديس نفسه أن المسيح اسمه “كلمة الله”: “وعليه ثوب مصبوغ واسمه كلمة الله” (رؤيا 19: 12)، وهذا اللقب ينفرد به المسيح فليس ثمة شخص آخر اسمه “كلمة الله”.

يفتتح يوحنا بشارته بإعلان هو قمة في اللاهوت: “في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله” (1: 1). لقد اصطلحت كل الترجمات العربية للعهد الجديد على استعمال لفظ “كلمة” كتعريب للفظ “لوغوس” اليوناني. واللوغوس يعني عند بعض الفلاسفة اليونانيين المبدأ الإلهي والفاعل في العالم والسبب الهام والضروري لوجوده. أراد يوحنا من خلال استعماله لهذا اللفظ الإشارة الى أن المسيح إله وذو قدرة وفعل وهو الذي صنع الخليقة بأسرها. تجدر الإشارة الى أن تذكير الاسم في (1: 1) -باللغة العربية-، بينما كان يجب تأنيثه لغة، فعائد الى أن الكائن الذي اسمه الكلمة ظهر في التاريخ رجلا.

“البدء” في إنجيل يوحنا يختلف عن “البدء” الوارد ذكره في مدخل سفر التكوين من حيث حدوثه في الزمن. فالبدء في سفر التكوين (1: 1) يشير الى خلق الله السموات والارض في وقت معيّن منه يبدأ الزمن، بينما البدء في انجيل يوحنا بدء غير زمني، فيقول القديس كيرلس الاسكندري (+444) في تفسيره لإنجيل يوحنا: “حاشا أن يكون البدء بدءا في الزمن”. ويذهب القديس كيرلس الى القول ايضا بأن المقصود بلفظ “البدء” هنا هو الآب مبدأ كلّ شيء، لهذا يصبح معنى الآية عنده: “في الآب كان الكلمة”.

أما فعل “كان” الوارد في يوحنا (1:1) فهو يشير كما يؤكد القديس يوحنا الذهبي الفم (+407) في شرحه لإنجيل يوحنا الى أن “الكلمة أزلي” بحيث لم يكن وقت لم يكن فيه الكلمة موجوداً. ويقابل كيرلس بين هذه الآية والآية الواردة في سفر الرؤيا: “انا الألف والياء البداءة والنهاية يقول الرب الإله الكائن والذي كان والذي سيأتي القدير” (1: 8)، ليقول أن هذا الفعل يشير الى أزليته فهو الكائن ابدا.

لا شكّ أن الإنجيلي باستعماله لفظ “الكلمة” يشير ايضا الى قدرة كلمة الله على الخلق والفعل كما هو وارد في سفر التكوين والمزامير وكتب الأنبياء. فالله يقول كن فيكون (الفصلان الأولان من التكوين)، وهو “قال فكان الخلق وأمر فوُجد” (مزامير 33: 9)، وايضا “بكلمة الرب صنُعت السموات وبروح فمه كلّ جنودها” (مزامير 33: 6). اما اشعيا النبي فينقل عن الرب قوله: “كذلك تكون كلمتي التي تخرج من فمي لا ترجع الي فارغة بل تتمّ ما شئت وتنجح فيما أرسلتها له” (اشعيا 55: 11). في العهد القديم اذا تأكيد دائم على قوة كلمة الله وروحه ايضا وقدرتهما على الفعل والخلق، وهذا ما استعاده القديس إيريناوس (+202) عندما قال إن الله خلق كل شيء بيديه اي بالكلمة والروح.

ثم يعلن يوحنا في الآية ذاتها: “وكان الكلمة عند الله” او “لدى الله” او “نحو الله”، ذلك أن اللفظ اليوناني يحتمل كل هذه الترجمات، ويتابع يوحنا قائلا: “والكلمة كان الله”. يرى القديس كيرلس أن “الإنجيلي لم يقُل فقط إن الكلمة كان لدى الله ولكنه أكد أنه هو نفسه الله، لكي يُظهر أنه اذا كان الكلمة لدى الله فإن الكلمة كائن آخر وهو في جوهر واحد مع الآب ومولود منه”. اما الذهبي الفم فيؤكد أن الرسول بقوله هذا إنما يؤكد “أزلية الكلمة”. كما ساهمت هذه الآية بدعم آباء القرن الرابع المدافعين عن الإيمان الارثوذكسي في تصدّيهم للبدعة الآريوسية القائلة بأن ابن الله مخلوق، ذلك أن هؤلاء الآباء قالوا إن تعبير “لدى الله” يعني أن ابن الله-الكلمة كائن أمام الله وهو مساوٍ له في الأزلية وفي الجوهر.

بعد هذه الآية الافتتاحية، يشير يوحنا الى أن كل الخليقة تستمد وجودها وحياتها من الكلمة الذي من دونه لم تكن حياة ولا وجود: “كل به كوّن وبغيره لم يكن شيء مما كوّن. فيه كانت الحياة والحياة كانت نور الناس” (1 :3-4). هذا الكلمة نفسه الإله الأزلي الكائن مع الله وغير المنفصل عنه هو نفسه اخذ جسدا وصار انسانا تاما وسكن مع البشر: “والكلمة صار جسداً وحلّ فينا وأبصرنا مجده مجد وحيد من الآب مملوءاً نعمة وحقا” (يوحنا 1: 14).

يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: “لا يكتفي الإنجيلي يوحنا بتسمية ابن الله كلمة، بل يسمّيه الكلمة، مع ال التعريف، لكي يميّز بينه وبين كل الكائنات الاخرى”، اي أنه يجعل فرقا بين المسيح-الكلمة والكلمات التي نطق بها الله او أوحى بها، ذلك أن المسيح أسمى من كل كلمة ومن كل وحي آخر. المسيح هو الكلمة (مع ال التعريف) التي أراد الله قولها للبشر والتي على أساسها يخلصون ويصيرون أبناء لله.

عن نشرة رعيتي 1997

arArabic
انتقل إلى أعلى