إذا تأملنا بعمق في الإصحاحات الأولى من سفر التكوين، نجد أن الإنسان جاء إلى الوجود بفعل الحب الإلهي. وفي الوجود هذا، كان كل شيء من أجل الإنسان لا من أجل الله، فالله لا يخضع للضرورة، ولا يحتاج إليها. أما الإنسان فحاجته إلى العالم ماسة، لا بل ضرورية كل الضرورة، فهو لا يمكنه أن يعيش وينمو بدون إطار. والعالم هو إطار تربيتنا ونهوضنا (28).
هذا الكلام يعني أمرين: 1- علينا كخلائق الله، أن نعكس جمالاته في هذا الكون، 2- علينا أن نرتقي بالعالم إلى الله.
بيد أن المسألة لا تنتهي عند هذا الحد، وتحقيقها ليس بالأمر البسيط على الإطلاق، فالله أرادنا أن نحقق ذلك عبر مشاركتنا له في الخلق (29)، فنكون مثله مهندسين مبدعين نهندس الكون ونهندس ذواتنا، ونجّملها. أرادنا الله أن نكون مصدر بركة للكون وهذا بداهة إذا أردنا استمرارنا واستمرار الكون معنا.
وفي مطالعتنا لسفر التكوين، نلاحظ وكأن الخلق الإلهي البديع، لاسيما خلق الإنسان، قد طرأ عليه شيء من تغير وتعديل (30). فالإنسان في الفردوس لم يكن ينجب. إلا أنه بعد الطرد (31) من الجنة التي هي ليست إلا حضرة الله، عرف الإنجاب. ويقول الكتاب: “وعرف آدم حواء امرأته فحبلت وولدت قايين وقالت : اقتنيت (32) رجلاً من عند الرب. ثم عادت فولدت أخاه هاييل …” (تكوين 4: 1).
من الكتاب المقدس نتعلم أن آدم لم يعرف حواء قبل الطرد من الفردوس، لآن هذه المعرفة دخلت حياة الإنسان بعد سقوطه وتفكك وحدة قواه الداخلية وذلك بنتيجة ابتعاده الإرادي عن الله. الجنس بهذا المعنى لم يكن رفيق الوجود منذ أن كنا، ومن الأكيد أنه لن يصاحبنا إلى الحياة الأبدية، وهذا ما يؤكده الرب اذ يقول: “لأنهم في القيامة لا يتزوجون ولا يزوجون بل يكونون كملائكة الله في السماء” (متى 22: 30).
في الحقيقة كتب الكثير عن مواضيع تتصل بآدم وحواء، بالزواج، بالبتولية ومعناها. والأدب المسيحي العام توسّع في الكلام عن الزواج والإنجاب. الآباء القديسون تكلموا عن حياة الإنسان ودعوته منذ أن كان في الفردوس مروراً بالسقوط والموت ودخول المؤسسة الزوجية إلى حياة الإنسان، وبالتالي دخول الإنجاب من أجل البقاء. مثلاً القديس مثوديوس أسقف اولمبوس وضع كتاباً اسمه “الندوة” (33) أو في البتولية. كذلك وضع القديس غريغوريوس النيصصي رسالته الشهيرة “في البتولية” (34). أما النزينزي غريغوريوس، فقد كتب في امتداح البتولية (35). ثم جاء افسافيوس ووضع عدداً من المقالات تحت العنوان نفسه، وكلها محفوظة في اللاتينية (36). كذلك فقد وضع القديس اثناثيوس الكبير كتاباً بنفس العنوان (37). ثم وضع اللاهوتي الفاضل ثيوذورزيسي، وبأسلوب علمي، رائعته “فن البتولية” (38). وما هذا إلا غيض من فيض. ترى عما تدور هذه الكتابات وغيرها؟
يتبين لمن يطالع الأعمال هذه أن الآباء القديسين متفقون على الأمور التالية:
1- بدء تفعيل الإنجاب كان خارج الفردوس.
2- الكتاب المقدس يقدم لنا البتولية كنمط حياة أسمى من الزواج وقد عرفه الإنسان، قبل السقوط.
3- البتولية هي الحالة التي سيكون عليها المرء في الحياة الأبدية (متى 22: 30).
4- الحياة في العالم لا يمكنها أن تتنكر لبتولية القلب حتى ولو دار الكلام على الزواج.
نستنتج من الأدب الآبائي، أن الزواج رغم قدسيته وأسراريته في المسيحية، هو عارض على الحياة، ولا يبقى في الدهر الآتي بشكله القائم الآن وذلك على ما ورد في (متى 22: 30).
كذلك نستنتج أن التزاوج أو التناسل، بدأ بعد السقوط، بعد الطرد من الفردوس. أي أنه لم يكن تزاوج في الفردوس، ولا من أطفال في الفردوس. من هنا القول أن الزواج هو اختراع إلهي على درجة عالية من الحكمة. تالياً، الجنس بدوره هو اختراع إلهي. الله عندما خلقنا جنسيّين من الناحية العضوية، شاء لحكمته التي لا تدرك، أن يجعلنا نضارعه في الخلق. وأرادنا أن ننعم بالحرية الكاملة والاستقلال. ومع ذلك لم يكن من ضرورة للجنس قبل السقوط. إلا أن الله هكذا شاء أن تستمر حياتنا بالتناسل في حال السقوط. فسقوطنا كان أمراً ممكن، وقد حصل. من هنا فكل المسألة الجنسية لا عيب فيها ولا عار، فهي ابتكار إلهي مقدس يندرج في تدبير الله لخلاص الإنسان. وتالياً، كان الزواج نفسه قبل السقوط مجرد إمكانية لم يكن من موجب لتفعيله. كان من الممكن كما يقول القديس باسيليوس أن تكون سيرتنا كسيرة الملائكة الذين لا يزوجون ولا يتزوجون.
وهنا قد يتبادر إلى ذهن البعض وجوب احتقار الزواج الذي لم يكن في الفردوس. لا بل ربما يتساءل هؤلاء أنفسهم عن سبب عدم قيام الحياة الجنسية في الفردوس، لأن ذلك يعني في نظرهم أن هذه المسألة محتقرة في المسيحية، وبالتالي فالموقف المسيحي لا يأخذ بقدسية الزواج لا بل يدعو مداورة إلى احتقار الزواج.
في الواقع، كلام الرب في (متى 22: 30) واضح: ليس من زواج أو تزاوج في السماء فالزواج على الأرض فقط. الزواج مؤسسة قائمة ما دام الإنسان على الأرض. والرب نفسه بارك عرس قانا الجليل، وقد سبق في القديم أن قال: انموا وأكثروا واملأوا الأرض. وبولس الرسول نفسه يعلمنا أن الزواج مقدس والمضجع غير دنس. ومع ذلك فالزواج قبل السقوط كان إمكانية لا أكثر، لأنه بمقدور الله إذا شاء، أن يهبنا الاستمرار لا بالتناسل، بل بطريقة أخرى ربما تكون على غرار تكاثر الملائكة الروحانيين. هذا من جهة، كذلك، فإنه بمقدور الإنسان أن يعيش هذا الوضع الملائكي، فيعف بملء الإرادة عن الزواج، وبالتالي يمكنه بمحض الإرادة، والقناعة التامة الكاملة أن لا يكون أباً لأولاد، فلا يعيش في أسرة وذلك بالتحاقه بدير يترهبن فيه ويعيش الحب الإلهي مع أخوة له يحيون في طاعة الآب الروحي ويتمرسون على الفضائل الإنجيلية ليرتقوا جميعاً إلى ملء قامة المسيح. وهذه الإمكانية رآها بولس الإلهي ركيزة، فقد دعى الذين بشرهم أن يكونوا كما هو (بدون زواج)، ولكن رأى أنه بسبب التحرّق من الأفضل أن يتزوج الإنسان.
في الكتاب الإلهي، كانت حواء كي لا يكون الإنسان وحيداً، وبالتالي كان الزواج كي لا يكون الإنسان أسير عزلة. ما معنى هذا؟
أنا لا أدعو إلى تهميش الجنس، فمضار الكبت وخيمة، لأن من يكبت غرائزه لا ينضج، ومن يرفض الأسرة لمجرد الرغبة في أن يعيش على هواه، لا ينضج. ومن يستعلي على المرأة بحجة أنه عفيف، فهو لا يفهم الإنسان، لا بل في العمق يتنكر لخلق الله، ويرفض سيادة الله على حياته، وهذا أيضاً لا ينضج. وسواء تزوجنا أم لم نتزوج، فنحن سنبقى دائماً في طاعة الله الذي هو الكل في الكل الآن وفي الحياة الأبدية. من هنا فإن الذين يتزوجون، لا يخطئون، والذين يعفّون عن الزواج أيضاً لا يخطئون إذا كانت كل فئة تعرف مستلزمات دعوتها وتدرك قدرتها وتعرف ما تريد حقيقة. فالذين يتزوجون مائتون في يوما ما، والمترهبنون مائتون في يوم ما. الجنس أو التناسل هو وسيلة البقاء mode of propagation لا وسيلة الخلود. الجنس سلاح ضد الفناء، لا طريق إلى الأبدية. والكتاب المقدس يتكلم صراحة عن أناس خصوا أنفسهم من أجل ملكوت الله. أي أن تغييب التناسل، لا يغيّب بالضرورة ملكوت الله، فكم من متزوج يقيم في جهنم. وأيضاً كم من عازب أكلته نيران الشهوة والغرائز.
وهكذا فالجنس قبل الزواج يقوم على احتقار دور الجنس ورسالة الجنس التي حددها الله، وذلك لأن الجنس ليس لعبة أو أداة للتسلية، كما هو واقع الحال اليوم (39). الجنس، مندرج في تدبير الله لخلاص الإنسان. لكن هذا لا يعني أن ربط الجنس بالزواج، أو بالأحرى حصره في إطار الزواج هو دعوة شرعنة الحرية الجنسية في الزواج. الجنس لا يطلق من قمقمه، ولا يعطى له الضوء الأخضر، منا ولا يُعتق من أغلاله حتى في حب مسؤول يعاش في الزواج. وأخطر ما في هذا الزمان إنه رفع الغطاء عن الجنس وجعله على التلفزيون أمام عيون الكبار والصغار. خطأ الزمن المجنسن أنه رفع التابو عن الجنس وكأن الفلتان خدمة للحرية. ترى ماذا يقول المرء إذا سمع مني مرة: أن الحياة الجنسية هي للصغار والكبار؟ من الأكيد أني سأتهم بالغباء. هذا تماماً ما يقال في هذا الجيل الذي يعطي الجنس للكبار والصغار في صف واحد، دون تفريق بين سن وسن ودون مراعاة المدارك والحاجات.
والآن نأتي إلى صعيد آخر: أليس الإنسان، منذ أن كان في الوجود، جنسياً من الوجهة العضوية، وقائماً في الوجود هي هيئة ذكر وأنثى؟ فإذا كان الإنسان جنسياً من الوجهة العضوية، فهو تناسلي بطبيعته (تك 1: 28)، أي أن الإنسان كان ذا طبيعة تناسلية في الفردوس. الإنسان المخلوق على صورة الله ومثاله تناسلي من الوجهة الفيزيولوجية. ولكن كيف يكون هذا الكائن التناسلي على صورة الله؟ أيعقل هكذا كلام أن الله مثالنا وخالقنا ومرجعنا، هو كائن جنسي، لا بل نموذج جنسي (sexual prototype)؟ ولكن أيعقل القول أن الله جنسي لمجرد أن صورته، أي الإنسان، مخلوق جنسي؟ هل في الله ذكورة وأنوثة؟ أيعقل الكلام عن جنسية إلهية؟ وإذا كانت التساؤلات صحيحة، لماذا الجنسية في الله؟ ما جدواها ومبررها؟ هل الله بحاجة إلى الجنس كي يبقى ويستمر؟ (حاشى). وكيف يبقى خالقاً إذا كان فيه حاجة إلى أداة للبقاء survival؟ وإذا كانت الجنسية sexuality من خواص الجوهر الإلهي، كان لا بد أن نقول الله ممكن الوجود (contingent)، لا واجب الوجود necessary. فهو أي الله عندئذ يحتاج إلى الجنس كي يبقى. وهذا يعني أنه لا يمكن أن يسمى إله الآلة ورب الأرباب وملك الملوك. إذاّ كيف نفسر أننا على صورة الله مخلوقون، وأن الله ليس جنسياً مثلنا؟
الجنسية في المخلوق إبداع إلهي مغروس في طبيعتنا من أجل استمرار الحياة في حال أبرمت القطيعة مع الله، طبعاً من جانب الإنسان. أما الله فليس جنسياً لأنه لا يحتاج إلى ذكورة وأنوثة، ولا إلى زواج، كي يبقى. الذكورة والأنوثة، التناسل والإنجاب، الزواج نفسه، هي كلها أمور تنتمي بحكم الحال إلى نطاق المخلوق، لا إلى نطاق الخالق. وهذا يعني أن الجنسية في الإنسان، مضافة إلى الخلق على الصورة الإلهية. إنها مأخوذة من الخلائق العجماء غير العاقلة.
أي أننا على صورة الله لا من جهة الجنس، بل من جهة الكنوز الإلهية المغروسة في آنيتنا الخزفية كما يقول بولس الرسول. الإنسان على صورة الله من جهة مواهب الخير والجمال، لا من جهة التناسل. الجنسية في الإنسان لا تعفيه من الموت، فهي من أجل البقاء، لا شكلاً من أشكلا الخلود: “لأن من لم يولد من الماء والروح لا يدخل ملكوت السموات” (يوحنا 3: 5). الولادة الجسدية لا تكفي كي يولد المرء من فوق. الزواج في حد ذاته لا يشتري بطاقة العبور إلى الحياة الأبدية، وإلا كان يجب على الجميع أن يتزوجوا، الأمر الذي لا يجري على الجميع. كذلك فإن من يترهبن لا يدخل الحياة الأبدية، لمجرد دخوله الدير. الحياة الأبدية ليست حكراً على فئة دون الأخرى.
ليست الحياة الأبدية لمن لم يتزوج، كما وليست لمن يعرف امرأة. المسألة ليست بهذه الطريقة. المسألة نوعية لا وضعية. ونحن عندنا في الكنسية قديسون من العازبين والمتزوجين بآن. المهم أن يكون قلب الإنسان لله أينما وجد، وكيفما كانت حالته، الخلود ليس من ثمار الزواج (40)، ولا هو من ثمار عزوبية جوفاء لا مسؤولية فيها. الخلود من نعم الروح القدس النازلة على القلوب النقية المتعطشة للحياة الأبدية التي في يسوع المسيح الرب، الخالق، والمخلص.
(28) راجع ثيودورزيسي، فن البتولية، ص 21، سالونيكي 1973. (يوناني).
(29) co-workers
(30) التعديل هذا ليس بسبب نقص في المخطط الإلهي، بل يفهم من خلال إرادة الإنسان التي مرضت فضربها العمى و الاسوداد.
(31) الطرد ليس خطوة تعسفية جائرة، بل هو حركة افتقاد ومحبة. وغايته استردادنا إلى الحظيرة الأبوية التي طردنا أنفسنا منها بمحض الإرادة.
(32) لفظة “قايين” تعني قنية، ومنها فعل اقتنى acquire.
(33) Symposium، F. cavallera. “La virgintie de Basile d’angre also: P.G. 12، 9-408.”
(34) On virgintiy
(35) p.G – 37، 522-632
(36) In Latin، Louvain 1953 volume I p: 777-820
(37) p.G. 28، 252-281
(38) The Art of virginity (Greek) Th.Zisi، Thessalonika 1973، the partriachal in statute for patrisitic studies.
(39) يقول سيادة المطران جورج خضر في إحدى عظاته: الإنجاب لعبة للتسلية عند شعوب العالم الثالث.
(40) on th creation of Man، p.G 44. 188 C.
see also Introduction “From glory to glory” by J. Danieloi (S.V.S) N.York 1979.