ما مدى تأثر يوحنا الإنجيلي بالجو الغنوصي في كتابته للإنجيل؟

تناول الكثير من الدارسين مناقشة فكرة تأثر يوحنا الإنجيلي بالغنوصية عند كتابته لإنجيله. وقد وجدت هذه النظرية مؤيدين ومعارضين. ونقاش هذه النظرية ليس بالأمر السهل لأن الغنوصية كما يقول أحدهم “تعبير علمي ليس له تعريف علمي مقبول بشكل واسع”. إنما يمكن أن نلتمس أنماطاً عامة تميّز الغنوصية. مثلاً: الثنائية المزدوجة، وجود كائنات وسيطة بين الله والإنسان، وساطة هؤلاء الكائنات في إحداث البشر والعالم المادي، النفس كشعاع إلهي مسجون في المادة، ضرورة المعرفة المكتسبة بالإلهام (الكشف) لتحرير الروح وقيادتها إلى النور، المحدودية العددية للقادرين على نيل هذا الإلهام، المخلّص صاحب الكشف الإلهي. لا يوجد عنصر واحد من هذه العناصر متَّفقٌ عليه أنه السمة الأساسية للغنوصية.

كلمة الغنوصية مأخوذة من الكلمة اليونانية gnosis التي تعني المعرفة. الغنوصية التي نعرفها من ملاحظات آباء الكنيسة في كتاباتهم هي حركة ظهرت في القرن الثاني بشكل متطور. لهذا بما أن إنجيل يوحنا قد كُتب بي الأعوام 90-100 فإنه لم يتأثر بهذه الغنوصية بالذات. إنما يوجد ميل بين البحّاثين إلى افتراض وجود شكل أبكر من الغنوصية (غنوصية يهودية وما قبل المسيحية).

مقارنة إنجيل يوحنا بالغنوصية المسيحية: في العام 1953 تمَّ اكتشاف مجموعة من الوثائق المسيحية الغنوصية في مصر مكتوبة باللغة القبطية تعود إلى القرن الثاني. من هذه الأعمال الغنوصية “إنجيل الحقيقة” من مدرسة فالانتينوس الغنوصي، و”إنجيل توما”. أظهرت الدراسات المقارنة بين هذين العملين وإنجيل يوحنا أن الفرق كبير جداً بينها وأن التعابير فيها قد اُستعملت بصورة متباينة جداً. وإن كانت توجد علاقة بين غنوصية القرن الثاني وإنجيل يوحنا فإن هذه الغنوصية قد اقتبست تعابير إنجيل يوحنا (وليس العكس) واستعملتها بطريقة غنوصية.

مقارنة إنجيل يوحنا بالغنوصية ما قبل المسيحية: بولتمان هو من أكبر مؤيدي نظرية تأثر يوحنا بالغنوصية. إذ أعاد صياغة الإنجيل ليظهر العناصر الغنوصية الكامنة فيه. افترض بولتمان العناصر الغنوصية التالية: ثنائية النور والظلام، وجود كائنات إلى جانب الله (الملائكة)، وجود الإنسان الأصلي، إنسان النور والصلاح الذي انقسم إلى جزيئات صغيرة من نور هي النفوس البشرية التي زُرعت في عالم الظلام. إن مهمة الشياطين هي أن تجعل هذه النفوس تنسى أصلها السماوي. عندئذ برسل الله ابنه بشكل جسدي ليوقظ هذه النفوس ويحرّرها من أجساده، أجساد الظلمة، ويرجعها إلى موطنها السماوي. ويفعل هذا بإعلان الحقيقة وبإعطاء النفوس المعرفة الحقيقية (gnosis) التي ستمكنها من الرجوع إلى السماء. يسوع هو الفادي الغنوصي المفترض الذي كان سابق الوجود (يو1: 1) والذي صار جسداً (يو1: 14) وعاد أخيراً إلى الله. إن التهمة الرئيسية التي وجِّهت إلى بولتمان هي أنه يفترض أنه كانت توجد غنوصية في خلفية يوحنا الإنجيلي.

ومن ثم يستعمل بولتمان يوحنا كمصدر رئيسي له لإعادة صياغة هذه الغنوصية. لكن بولتمان يدّعي بأنه يوجد دليل آخر على هذه الغنوصية ما قبل المسيحية في أشعار سليمان وخاصة في الكتابات الماندية (1) Mandean. إن أقدم أشكال اللاهوت الماندي يعود إلى مرحلة متأخرة من العهد المسيحي ومن المستحيل أن يكون يوحنا قد تأثر بهذا الفكر الغنوصي. لكن بولتمان يفترض أن الفكر الماندي يمثّل تطوراً لاحقاً لغنوصية افترضها موجودة بين تلاميذ يوحنا المعمدان وأن هذا الفكر كان خلفية يوحنا الإنجيلي في كتابة إنجيله. لكن النقد الأدبي يشير إلى أن الفكر الماندي الغنوصي هو متأخر. فعندما تظهر الغنوصية في القرن الثاني فإنها مزيج من تيارات فكرية مختلفة، بعضها قديم. لكن السؤال: هل كانت هذه التيارات متحدة معاٌ في العصر ما قبل المسيحي؟ لأن اتحاد هذه التيارات هو الذي أنتج الغنوصية. فاكتشافات المخطوطات الغنوصية في مصر قد أثبتت صحة رأي الآباء القائل إنّ الغنوصية هرطقة مسيحية لأن شخص المسيح قد ساعد على صياغة المواقف و العناصر الغنوصية البدائية في جسد محدّد من الفكر الغنوصي. مثل، إن المخلّص الغنوصي قد تطابق مع ابن الإنسان في تطور لاحق بعد كتابة إنجيل يوحنا. أيضاً يوجد عنصر آخر يطعن في نظرية بولتمان وهو أن فكر جماعة قمران لا ينطبق على فكر الهرطقة الماندية في القرن الأول. صحيحّ أنه كانت توجد لدى جماعة قمران ثنائية معدّلة، وعناصر غنوصية بدائية، لكن لا توجد أسطورة الفادي ولا غنوصية متطورة.

بالنسبة لثنائية النور و الظلام: ففي العهد القديم موضوع “النور” مهم منذ مطلع سفر التكوين وعمود الغمام. و استشهد متّى الإنجيلي (4: 16) بنص من أشعياء (8: 23 و9: 1) مشهور: الشعب الجالس في الظلمة أبصر نوراً عظيم، و الجالسون في كورة الموت وظلاله أشرق عليهم نور” (متى 4: 15). و الإصحاح 9 من أشعياء نبؤة عن ظهور المسيح المخلّص.

وسمعان الشيخ سمّى يسوع “نوراً للأمم” كما في أشعياء (لو 3: 32 و أشع 42: 6 و49: 6 و60: 19-.. 20). وفي المزامير : “الرب نوري ومخلصي” (26/ 27: 1 و35/36: 10 وميخا 7: …8.). و”أيها الرب إلهي لقد عظمت جداً. بالبهاء والجلال تسربلت، اللابس النور كالثوب” (103: 1-2) (2).

باختصار، لا يمكن البرهان على صحة فرضية أن يوحنا الإنجيلي قد افترض بعض الأفكار الغنوصية البدائية التي وجدت ما قبل المسيحية. ومن جهة أخرى من الثابت أن يوحنا الإنجيلي قد تأثر بعناصر معينة مهمة في كتابة إنجيله. فكان يفسّر يسوع بألفاظ العهد القديم عن الحكمة المشخصنة. وكان الفكر الفريسي أوضح في إنجيليه (دُعي يسوع ربّاي في إنجيله يوحنا أكثر من الإزائية). وركز في الإنجيل والرؤيا على أن يسوع هو يهوه (8: 24 و28 و58 و13: 19 ورؤ1: 8)، الرب الإله القدير، الألف والياء (رؤ1: 8 وأشعيا). ركز على بنوّة يسوع للآب، وعلى كونه الخروف الفصحي الحقيقي. فمواضيعه متأصلة في العهد القديم. والرؤيا تتضمن 508 آية بينما تلمح إلى 516 آية من العهد القديم. ويسوع هو العريس والكنيسة هي العروس. المواضيع كتابية من العهد القديم والعهد الجديد.

نقلاً عن: كتاب سألتني فأجبتك
س: 36
د. عدنان طرابلسي


(1) الماندية وأتباعها المانديون Mandeans هرطقة تُنسب إلى ماندا Manda ويعني اسمه معرفة الحياة. وقد تعمّد على يد يوحنا المعمدان. لاهوتها خليط من التقاليد اليهودية والأسطورة الغنوصية و المسيحية النسطورية و السريانية مازالت بقاياهم “الصابئة” في العراق.

(2) في المزامير: “نور وجهك” (4: 7 و43: 4 و88: 16 و67: 1). و”بنورك نعاين النور” و”أرسل نورك وحقك”(42: 3). في أشعيا “نور الرب” (3: 5). وفي الفصل 13 من كتاب الأب اسبيرو جبور “يهوه أم يسوع؟” كلام مستفيض عن مجد يهوه وبيت يهوه. راجع أيضاً فهرس الكتاب المقدس، كلمة “نور”.

arArabic
انتقل إلى أعلى