Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
☦︎
☦︎

مناقشة الفريسيين حول الطلاق:

1 وَقَامَ مِنْ هُنَاكَ وَجَاءَ إِلَى تُخُومِ الْيَهُودِيَّةِ مِنْ عَبْرِ الأُرْدُنِّ. فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ جُمُوعٌ أَيْضًا، وَكَعَادَتِهِ كَانَ أَيْضًا يُعَلِّمُهُمْ. 2 فَتَقَدَّمَ الْفَرِّيسِيُّونَ وَسَأَلُوهُ:«هَلْ يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ؟» لِيُجَرِّبُوهُ. 3 فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُمْ:«بِمَاذَا أَوْصَاكُمْ مُوسَى؟» 4 فَقَالُوا:«مُوسَى أَذِنَ أَنْ يُكْتَبَ كِتَابُ طَلاَق، فَتُطَلَّقُ». 5 فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ:«مِنْ أَجْلِ قَسَاوَةِ قُلُوبِكُمْ كَتَبَ لَكُمْ هذِهِ الْوَصِيَّةَ، 6 وَلكِنْ مِنْ بَدْءِ الْخَلِيقَةِ، ذَكَرًا وَأُنْثَى خَلَقَهُمَا اللهُ. 7 مِنْ أَجْلِ هذَا يَتْرُكُ الرَّجُلُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَيَلْتَصِقُ بِامْرَأَتِهِ، 8 وَيَكُونُ الاثْنَانِ جَسَدًا وَاحِدًا. إِذًا لَيْسَا بَعْدُ اثْنَيْنِ بَلْ جَسَدٌ وَاحِدٌ. 9 فَالَّذِي جَمَعَهُ اللهُ لاَ يُفَرِّقْهُ إِنْسَانٌ». 10 ثُمَّ فِي الْبَيْتِ سَأَلَهُ تَلاَمِيذُهُ أَيْضًا عَنْ ذلِكَ، 11 فَقَالَ لَهُمْ:«مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَتَزَوَّجَ بِأُخْرَى يَزْنِي عَلَيْهَا. 12 وَإِنْ طَلَّقَتِ امْرَأَةٌ زَوْجَهَا وَتَزَوَّجَتْ بِآخَرَ تَزْنِي». (مرقس 10: 1-12، متى 19: 1-12 و5: 31-32).

بينما كان يسوع “في تخوم اليهودية وعبر الأردن” والجمع يتبعه، سأله الفريسيون هل يُسمح للرجل أن يُطلّق امرأته أي أن يحلّ زواجه بواسطة الطلاق (الآيتان 1-2). العبارة “ليجرّبوه” تعني أنهم عن طريق هذا السؤال يرغمون يسوع على أن يأخذ موقفاً تجاه موضوع مطروح آنذاك ويّلفه الجدل كموضوع الطلاق. فقط كانت مدرسة شمّاي المتشدّدة تسمح بالطلاق فقط في حالة الزنى. بينما كانت مدرسة هلال المتساهلة تتبنى المعنى الواسع في سفر التثنية 24: 1 “لعيبٍ ما وجده فيها”، وهذا الشيء المعيب قد يكون في أي طعامٍ غير ناجح أو في إيجاد امرأة أجمل منها.

يجيب يسوع مشدّداً على عدم حلّ الزواج لأنه مختوم من الله حسب المقطع الوارد في سفر التكوين 2: 24 “لذلك يترك الرجل أباه وأمه ويلزم امرأته، ويصيران جسداً واحداً”. وهو يفسّر وصيّة موسى الواردة في تثنية 24: 1 أنها تأتي لقساوة قلب اليهود (الآيات 3-9). في الواقع سمح موسى بإعطاء “كتاب طلاق” لأن كثيرين من الرجال كانوا لا يتردّدون في اللجوء حتى إلى القتل بهدف التخلّص من نسائهم والاقتران بغيرهّن.

تستمر المناقشة في الآيات 10: 12 مع التلاميذ في البيت حيث يشدّد يسوع بصورة واضحة على عدم إمكانية حلّ الزواج، معتبراً أن تخلّي الرجل عن امرأته وزواجه بأخرى هو عملية زنى. في المقطع المشابه عند متى 19: 9 يُضاف “إلاّ في حالة الزنى” (وفي متى 5: 32). يحاول المفسّرون الكاثوليك أن يبنوا موقف كنيستهم في عدم السماح بالطلاق إمّا بادعائهم أن هذه العبارة “إلاّ في حالة الزنى” مضافة من قبل الإنجيلي، أو مضافة لاحقاً إلى النصّ، أو إنهم يفهمونها بالمعنى التالي: وحتى في حالة الزنى! ويستنتجون من هذه العبارة أيضاً أن الرب يسمح بهجر الرجل لامرأته دون زواج ثانٍ (أنظر موضوع الهجر في الكنيسة الكاثوليكية).

يتخذ بعض المفسّرين البروتستانت هنا كلمة الزنى كما في سفر الأعمال 15: 20 بمعنى الأمور الممنوعة حسب شريعة اللاويين عن الزواج (أنظر سفر اللاويين 18: 6-18)، معتقدين أن المسيح يسمح بحلّ الزواج عند المسيحيين الذين قبل تنصيرهم كانوا متزوجين أحد أقربائهم كما كان مسموحاً به عند الوثنيين وغير مسموح به في الكتاب المقدّس (أنظر المفسرين Bonnard, Baltensweiler…)

أمّا الكنيسة الأرثوذكسية فلم تحاول أن تطابق كلام الرب على ممارستها، بل هي تأخذ كلام الرب وتستند إليه وتقبل الاستثناء الوحيد للطلاق ألا وهو حالة الزنى. (*)

الآية 12 “وإن طلقت امرأة رجلها وتزوجت آخر تزني” لا ترد في الأناجيل الأخرى. وهي مناقضة للعادات السائدة عند اليهود لأن حق الطلاق كان فقط للرجل. يبدو أن هذه الآية تتصل ببعض العادات الوثنية، أي تلك التي كانت سائدة في المجتمع الروماني حيث، رغم تشدّد القانون الروماني القديم، كان يُسمح بترك أزواجهن والزواج بآخر. تقول المخطوطة D في الآية 12 “إن خرجت هذه عن رجلها…” (أي إن طردها رجلها)، وهي محاولة للعودة إلى العادات اليهودية حيث الرجل هو الذي يبعد امرأته.

الخلاصة:

يشدّد المسيح أساساً في هذا المقطع على عدم حلّ الزواج وفق مشيئة الله منذ البدء. ولكن في حال حصول صَدْع في الشركة الزوجية بسبب الزنى، حينئذ فقط يسمح بالطلاق.

يسوع يبارك الأولاد:

13 وَقَدَّمُوا إِلَيْهِ أَوْلاَدًا لِكَيْ يَلْمِسَهُمْ. وَأَمَّا التَّلاَمِيذُ فَانْتَهَرُوا الَّذِينَ قَدَّمُوهُمْ. 14 فَلَمَّا رَأَى يَسُوعُ ذلِكَ اغْتَاظَ وَقَالَ لَهُمْ:«دَعُوا الأَوْلاَدَ يَأْتُونَ إِلَيَّ وَلاَ تَمْنَعُوهُمْ، لأَنَّ لِمِثْلِ هؤُلاَءِ مَلَكُوتَ اللهِ. 15 اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: مَنْ لاَ يَقْبَلُ مَلَكُوتَ اللهِ مِثْلَ وَلَدٍ فَلَنْ يَدْخُلَهُ». 16 فَاحْتَضَنَهُمْ وَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَيْهِمْ وَبَارَكَهُمْ. (مرقس 10: 13-16، متى 19: 13-15، لوقا 18: 15-17).

هذه إحدى اللحظَات اللطيفة في حياة يسوع حين ينذر بموقف المسيحي الإيجابي تجاه الأولاد، بعكس قساوة قلب العالم القديم المعروفة بهذا الموضوع. عندما قدّمت الأمّهات أولادهنّ إلى يسوع لكي يحصلوا على بركته منعهنّ التلاميذ، ممثلين هكذا بشكل واضح مفهومَ عصرهم الذي يقول بعدم قطع مجرى العمل التعليمي من قبل أشخاص قليلي الأهمية كالأولاد مثلاً. لكن يسوع لم يؤيِّد مثل هذا التصرف بل اغتاظ وقال: “دعوا الأولاد يأتون إليّ ولا تمنعوهم” (الآية 14).

في هذه الأقوال يرى بعض المفسّرين صدى لعملية معمودية الأطفال في الكنيسة الأولى. قبل أن نفسّر هذه الكلمات علينا أن نأخذ بعين الاعتبار ما يلي: لا يعرض الإنجيليون أعمالاً وأقوالاً ليسوع لمجرّد مرّة ولوقتٍ ما، أي أنهم لا يهتمون فقط بالتاريخ بل يهتمون بشكل خاص بصلة أقوال يسوع وأعماله بحياة كنيسة عصرهم. ظروف كثيرة تطرأ في الكنيسة تتطلب الرجوع إلى أقوال ملائمة ذكرها يسوع في الأناجيل تبرّر أو تؤسس أو تفسّر ما يحدث في الكنيسة.

لا يهتم مرقس أوّلاً بعرض وتدوين مشهد لطيف من حياة يسوع، يبارك فيه الأولاد ويُظهر عطفاً تجاههم. لا يريد أن يصف لنا مهمة يسوع العاطفية تجاه العائلة والأولاد. فإنّ سبب ورود المشهد هو لاهوتي يرتبط بعمل محدّد في كنيسة عصره. ويرى كثيرون من المفسّرين عن حق في هذا المشهد جواب يسوع سؤال أعضاء الكنيسة إن كان يجب على الأولاد أن يعتمدوا أم لا. من خلال هذا المشهد الجميل وخاصة هذه الأقوال الواردة عند الإنجيلي، يريد أن يؤكد أن يسوع لم يمنع مجيء براعم العائلة الصغار إليه بل العكس شجّع ذلك. ولا تستطيع الكنيسة إلاّ أن تتبع عمل مؤسسها في قبول الأولاد الصغار إلى أحضانها بواسطة المعمودية.

في الآيتين التاليتين 15-16 يؤكّد الإنجيلي على قيمة الأولاد المهضومة حقوقهم في ذلك العصر. ويقول أن ملكوت السموات هو لمثل هؤلاء وإن كل واحد لم يصبح “مثل ولد” لن يدخل الملكوت. الولد كونه ضعيفاً لا يتكل على قدارته الخاصة بل يثق ثقة كاملة بمن هو أكبر منه. أن يقبل ملكوت “مثل ولد” يعني الثقة الكليّة بالله والحصول على الملكوت لا بقدراته الخاصة (“ببرّه” الخاص كما يقول الرسول بولس) بل باقتباله كهبة من الله. يلاحظ ثيوفيلكتوس حول هذه الآيات: “لم يقل لهؤلاء بل لمثل هؤلاء ملكوت الله. أي للذين يكتسبون عن طريق النسك البراءة المتوفّرة عند الأولاد بالطبيعة”.

مناقشة حول الحياة الأبدية:

17 وَفِيمَا هُوَ خَارِجٌ إِلَى الطَّرِيقِ، رَكَضَ وَاحِدٌ وَجَثَا لَهُ وَسَأَلَهُ:«أَيُّهَا الْمُعَلِّمُ الصَّالِحُ، مَاذَا أَعْمَلُ لأَرِثَ الْحَيَاةَ الأَبَدِيَّةَ؟» 18 فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ:«لِمَاذَا تَدْعُونِي صَالِحًا؟ لَيْسَ أَحَدٌ صَالِحًا إِلاَّ وَاحِدٌ وَهُوَ اللهُ. 19 أَنْتَ تَعْرِفُ الْوَصَايَا: لاَ تَزْنِ. لاَ تَقْتُلْ. لاَ تَسْرِقْ. لاَ تَشْهَدْ بِالزُّورِ. لاَ تَسْلُبْ. أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ». 20 فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُ:«يَا مُعَلِّمُ، هذِهِ كُلُّهَا حَفِظْتُهَا مُنْذُ حَدَاثَتِي». 21 فَنَظَرَ إِلَيْهِ يَسُوعُ وَأَحَبَّهُ، وَقَالَ لَهُ:«يُعْوِزُكَ شَيْءٌ وَاحِدٌ: اِذْهَبْ بِعْ كُلَّ مَا لَكَ وَأَعْطِ الْفُقَرَاءَ، فَيَكُونَ لَكَ كَنْزٌ فِي السَّمَاءِ، وَتَعَالَ اتْبَعْنِي حَامِلاً الصَّلِيبَ». 22 فَاغْتَمَّ عَلَى الْقَوْلِ وَمَضَى حَزِينًا، لأَنَّهُ كَانَ ذَا أَمْوَال كَثِيرَةٍ. 23 فَنَظَرَ يَسُوعُ حَوْلَهُ وَقَالَ لِتَلاَمِيذِهِ:«مَا أَعْسَرَ دُخُولَ ذَوِي الأَمْوَالِ إِلَى مَلَكُوتِ اللهِ!» 24 فَتَحَيَّرَ التَّلاَمِيذُ مِنْ كَلاَمِهِ. فَأَجَابَ يَسُوعُ أَيْضًا وَقَالَ لَهُمْ:«يَا بَنِيَّ، مَا أَعْسَرَ دُخُولَ الْمُتَّكِلِينَ عَلَى الأَمْوَالِ إِلَى مَلَكُوتِ اللهِ! 25 مُرُورُ جَمَل مِنْ ثَقْبِ إِبْرَةٍ أَيْسَرُ مِنْ أَنْ يَدْخُلَ غَنِيٌّ إِلَى مَلَكُوتِ اللهِ» 26 فَبُهِتُوا إِلَى الْغَايَةِ قَائِلِينَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: «فَمَنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَخْلُصَ؟» 27 فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ يَسُوعُ وَقَالَ:«عِنْدَ النَّاسِ غَيْرُ مُسْتَطَاعٍ، وَلكِنْ لَيْسَ عِنْدَ اللهِ، لأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ مُسْتَطَاعٌ عِنْدَ اللهِ». 28 وَابْتَدَأَ بُطْرُسُ يَقُولُ لَهُ:«هَا نَحْنُ قَدْ تَرَكْنَا كُلَّ شَيْءٍ وَتَبِعْنَاكَ». 29 فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ: «الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ:لَيْسَ أَحَدٌ تَرَكَ بَيْتًا أَوْ إِخْوَةً أَوْ أَخَوَاتٍ أَوْ أَبًا أَوْ أُمًّا أَوِ امْرَأَةً أَوْ أَوْلاَدًا أَوْ حُقُولاً، لأَجْلِي وَلأَجْلِ الإِنْجِيلِ، 30 إِلاَّ وَيَأْخُذُ مِئَةَ ضِعْفٍ الآنَ فِي هذَا الزَّمَانِ، بُيُوتًا وَإِخْوَةً وَأَخَوَاتٍ وَأُمَّهَاتٍ وَأَوْلاَدًا وَحُقُولاً، مَعَ اضْطِهَادَاتٍ، وَفِي الدَّهْرِ الآتِي الْحَيَاةَ الأَبَدِيَّةَ. 31 وَلكِنْ كَثِيرُونَ أَوَّلُونَ يَكُونُونَ آخِرِينَ، وَالآخِرُونَ أَوَّلِينَ». (مرقس 10: 17-31، متى 19: 16-30، لوقا 18: 18-30).

يُذكر حوار يسوع مع إنسان يهودي في الأناجيل الإزائية (“شاب” حسب متّى، “رئيس غني جداً” حسب لوقا) مباشرة بعد الحديث عن الزواج والطلاق ومباركة الأولاد، إلى حدّ أن بعض المفسّرين يعتقدون أن في هذه الوحدة المشتركة فيما بين الإنجيليين الثلاثة يتخذ يسوع موقفاً تجاه مواضيع رئيسية هي الزواج والطلاق والأولاد والثروة.

لا يبدو موقف المتكلّم مع يسوع رديئاً كما نستنتج من الفعل “جثا” في الآية 17 وممّا ذُكر في الآية 21 “فنظر إليه يسوع وأحبّه”. أمام يسوع إنسان لطيف يمارس كل واجباته الدينية المفروضة من الناموس لكنه لا يستطيع أن يدرك الآن ما يعلنه وجه يسوع من دعوة الله الكاملة التي تتوجّه إلى الإنسان بكليّته وليس فقط إلى بعض المظاهر الصادرة عنه حتى وإن كانت رئيسية.

يدعو هذا المحدّث يسوع “معلِّماً صالحاً” (الآية 17). يناديه بصفة غير مألوفة في فلسطين عند الربّانيين. ربّما يبادر في استعمال مثل هذه الصفة، كما يفسّر بعض الآباء، بعد الانطباع الذي أخذه عن موقف يسوع الصالح تجاه الأولاد وهي الحادثة التي سبقت هذا الحوار مباشرة.

يَفترض السؤال “ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية” إنَّ لدى السائل مفهوماً يهودياً ألا وهو أن الحياة الأبدية تُكتسب بالأعمال التي يعملها الإنسان. وهذا المفهوم مغاير للحقيقة المعلنة بيسوع المسيح والتي تقول: إن الحياة هبة من الله مقدّمة إلى المؤمن في المسيح. “الحياة الأبدية” حسب اللاهوت اليهودي هي حياة الدهر الآتي البادئة بالقيامة. هذه الحياة يمنحها المسيح للمؤمنين. وهو لا يمنح الحياة المستقبلية فقط، بل الحاضرة أيضاً، لأن الحياة الحقيقية، الحياة بحسب الله، تبدأ في الحاضر وتستمر في عالم القيامة المستقبلي دون أن تتأثر بحدث الموت البيولوجي.

يدرك يسوع أن محدّثه يعتبره مجرّد معلّم لا أكثر، فيرفض صفة “الصالح” ليس لأنه غير صالح بل لأنه يريد أن يوجّه انتباه السائل إلى الله نبع الصلاح (الآية 18). يجب ألاّ نرى في هذا الرفض عناصر خريستولوجية (1) تأتي من شعور يسوع الخاص تجاه علاقته بالله الآب. يسوع نفسه يمكن أن يقول أحياناً “أبي أعظم مني” (يوحنا 14: 28)، كما يمكن أن يقول “أنا والآب واحد” (يوحنا 10: 30)، وذلك حسب الظرف والهدف المنشود. هنا يقصد أن يوجّه انتباه محدّثه إلى الله الآب مانح كل صلاح، ويشير إلى حفظ وصايا الله الواردة في العهد القديم كمدخل إلى الحياة المستقبلية معروف من الجميع.

يعترف المتكلم مع يسوع أنه حفظ الوصايا كلها منذ صباه. فيسأل ماذا ينقصه بعد. هل يعتقد أن هنالك وصية أُخرى سوف يضيفها المعلّم الصالح الذي يتكلّم معه أم يعتقد أنه سوف يُمتَدح لأنه حفظ كل ما هو مكتوب في الناموس وبالتالي لا شيء آخر يعوزه؟ ربّما كان الأمران معاً أي المديح والوصية الجديدة التي يطبقها فيحصل بذلك على الحياة المستقبلية. في كل حال لم يكن ينتظر سماع مثل هذا الجواب الذي ردَّ به يسوع في الآية 21: أنّ مجرّد حفظ وصايا العهد القديم لا يقود إلى الكمال. العهد القديم يرشد إلى المسيا. إذاً كل من يدرس جيّداً هذه الوصايا ويطبّقها يجب عليه أن يعترف بوجه يسوع المسيا الذي “يُكمّل” الناموس. في هذه اللحظة تُعطى فرصة الكمال للإنسان اليهودي الذي يتكلّم مع يسوع: إن كان قد طبّق إرادة الله المعلنة في الناموس منذ صباه، يمكنه الآن أن يتبع يسوع ويبرهن هكذا أنه يقبل دعوة الله الكلّية كما هي معلنة للعالم بالمسيح. ودعوة الله الكلّية ليست في حفظ بعض الوصايا بل في تحرّر الإنسان من كل الأشياء التي تقيّده داخل العالم.

إن هذا الظرف اللطيف الموجود فيه هذا اليهودي يدلّنا على أن الإنسان يستطيع أن يحفظ ناموس الله وأن يظلّ أسيراً لخيراته المادية، أي أن يظل رهين العوامل المختلفة التي يخترعها الأنا للمحافظة على نفسه قدر المستطاع ولمقاومة الخوف من الموت. لكنه بهذا يخلق اكتفاء كاذباً يرتاح إليه ضميره فيعتقد أنه أتمّ واجباته نحو الله والقريب بينما الحقيقة أنه في لحظة حاسمة من حياته يجد أن موقفه هذا يأسره لقوّات هذا العالم. من خلال ما يقوله في الآية 21، يؤكد يسوع أن قرار الذي يريد أن يبتع مشيئة الله المعلنة بواسطته لا يقبل مساومات بل يفترض التحرّر الكلّي من الممتلكات الماديّة التي تشكل في كثير من الأحيان عقبة في طريق الكمال.

ما أن سمع اليهودي، هذا الذي يحفظ الناموس منذ صباه، جواب يسوع الثقيل والمزعج حتى “مضى حزيناً” لأنه كانت لديه ممتلكات كثيرة. كان تَديُّنه يغطي جزءاً من حياته لا كلّها. كان يحفظ الوصايا لكنه لم يتجاوب كلّياً مع دعوة الله الكاملة. يشير يسوع بعد رحيل محدّثه الغني (أو في حضوره حسب رواية لوقا المشابهة) إلى صعوبة دخول الأغنياء ملكوت السماوات، مريداً هكذا أن يدقّ ناقوس الخطر الذي يهدّد ذوي الأموال. طبعاً لا يقصد من خلال الآية 23 هؤلاء الذي يملكون ما هو ضروري لعيشهم، ما هو لازم لقوت عيالهم، بل يقصد الذين يكدّسون أموالاً كثيرة حتى أنهم يعلّقون حياتهم ورجاءهم عليها فقط ويصبحون في النهاية أسرى لها. ويكمل حديثه في الآية 25 حيث يعبّر بطريقة المثل: “مرور جمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غني إلى ملكوت الله”. لقد أراد بعض المفسّرين أن يتجنبوا غرابة الصورة واستحالتها فاستبدلوا كلمة جَمَل = Kamilon التي تعني أيضاً “الحبل العريض”، فأصبحت الصورة معقولة، أو أنهم لجأوا إلى افتراض “ثقب إبرة” بوابة صغيرة في أورشليم. لكن هذه المحاولات فاشلة لأن استعمال كلمة Kamilon بمعنى حبل عريض هو لاحق لعصر يسوع، والبوابة المذكور لا ترد في أية مخطوطة. نحن أمام تعبير مثَليّ معروف في ذلك العصر يدلّ على أمر صعب تحقيقه كما أن العبارة المثَليّة “مرور فيل من ثقب إبرة” ترد في التلمود وتدلّ على أمر غير قابل للتحقيق.

أمام هذا الكلام يسأل التلاميذ بدهشة كبيرة: “فمن يستطيع أن يخلص”؟ إن كان هذا الإقلاع الكليّ عن ممتلكات الحياة الأرضية هو المطلوب للخلاص، إذاً من يستطيع أن يدّعي أنه يمكن أن يلبّي مثل ذلك؟ في جوابه في الآية 27 يؤكد يسوع على أن الخلاص يأتي من نعمة الله. ما هو صعب وغير مستطاع في نظر الإنسان، مستطاع عند الله.

المعاني الرئيسية للرواية السابقة:

1- يعلن المسيح للبشر عن دعوة الله الكاملة (الدعوة إلى الكمال). هذه الدعوة التي ترد أيضاً في الموعظة على الجبل كامنة في خضوع الإنسان بكليته إلى الله. إن حفظ أوامر الناموس لا يعني تتميم واجبات الإنسان الكاملة نحو الله. فوق هذه الوصايا يطلب الله الإنسان كلّه محرَّراً من العقبات حتى الصغيرة والشكوك. في كثير من الأحيان يخلق تتميم بعض الطقوس الدينية عند الإنسان اكتفاءً كاذباً وراحة ضمير كاذبة وكأنه امتلك الفضيلة. يوجّه هذا المقطع الانتباه إلى مثل هذه الكفايات المضلّة.

2- قد يشكّل الالتصاق بالغنى المادي عائقاً كبيراً لدخول الإنسان ملكوت الله. ويتطلب قدرة كبيرة للتحرّر من هذا الكنز الأرضي واتّباع المسيح، وهذه القدرة تُعطى من الله لأن ما لا يستطيع الإنسان عمله يستطيع الله أن يفعله؛ يكفي على الإنسان أن يسلّم نفسه بالكليّة إليه.

3- لا يشكل هذا المقطع إدانة أخرى للغني، كما لا يريد أن يؤكد على إغلاق ملكوت الله في وجه الأغنياء. إنه إنذار وإشارة إلى الخطر الذي يحدق بالذي يكون أسيراً لماله، خطر فقدانه في الحياة الأبدية. لا يعلّم العهد الجديد في أي موضع أن الفقير بسبب فقره سوف يدخل حتماً ملكوت الله، وأن الغني بسبب غناه سوف يفقده. يشدّد الكتاب فقط، خصوصاً في هذا المقطع، على أن الغنى يمكن أن يكون حاجزاً أمام وراثة الحياة الأبدية. لذلك علينا أن ننتبه.

في الآيات 28-31 بمناسبة الحوار السابق يتقدم بطرس ويقول للمسيح أنه مع التلاميذ قد تركوا كل شيء وتبعوه فماذا يكون لهم؟ فيؤكد المسيح أن كل من تحرّر من ممتلكاته وقيوده المادية سوف يأخذ “الآن في هذا الزمان” مئة ضعف “وفي الدهر الآتي الحياة الأبدية”. كل من ينتمي إلى عائلة الله الاسختولوجية أي الكنيسة سوف يجد إخوة وأخوات…، “مع اضطهادات” في آخر الآية 31 لأن الكنيسة بعدُ موجودة ضمن إطار وُثُق “هذا الزمان” ولذلك عليها أن تواجه طريق الشهادة.

التنبؤ الثالث عن الآلام وطلب ابني زبدى (2):

32 وَكَانُوا فِي الطَّرِيقِ صَاعِدِينَ إِلَى أُورُشَلِيمَ وَيَتَقَدَّمُهُمْ يَسُوعُ، وَكَانُوا يَتَحَيَّرُونَ. وَفِيمَا هُمْ يَتْبَعُونَ كَانُوا يَخَافُونَ. فَأَخَذَ الاثْنَيْ عَشَرَ أَيْضًا وَابْتَدَأَ يَقُولُ لَهُمْ عَمَّا سَيَحْدُثُ لَهُ: 33 «هَا نَحْنُ صَاعِدُونَ إِلَى أُورُشَلِيمَ، وَابْنُ الإِنْسَانِ يُسَلَّمُ إِلَى رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةِ، فَيَحْكُمُونَ عَلَيْهِ بِالْمَوْتِ، وَيُسَلِّمُونَهُ إِلَى الأُمَمِ، 34 فَيَهْزَأُونَ بِهِ وَيَجْلِدُونَهُ وَيَتْفُلُونَ عَلَيْهِ وَيَقْتُلُونَهُ، وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ يَقُومُ». 35 وَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ يَعْقُوبُ وَيُوحَنَّا ابْنَا زَبْدِي قَائِلَيْنِ:«يَا مُعَلِّمُ، نُرِيدُ أَنْ تَفْعَلَ لَنَا كُلَّ مَا طَلَبْنَا». 36 فَقَالَ لَهُمَا:«مَاذَا تُرِيدَانِ أَنْ أَفْعَلَ لَكُمَا؟» 37 فَقَالاَ لَهُ:«أَعْطِنَا أَنْ نَجْلِسَ وَاحِدٌ عَنْ يَمِينِكَ وَالآخَرُ عَنْ يَسَارِكَ فِي مَجْدِكَ». 38 فَقَالَ لَهُمَا يَسُوعُ:«لَسْتُمَا تَعْلَمَانِ مَا تَطْلُبَانِ. أَتَسْتَطِيعَانِ أَنْ تَشْرَبَا الْكَأْسَ الَّتِي أَشْرَبُهَا أَنَا، وَأَنْ تَصْطَبِغَا بِالصِّبْغَةِ الَّتِي أَصْطَبغُ بِهَا أَنَا؟» 39 فَقَالاَ لَهُ: «نَسْتَطِيعُ». فَقَالَ لَهُمَا يَسُوعُ:«أَمَّا الْكَأْسُ الَّتِي أَشْرَبُهَا أَنَا فَتَشْرَبَانِهَا، وَبَالصِّبْغَةِ الَّتِي أَصْطَبغُ بِهَا أَنَا تَصْطَبِغَانِ. 40 وَأَمَّا الْجُلُوسُ عَنْ يَمِينِي وَعَنْ يَسَارِي فَلَيْسَ لِي أَنْ أُعْطِيَهُ إِلاَّ لِلَّذِينَ أُعِدَّ لَهُمْ». 41 وَلَمَّا سَمِعَ الْعَشَرَةُ ابْتَدَأُوا يَغْتَاظُونَ مِنْ أَجْلِ يَعْقُوبَ وَيُوحَنَّا. 42 فَدَعَاهُمْ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: «أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ الَّذِينَ يُحْسَبُونَ رُؤَسَاءَ الأُمَمِ يَسُودُونَهُمْ، وَأَنَّ عُظَمَاءَهُمْ يَتَسَلَّطُونَ عَلَيْهِمْ. 43 فَلاَ يَكُونُ هكَذَا فِيكُمْ. بَلْ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَصِيرَ فِيكُمْ عَظِيمًا، يَكُونُ لَكُمْ خَادِمًا، 44 وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَصِيرَ فِيكُمْ أَوَّلاً، يَكُونُ لِلْجَمِيعِ عَبْدًا. 45 لأَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ أَيْضًا لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ بَلْ لِيَخْدِمَ وَلِيَبْذِلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِينَ». (مرقس 10: 32-45، متى 20: 17-28).

يأتي التنبؤ الثالث عن الآلام عند صعود يسوع مع تلاميذه إلى أورشليم. فاعترى تابعيه (الأرجح أن يكون هناك أناس غير التلاميذ) خوف مبهم (“وكانوا يتحيّرون وفيما هم يتبعون كانوا يخافون”). هذا الخوف يعود إلى رؤية معلّمهم يسير بتصميم إلى أورشليم بينما يعلمون موقف الكتبة والفريسيين العدائي تجاهه. يأخذ يسوع الاثني عشر جانباً ويكلّمهم عن آلامه الوشيكة.

لقد سبق يسوع وأعلم تلاميذه عن آلامه (مرقس 8: 31، 9: 31)، وهنا ينبئهم عنها للمرّة الثالثة. وتتضمّن النبوءة ستة مراحل عن الآلام: أ- سيُسلم أولاً إلى رؤساء الكهنة؛ ب- ويُحكم عليه؛ ج- وبعدها يُسلم إلى الأمم (أي إلى بيلاطس الوثني)؛ د- ويهزأ به ويُجلد؛ هـ- ثم يُصلب؛ و- ويقوم (الآيتان 33-34).

كم كان إدراك التلاميذ لأقوال يسوع عن آلامه ضعيفاً. هذا ما يتبيّن منذ المرّة الأولى في موقف بطرس الذي أسرع ليُبعد عن يسوع فكرة الآلام، وكانت المرّة الثانية حين جرت المناقشة فيما بين التلاميذ حول من هو “الأعظم”. وهنا نصل إلى التنبؤ الثالث من خلال مطلب ابني زبدى، يعقوب ويوحنا.

في رواية متى تتوجه أم يعقوب ويوحنا إلى يسوع معبّرة عن مطلبهما. وحسب مرقس يقترب يعقوب ويوحنا نفسهما من يسوع ويقولان له: “يا معلّم نريد أن تفعل لنا كل ما طلبناه” (الآية 35). لم يتجرآ مباشرة منذ البداية أن يوضحا مرادهما، بل تحرّيا أولاً استعداد يسوع لقبول مثل هذا الطلب. وبعد تجاوب يسوع معهما يتابعان بشجاعة أكبر: “أعطنا أن نجلس واحدٌ عن يمينك والآخر عن يسارك في مجدك” (“في ملكوتك” حسب التعبير الوارد عند متى). لا يجب أن نرى في هذا الطلب مجرّد حبّ التلميذين للمجد، بل علينا أن نشدّد على وجود المفهوم اليهودي عن المسيّا في أذهانهم، والذي حاول يسوع أن يقوّمه مرّات عديدة. أي أن التلميذين يعقوب ويوحنا يفهمان المسيا كملك أرضي سوف يُنصَّب على عرش مجده ومُلكه في أورشليم، مدينة داود. وسوف يجمع تحت سلطانه الشعب الإسرائيلي كلّه ويُخضع كل الأمم. في مثل هذا المُلك المجيد سوف يحتلّ التلميذان المكان المرموق جداً عن يمين المسيا ويساره طالما أظهر لهما يسوع حتى الآن مثل هذا التفصيل لأنه ميّزهما مع بطرس عن مصفّ التلاميذ الاثني عشر. يبدو أنهم يعتقدون أن توطيد مُلك المسيا حدث وشيك جداً، خاصة وأن الحوار يدور عند صعودهم إلى أورشليم. كما يبدو أنهم لم يفهموا قطعاً أقوال يسوع عن الآلام، أو أنهم فهموها على ضوء المفاهيم السائدة آنذاك، وهي أن مُلك المسيا سوف تسبقه شدائد وأحزان تُدعى “شدائد المسيا”.

تُستعمل العبارات “شرب الكأس” و”الصبغة التي اصطبغ بها” (الآية 38) في أماكن أخرى من العهد الجديد والقديم وتدل على الشهادة والموت؛ نذكّر فقط بالعبارتين المعروفتين “فلتعبر عني هذه الكأس” (متى 26: 39) “ولي صبغة أصطبغها” (لوقا 12: 50). ويسأل يسوع التلاميذ إن كانوا هم أيضاً يستطيعون مواجهة شهادة الموت على مثاله. فيجيبون للحال “نستطيع” “دون أن يفهموا عمّا كان يكلمهم. لقد أجابوا على رجاء الحصول على مطلبهم” (القديس يوحنا الذهبي الفم).

تُعتبر الآية 39 من قبل البعض تنبؤاً عن شهادة الموت للتلميذين يعقوب ويوحنا. يتكلم العهد الجديد عن استشهاد يعقوب الرسول في سفر الأعمال 12: 2، أمّا بالنسبة ليوحنا فهناك تقليد لاحق يتكلّم عن استشهاده (إن سنكسار الشهداء السرياني لعام 41 يذكر شهادة يعقوب ويوحنا في 27 كانون الأول). لكن التقليد الأقدم والأوسع انتشاراً هو أن يوحنا مات موتاً طبيعياً في أفسس بعد أن أضحى شيخاً طاعناً في السن. يمكن أن نأخذ بأقوال يسوع بالمعنى التالي: أن تشربوا كأس الشدائد وأن تعتمدوا بمعمودية موت الاستشهاد، كما أنا فاعل، هذا ممكن، لكن إعطاء مراكز مرموقة في ملكوت الذي ليس ملكوتاً مادياً أرضياً كما تظنون بل روحي وسماوي، هذا العمل ليس من صلاحيتي في هذه اللحظة بل هو من خصائص الله الآب. لا يقول يسوع أنه يمكنهم أن يعبروا موتاً استشهادياً دون أن يأخذوا مركزاً في الملكوت، بل يقول: سوف تواجهون الموت، لكن ما يختصّ بالمراكز في الملكوت فهذا من شأن الله وحده، وهي تُمنح للذين يتهيأون لها. أنتم أتمّوا رسالتكم كما يجب دون شرط، والله سوف يوزّع المراكز في الملكوت بطريقة محقّة لا بصورة كيفية.

يذكّر يسوع تلاميذه أن المجد الحقيقي هو الصليب. هذا ما يشدّد عليه خصوصاً يوحنا في إنجيله. إن كان التلاميذ يطلبون المجد فليعلموا أنه يُكتسب فقط من خلال الصليب والاستشهاد. وهذا الاستشهاد لا يعطي صاحبه حق المطالبة بمركز في الملكوت لأن ذلك هو من شأن الله الآب وحده.

اغتاظ التلاميذ الآخرون عن حقّ، ليس لأن لديهم مفهوماً صحيحاً عن المسيا مغايراً لمفهوم ابني زبدى بل لأن هذين الأخوين أهملا الباقين في الملكوت. عندئذٍ يتوجّه يسوع إليهم في الآيات 42-44 بأقوال محقّة قائلاً: “إن الذين يحسبون رؤساء الأمم يسودونهم…”. هذه الأقوال ذات أهمية كبرى لأنها تعطينا المعنى أو الفحوى الحقيقية للرئاسة في العالم بصورة عامة، وفي الكنيسة بصورة خاصة. يمكننا أن نعبّر عن هذا المعنى بالشكل التالي: الرئاسة هي قبل كل شيء تواضع وخدمة. الرؤساء والقادة عند الأمم الوثنية “يتسلّطون عليهم” أو “يسودونهم”. في الكلمتين تُستعمل العبارة Kata التي تُستخدم للتشديد أو للمبالغة، وهي لا تعني هنا مجرّد السيادة أو السلطة على المرؤوسين بل استغلال السلطة من قبل الرؤساء. لو قرأنا الجملة المشابهة في إنجيل لوقا لرأينا أن الكلمة Kata غير واردة. يقول لوقا “ملوك الأمم يسودونهم… أما أنتم فليس هكذا” Kirievousi وليس Katakirievousi (لوقا 22: 35)، وهذا لا يعني استغلال السلطة فقط عمل غير مرغوب فيه بل أن مجرّد استعمال السلطة القانونية عند المسيحيين هو أيضاً كذلك. لا تكمن عظمة المسيحي في قوته بل في خدمته: لا يتخذ مركزه داخل الكنيسة كمصدر قوّة ليستفيد مادياً بل تلك وسيلة لإتمام الخدمة الرسولية. الكلمتان “خادماً” و”عبداً” مترادفتان في النصّ. إنهما تعبّران بصورة واضحة عن رسالة الرئيس صاحب المركز، وبصورة أوسع عن رسالة الكنيسة في العالم، هذا العمل الناتج عن مثال يسوع نفسه الذي خدم الإنسانية عن طريق آلامه “وبذل نفسه فداءً عن كثيرين”. دفع إذاً بموته “الفدية” من أجل أن يشتري الناس من عبودية الشيطان (الآية 45).

يشكّل استخدام السلطة والقوّة تجربة كبيرة لكلّ صاحب سلطة. لكن يجب ألاّ تكون تجربةٌ كهذه مصدراً للقلق. فقد ظهرت بشكلها الحاد والشيطاني ليسوع نفسه: تجربة الشيطان في البرّية التي تتكلم عنها الأناجيل الإزائية تحمل بشكل دقيق المعنى التالي: يقترح الشيطان على يسوع فكرة استعمال قوّته كمسيّا وبالتالي إتّباع الطريق السهل لكي يوطّد نفسه ملكاً أرضياً. أي أن من يصنع العجائب محوّلاً الحجارة إلى أرغفة، أن يسقط بصورة مشهد باهر من الهيكل ويظهر بشكل قائد دنيويّ. هذه التجربة راودت يسوع مرّات أخرى عن طريق الجمع الذي كان مستعداً ليعترف به ملكاً، أو عن طريق التلاميذ (بطرس خاصةً الذي أراد أن يبعده عن الاستشهاد). كان يسوع دائماً يواجه التجربة وفي ذهنه أناشيد العبد المتألم عند أشعيا ناظراً إلى الآلام. أقوال كثيرة ليسوع تبدأ بالتنبؤ الثالث عن الآلام تدلّ على وعيه التام أنه آخذٌ على عاتقه عمل عبد الله المتألّم الذي سوف يُسلّم إلى الموت من أجل البشر جميعهم.

المعاني الرئيسية للرواية السابقة:

1- إن آلام ابن الإنسان التي تشكّل “فدية” تسدَّد من أجل شراء المأسورين من الشيطان ومن أجل خطيئة البشر، تمثل أفضل خدمة قيّمة يمكن أن تقدّم للإنسانية. إن عدم الاعتراف بهذه التقدمة هو السبب الذي من أجله يكون الناس إمّا مأسوريين بمشاكلهم أو أنهم يلتجئون إلى حلول خدّاعة تقودهم إلى خيبة أمل.

2- عظمة الزعيم الكنسي لا تكون في القدرة أو السلطة التي يملكها بل في استخدام مركزه لخدمة المؤمنين. تجربة القوّة الشيطانية هي تجربة خطيرة وبإمكانها أن تقود الرئيس إلى الاكتفاء بذاته لا إلى تتميم خدمته بتواضع.

3- إن طلب المجد عند المسيحي لا يكون شرعياً وجديراً بالمديح إلاّ إذا كان منطلقاً من رغبة التمثل بآلام ابن الإنسان. يجب أن يكون مجد المسيحيّ في الاستشهاد كما كان الصليب بالضبط مجد يسوع. مجد غير هذا يمكن أن يأتي من عروض الشيطان.

شفاء الأعمى بارتماوس في أريحا:

46 وَجَاءُوا إِلَى أَرِيحَا. وَفِيمَا هُوَ خَارِجٌ مِنْ أَرِيحَا مَعَ تَلاَمِيذِهِ وَجَمْعٍ غَفِيرٍ، كَانَ بَارْتِيمَاوُسُ الأَعْمَى ابْنُ تِيمَاوُسَ جَالِسًا عَلَى الطَّرِيقِ يَسْتَعْطِي. 47 فَلَمَّا سَمِعَ أَنَّهُ يَسُوعُ النَّاصِرِيُّ، ابْتَدَأَ يَصْرُخُ وَيَقُولُ:«يَا يَسُوعُ ابْنَ دَاوُدَ، ارْحَمْنِي!» 48 فَانْتَهَرَهُ كَثِيرُونَ لِيَسْكُتَ، فَصَرَخَ أَكْثَرَ كَثِيرًا:«يَا ابْنَ دَاوُدَ، ارْحَمْنِي!». 49 فَوَقَفَ يَسُوعُ وَأَمَرَ أَنْ يُنَادَى. فَنَادَوُا الأَعْمَى قَائِلِينَ لَهُ:«ثِقْ! قُمْ! هُوَذَا يُنَادِيكَ». 50 فَطَرَحَ رِدَاءَهُ وَقَامَ وَجَاءَ إِلَى يَسُوعَ. 51 فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُ:«مَاذَا تُرِيدُ أَنْ أَفْعَلَ بِكَ؟» فَقَالَ لَهُ الأَعْمَى:«يَا سَيِّدِي، أَنْ أُبْصِرَ!». 52 فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ:«اذْهَبْ. إِيمَانُكَ قَدْ شَفَاكَ». فَلِلْوَقْتِ أَبْصَرَ، وَتَبِعَ يَسُوعَ فِي الطَّرِيقِ. (مرقس 10: 46-52، متى 20: 29-34، لوقا 18: 35-43).

تقع عجيبة شفاء الأعمى، وهي الأخيرة قبل الآلام، حسب الأناجيل الإزائية فيما كان يسوع خارجاً من أريحا (الواقعة على بعد 30 كلم شمال شرقي أورشليم). وهي حادثة نادرة يُذكر فيها اسم الذي شُفي. وقد يكون بارتماوس هذا، كما يقول بعض المفسّرين، قد أصبح فيما بعد عضواً معروفاً في الكنيسة. عندما سمع الأعمى المستعطي ضجة الجمع واستعلم وعرف أن يسوع الناصري عابرٌ أخذ يناشد الرحمة صارخاً “يا يسوع يا ابن داود ارحمني” (الآية 48). وبالرغم من توبيخ الناس له لازم طلبه مستمراً في الصراخ. لم ينتهرْه يسوع ولم يرفض مثل هذا اللقب المسياني الذي أُطلق عليه في بعض المواقف الأخرى (أنظر مثلاً متّى 9: 27 الأعميان، 12: 23، 15: 22 الكنعانية، وغيرها)، إلا أنه لا يقبل بفكرة المسيا السياسي التي يربطها اليهود بمثل هذا اللقب.

يستجيب هنا يسوع لطلب الأعمى مادحاً إيمانه أيضاً في الآية 52. والجدير بالذكر أنه في هذه العجيبة لا يتوخى كالعادة المحافظة على سرّيتها. ويدلّ عدم نكرانه اللقب المسياني، الذي أطلقه عليه الأعمى، على أنه ابن داود بالفعل، علماً انه يتوجّه إلى الآلام من أجل خدمة البشرية، وتقديم حياته “فدية عن كثيرين” (10: 45). إنَّ منحه النور للأعمى هو إحدى الهبات المسيانية وفقاً للنبوءات عن المسيا (أنظر أشعيا 29: 18، 35: 5، 42: 7، 61: 1). في حين أن الفريسيين لا يرون في شخص يسوع بداية زمن مسياني، ولذلك يوصفون “بالعميان” (أنظر مثلاً متّى 15: 14، 23: 16)، نرى هذا الأعمى ينظر إليه ويعترف به ابناً لداود وبعد شفائه “يتبعه” كتلميذ له.

في الآية 50، بدل العبارة و “طرح رداءه”…، يرد في مخطوطة أخرى “ووضع رداءه”. إن طرح الرداء لكي يسرع الواحد بسهولة أكبر عادة معروفة في العالم الهلّيني، بينما تُعتبر العبارة “ووضع الرداء” محاولة للإنسجام مع العادة الشرقية التي بموجبها يبسط المستعصي رداءه أمامه لكي يجمع التبرّعات ويرتديه كلّما أراد أن ينهض ويتحرّك.

بالنسبة للأناجيل الإزائية ترتبط هذه العجيبة مكانياً بأريحا وزمنياً بمرحلة ما قبل الصعود إلى أورشليم. عند لوقا تحصل الحادثة “لما اقترب من أريحا”، بينما عند مرقس تحصل عند خروجه مع تلاميذه من أريحا. إضافة إلى ذلك يتكلّم متّى عن شفاء أعميين. ولذلك يُطرح السؤال جدّياً عما إذا كان الإنجيليون الثلاثة يتكلّمون عن الحدث نفسه أم أنهم يتكلّمون عن أحداث مختلفة! لقد أُعطيت أجوبة مختلفة منذ القديم لهذا السؤال:

1- عند الكثيرين من المفسّرين القدماء تسود النظرية القائلة إن متّى كشاهد عيان هو الأقرب من الوقائع التاريخية عندما يذكر أعميين. ومن بين هذين الأعميين يذكر مرقس ولوقا الأشهر. أي أنهما يذكران ذاك الذي كان مشهوراً ومعروفاً في المنطقة ربما بسبب انتمائه المسيحي الذي اكتسبه بعد شفائه (يتبنّى هذه النظرية كل من ثيوفيلكتوس، فكتور الأنطاكي…).

2- يرفض المفسّر زيغافنوس هذه النظرية إذ يعرض وجهة نظره: “وأنا أعتقد أنه مختلف عن الأعميين الآخرين (عند متى). الأعمى عند مرقس طرح عنه الرداء من أجل السرعة وحصل على الشفاء بدون أي لمس، في حين أن الذي جاء عند لوقا حصل على الشفاء بينما كان يسوع يقترب من أريحا وليس عند خروجه منها”. والجدير بالذكر أن وجهة النظر هذه تتفق مع رأي القديس يوحنا الذهبي الفم. هذه النظرية التي تتكلّم عن أحداث مختلفة وعن أربعة عميان موجودة عند أوريحنس (Origene) الذي يضع الأحداث بالتسلسل التالي: “يمكن أن يكون أعمى لوقا قد ظهر عند اقتراب يسوع من أريحا، وأعمى مرقس عندما دخلها، وأعميا متى عندما عبر عنها”. يعطي أوريجنس هذا التفسير للذين يهتمون فقط بالتاريخ “الدقيق” وبالمقارنة بين الروايات الإنجيلية. أمّا بالنسبة للذين يفتشون عن جوهر الروايات فيقول: “لقد عُرض موضوع واحد في أشكال مختلفة”. وبعدها يعرض تفسيره الرمزي الذي يقول (انسجاماً مع التفسير الرمزي لمثل السامري الشفوق) إن أريحا هي العالم، والخروج منها هو الابتعاد عن الاهتمامات الدنيوية، والأعميان هما مملكتا إسرائيل ويهوذا، والأعمى الواحد (حسب رواية مرقس ولوقا) هو الشعب كله الجالس على “الطريق”، طريق الناموس والأنبياء، يستعطي الشفاء من عماه من يسوع العابر فيستجيب هذا الأخير لطلبه.

3- يقول القديس امبروسيوس أن الأعميين قُدّما إلى يسوع عند دخوله أريحا طالبين الشفاء، ثم حصلا على مطلبهما عند الخروج من المدينة. إلا أن هذه النظرية لا تنطبق على أّية من الروايات الإنجيلية.

4- حسب المغبوط أوغسطين، من بين الأعميين المذكورين عند متى، شُفي الواحد عند الدخول إلى المدينة الثاني عند الخروج منها.

5- وحسب البعض الآخر تُحلّ المشكلة إنْ أخذناها بعين الاعتبار المعلومات الواردة عند يوسيفوس الذي يقول أن هناك مدينتين باسم أريحا وهما أريحا القديمة وأريحا الجديدة، وأن العجيبة حصلت عند الخروج من الواحدة والدخول إلى الأخرى. ويتكلّم متى ومرقس عن المدينة القديمة ولوقا عن الجديدة.

6- إذ أخذنا بعين الاعتبار التفاسير الحديثة لمدرسة تاريخ الإشكال (Formgeschichte) للأناجيل والصلات اللغوية الموجودة بينها، نجد بسهولة أن الروايات هذه تشهد قبل كل شيء على سلطة يسوع المسيانية قبيل آلامه بوقت قصير. والحدث نفسه يُعرض بأشكال مختلفة عند الإنجيليين الثلاثة طبقاً للتقليد الذي كان في ذهن كل واحد.

هذه النظرية الأخيرة، التي هي الأصح حسب وجهة نظرنا، تدعمها العناصر التالية: يريد الإنجيليون الثلاثة بجملتهم أن يقولوا من خلال رواياتهم أنَّ يسوع، الذي لم يعرفه الجمع ولا تلاميذه، يعترف به العميان كمسيّا (“ابن داود”). والرواية ما هي إلاّ مثال يقدّمه الإنجيليون بمناسبة زيارة يسوع لأريحا قبل آلامه. طبعاً لا يعني هذا أن يسوع شفى أعمى واحداً إذ نعلم أنه قد منح “النظر” إلى عميان كثيرين. فالإنجيليون يتكلّمون في أماكن عدة عن شفاء جماعات من العميان (أُنظر متّى 12: 22…، 15: 30، 21: 14 وغيرها). لكن الإنجيليين الثلاثة لا يهدفون من خلال رواياتهم أن يعطوا توقيتاً لتحرّك يسوع وأعماله الشفائية اليومية بشكل متسلّسل. إنهم يختارون من بين هذه الأشفية الكثيرة التي صنعها يسوع نماذج تشدّد كلها على حقيقة واحدة: سلطة يسوع المسيانية وتحقيق نبوءات العهد القديم به. إن كان شفاء أعمى أريحا المسياني قد ورد بأشكال مختلفة في الأناجيل الثلاثة، فهذا يعود إمّا إلى التقليد الكنسي الذي كان لدى كل واحد منهم أو إلى الأهداف التي يسعى وراءها الإنجيليون الثلاثة. هكذا فإن تقليد متّى يتكلّم عن أعميين وعن شفائهما عند خروج يسوع من أريحا، ويتفق تقليد مرقس مع ذلك مضيفاً اسم الأعمى الذي شُفي، أمّا تقليد لوقا فيضع شفاء الأعمى قبل دخول يسوع إلى أريحا عندما كان يقترب من المدينة.

إن كنّا نهمل هذه الاختلافات ونفحص الروايات عن قرب ندرك من خلال علامات كثيرة أنها تشهد كلّها بأن الحدث هو إياه عند الإنجيليين الثلاثة.


(*) راجع: المتروبوليت كاليستوس وير، الكنيسة الأرثوذكسية: إيمان وعقيدة، الفصل الخامس: الأسرار

(1) أي تختص بالمسيح.

(2) إنجيل الأحد الخامس من الصوم.

Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
arArabic
انتقل إلى أعلى