Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
☦︎
☦︎

أ – كهنوت ملوكي

أصطفى الله إسرائيل ليجعله “شعباً مختاراً… مملكة أحبار… أمة مقدّسة” (خر 19: 5-6)، وقال بلسان أشعياء: “أمّا أنتم فتُدعون كهنة الربّ ويُقال لكم خدّام إلهنا…” (أ ش 61: 6). وقولوا “لابنة صهيون: هوذا مخلِّصك آتٍ، هوذا جزاؤه معه وعمله أمامه. وهم يدعون الشعب المقدّس، مفتدى الربّ. وأنت تدعين المطلوبة، المدينة غير المهجورة” (ا ش 62: 11-12).

هذه الشهادات المأخوذة من العهد القديم، والتي تشير إلى شعب الله المختار مهمة جدّاً، لأنها تشكِّل نموذجاً ورمزاً إلى مكانة شعب الله الجديد، أي المسيحيين، لأن شعب إسرائيل ليس سوى صورة للكنيسة (أنظر غلا 4: 21-31، رو 4: 1-25، 9: 6-8).

ويقول الرسول بطرس: “وأنتم أيضاً حجارة حيّة فقدِّموا أنفسكم لبناء بيت روحاني للكهنوت المقدّس كيما تُقرَّب ذبائح روحيّة مقبولة لدى الله بيسوع المسيح” (1 بط 2: 5). لا تشير هذه الآية إلى فئة معيّنة من المسيحيين بل إلى جميع المؤمنين الذين يتشكل منهم بنيان الكنيسة الروحاني، ويكون حجر الزاوية فيه يسوع المسيح نفسه، أخونا البكر (أف 1: 22، 5: 23، كو 1: 18). والمسيح هو “ملك ملوك الأرض… الذي جعل منّا مملكة من الكهنة لإلهه وأبيه” (رؤ 1: 5-6) لكي “نملك على الأرض” (رؤ 5: 10).

تًظهر هذه المقاطع الكرامة السامية لكل مؤمن في الكنيسة، والمسؤولية العظمى الملقاة على عاتقه. وهما كرامة ومسؤولية فريدتان.

ب – كاهن للجسد نفسه

المؤمن المسيحي كاهن بجسده وكامل وجوده. وهو مدعو إلى أن يقدِّم ذاته وجميع أعماله ذبيحة لله، ومعها الخليقة بأسرها التي سلّطه الله عليها (تك 1: 28-30). “فأسألكم إذن، أيها الإخوة، برأفة الله أن تجعلوا من أنفسكم ذبيحة حيّة مقدّسة مرضيّة عند الله. فهذه هي عبادتكم الروحية” (رو 12: 1). وهكذا تصبح حياة الإنسان بكاملها تقدمة مستمرة لله وعبادة إلهية متواصلة. فـ “إنسان الله” ينقطع عن التفكير والعمل الأنانيين، ولا تكون أفكاره الخاصة ومصلحته الذاتية محور كيانه، كما فعل المخلوقان الأولان عندما سقطا في تجربة الشيطان، بل مشيئة الله ومجد الربّ (1 كو 6: 20).

الحياة الشخصية لكل مسيحي تغدو شهادة لحضور الله وعمله داخل الإنسان حتى أن كل من يرى طريقة حياته يستنتج بسهولة أن المسيح يحيا فيه، وأنه ليس إنساناً عادياً، بل مواطن في ملكوت الله. وبهذه الطريقة تصبح أعماله وحياته كلها خدمة إلهية دائمة، وتستعيد معناها الأول الذي كان لها في فردوس الله (متى 5: 16، 1كو 10: 3).

فإذا سيطر هذا الإنسان على الطبيعة، واكتشف جميع طاقاتها وأخضعها، وبدّل كل شيء حوله، فإنه لا يفعل ذلك لنفسه بل لإخوانه جميعاً، ويقدّم كل أعماله إلى المسيح نفسه شكراً له (أم 19: 17، متى 25: 40، 2كو9: 12-15). “ومهما تفعلوا فافعلوه من صميم القلب كأنه للرب لا للناس، عالمين أن الرب سيجزيكم بميراثه، فللربّ المسيح تعملون” (كول 3: 23-24).

وفي الكتاب المقدس آيات عديدة تؤكد أن “الرحمة ومحبة الإخوة تسبقان كل مظهر عبادي آخر، وبدونهما تغدو عبادة الله باطلة” (هوشع 6: 6، الملوك الأوّل 15: 22، متى 9: 13، 5: 23-24، مر 11: 25، يع 1: 27، 15 الخ…). وقد أشار النبي أشعياء إلى الصوم الحقيقي وشدَّد على أهمية خدمة الإخوة: “أليس هو (الصوم) أن تكسر للجائع خبزك، وأن تًدخل البائسين المطرودين بيتك، وإذا رأيت العريان أن تكسوه وأن لا تتوارى عن لحمك. حينئذ يتبلج كالصبح نورك وتزهر عافيتك سريعاً ويسير برّك أمامك ومجد الرب يجمع شملك. حينئذ تدعو فيستجيب الرب وتستغيث فيقول: ها أنا ذا بقربك!” (أ ش 58: 7-9).

ولذا يقدِّم الإنسان خيراته وثمار أتعابه شكراً لله، كالخبز والخمر في سرّ الشكر الإلهي: “التي لك ممّا لك نقدِّمها لك على كل شيء ومن جهة كل شيء”. الخبز والخمر عطيتان من الله، ولكنهما في الوقت نفسه من ثمار تعب الإنسان. وهذا التعب بالذات هو ما يُقدِّمه الإنسان لإخوانه كذبيحة الله (أمثال 19: 17، متى 25: 40). ويقول النبي داود في سفر أخبار الأيام الأول: “إنما الجميع منك، ومن يدك أعطيناك. لأننا أنما نحن غرباء لديك ونزلاء كجميع آبائنا، وأيامنا كالظل على الأرض وليس لنا قرار. أيها الربّ إلهنا، أن كل هذه الثروة التي أعددناها لنبني لك بيتاً لاسمك القدوس إنما هي من يدك والجميع لك” (29: 14-16).

موقع الإنسان في قلب الخليقة يظهر أن الإنسان المولود جديداً (المعتمد) لا يمكن أن يكون ضد التقدّم والعلم. ولكنه يتجنَّب، بكل وسيلة ممكنة، تجربة الشيطان في عصرنا الحاضر، والكامنة في استخدام الطبيعة وقوى خليقة الله بطريقة أنانية.

إن الإنسان ليس مدعواً للعودة إلى طريقة الحياة الأولى، حيث كان المجتمع الزراعي سائداً، بل عليه أن يُسخِّر إمكاناته كلّها في سبيل تقدّم العلم والفن. ولكنه مدعو أيضاً إلى أن يروي جميع أعماله من روح الله، وأن يجعلها ينبوع تمجيد لاسمه القدوس (1 كو 6: 20).

“احذر أن تنسى الربّ إلهك ولا تحفظ وصاياه وأحكامه ورسومه التي أنا آمرك بها اليوم، مخافة أنك إذا أكلت وشبعت وبنيت بيوتاً حساناً وسكنتها، وكثر بقرك وغنمك وفضتك وذهبك وجميع مالك، يطمح قلبك فتنسى الربّ إلهك الذي أخرجك من أرض مصر من دار العبودية. الذي سيّرك في الأرض الشاسعة المخيفة حيث الحيّات المحرقة والعقارب والعطش حيث لا ماء. الذي أخرج لك الماء من صخرة الصوان، وأطعمك في البرّية المنّ الذي لم يعرفه آباؤك ليعنّيك [1] ويمتحنك حتى يحسن إليك في آخرتك، ولئلّا تقول في قلبك أن قوتي وقدرة يدي هما أنشأتا لي هذا اليسار، بل تذكَّر الربّ إلهك فإنه هو الذي أعطاك قوة تكسب بها اليسار لكي يفي عهده الذي أقسم به لآبائك كما في هذا اليوم” (تثنية 8: 11-18، أنظر 11: 16).

ج – كاهن خليقة الله

يظهر ممّا ذكرناه أن الإنسان يشعر أنه مسؤول عن خليقة الله، ويسمع مجدَّداً صوت الله الذي جعله في الفردوس وأمره وأوصاه أن يعمل فيه، ويضع عمله في خدمة إخوانه، أي أن يجعله أداة لمجد الله (تك 2: 15). والإنسان الروحي، إنسان الخليقة الجديدة الممسوح ملكاً وابناً للملكوت، لا يجد نفسه بعد ذلك في خلاف مع خليقة الله، بل يستعيد مركزه الصحيح في وسطها، أي المركز الذي كان لآدم قبل السقوط.

يقول بولس، أحد آباء البريّة، : “إذا حصل أحد على النقاوة، فإن كل شيء يخضع له، كما كانت حال آدم قي الفردوس قبل أن يخالف وصية الله”. ويذكر القديس اسحق السرياني أن إيمان الصدّيق بالله “يحول وحوش الغاب إلى حملان وديعة بريئة”.

ونحن نلمس سلطة الإنسان الملوكية والكهنوتية على سائر مخلوقات الله وشعوره بالمسؤولية العظمى نحوها، في سِيَرْ قدّيسي كنيستنا. فقد ذكر السنكسار الحادثة التالية عن البار كوبريوس: “فيما كان هذا البار صاعداً إلى الجبل مع حمار الدير ليحتطب، عضَّت دابّة الحمار في فخذه، فأمسك البار بالدابة وحمّلها الحطب قائلاً: “لن أتركك أبداً، بل ستخدمين وتقومين بعمل الحمار الذي جرحته إلى أن يتعافى”. فخضعت الدابة له وحملت الحطب”.

ونذكر أيضاً الحادثة التي رواها تلاميذ أنطونيوس الكبير للقديس إيلاريون أثناء زيارته حديقة دير القديس: عندما بدأ أبونا المغبوط أنطونيوس يزرع هذه الأشجار، كانت الوحوش البرية تتلف منها نصوباً كثيرة، لأنها كانت تدخل البستان وهي في طريقها إلى النهر لتشرب. فرآها القديس مرة وهي تدخل البستان فأمسك بيده عصا واقترب من الحيوان الذي كان يسير في طليعتها، وأمره أن يهرب. لكن الوحش توقف. فضربه القديس برفق على جبينه قائلاً: “لماذا تظلمونني، أنا الذي لم أظلمكم أبداً؟ لمادا تأكلون الثمر الذي لم تعتنوا بزراعته؟ اذهبوا ولا تتجرأوا فيما بعد على الدخول إلى هذا البستان”. ومن ذلك الحين كانت الوحوش تأتي إلى النهر لتشرب، ثمّ تعود دون أن تدخل البستان”.

د – بشير ملكوت الله

قال الرب يسوع: “أمّا أنت فامضِ وبشِّر بملكوت الله” (لو 9: 60). فحياة المسيحي يجب أن تكون فعل تمجيد لاسم الله بين البشر (متى 5: 16، 1كو 10: 31، 1بط 2: 11-12) حتى يأتي أولئك الذين خارج الكنيسة إلى الإيمان القويم. وهكذا تصبح حياة المسيحي دافعاً للعالم ودعوة له إلى معرفة الحقيقة.

يقول المسيح: “اذهبوا وتلمذوا كل الأمم” (متى 28: 19) وقد حدّدت الكنيسة قراءة هذا المقطع في صلاة على الزيت المقدّس، إشارة إلى أن دعوة المسيح موجَّهة إلى كل معتمد مسيحي. لأن المسيح لم يأتِ ليخلِّص عدداً محدّداً من “المختارين” كما يدّعي رجال الضلال. لقد جاء لخلاص البشرية جمعاء (1تيم 2: 4)، وجميع الناس مدعوون إلى أن يكونوا أبناء ملكوت المسيح السماوي. وإذا كنّا نرغب في أن تتحقق مشيئة المسيح علينا أن نعمل لخلاص الإخوة. فالمسيح يقول: “ولي خراف أخرى ليست من هذه الحظيرة، فتلك أيضاً لا بدّ أن أقودها. وستسمع صوتي، فيكون هناك رعيّة واحد وراع واحد” (يو 10: 16، أنظر 66: 19).

يجب أن يكون المسيحي “مستعداً أبداً لأن يرد على من يطلب منه دليل ما هو عليه من الرجاء” (1 بط 3: 15) ولكن ينبغي أن يكون ذلك “بوداعة ووقار. وإذا كنتم ذوي سيرة صالحة وافترى بعضهم الكذب عليكم، يخزى الذين عابوا حسن سيرتكم في المسيح” (1 بط 3: 15-16)، “وليكن كلامكم دائماً لطيفاً وظريفاً فتعرفوا كيف ينبغي لكم أن تجيبوا كل إنسان” (كول 4: 6).

ثمة رجاء وحيد وأكيد للمؤمنين، وهو المسيح (2 كو 1: 6، تيط 1: 2-3، 1 يو 3: 3)، ومن دونه لا رجاء للإنسان (1تس 4: 13، أف 2: 12)، فكيف يمكن ألاّ يبالي المؤمن المسيحي بذلك فيضع ثقته في البشر الأقوياء! إن الرجاء في المسيح وحده لا يحقق إرادة الله وحسب، بل هو أفضل مظهر لمحبة الله (1 يو 3: 17، 4: 7-8، 4: 20، حز 3: 16-21، 33: 1-20). وهو شهادة على نقاوة الإيمان القويم والحياة المسيحية. فإذا بقينا ثابتين على هذا الرجاء، نلتهب شوقاً لخلاص إخوتنا، ولا نهدأ إذا رأيناهم يعيشون في اللامبالاة والضلال، ويستمرون خارج هذا الرجاء، وذلك عملاً بقول القديس يعقوب: “أيها الإخوة، أن ضلَّ بعضكم عن الحق وردَّه أحد إليه، فليعلم أن من ردّ خاطئاً عن طريق ضلاله خلّص نفساً من الموت وستر كثيراً من الخطايا) (يع 5: 19-20، 1: 15، لو 15: 24-32).

فإذا واجه أخونا خطراً كبيراً لا يسعنا أن نؤجل العمل من أجله، فكما يقول القديس أنطونيوس: “من قريباً تكون الحياة والموت. فإذا ربحنا أخانا ربحنا الله” (أنظر حز 3: 16-21، 33: 1-20). أمّا إذا لم نحفل بذلك، فهذا يعني أن الشجاعة تنقصنا، فلا نعترف أن الرجاء ليس ثابتاً فينا.

ففي الحالة الأولى علينا أن نتذكر أقوال الرب بأنه سيعترف أمام أبيه بكل من يعترف به أمام الناس، وأنه سينكر من يجبن عن الاعتراف به أمام الناس (متى 10: 32-33، مر 8: 38، لو 9: 26، ، 12: 8-9، 2 تيم2 : 12). أمّا في الحالة الثانية، فعلينا أن نضع نصب أعيننا أقوال الرؤيا: “أريد أن تكون بارداً أو حاراً، ولكنك فاتر، لا حار ولا بارد، وقد أوشكت أن أتقيأك من فمي” (رؤ 3: 16).

ونذكر أخيراً أقوال فيلاريت متروبوليت موسكو: “إذا رفضت أن تتعلَّم أو تُعلِّم، فإنك لست تلميذاً للربّ. من أنت إذاً؟ لست أدري. ولا أدري أيضاً ماذا ستغدو في الحياة الحاضرة والآتية” (أنظر إرم 20: 9، حز 3 : 16-21، 33: 1-20، 1 كو 9: 16).


[1] يذلَّك

Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF

معلومات حول الصفحة

عناوين الصفحة

محتويات القسم

الوسوم

arArabic
انتقل إلى أعلى