قال غريغوريوس اللاهوتي:
“كنا محتاجين إلى إله متجسد ممات لكي نعود إلى الحياة”
(العظة 45: 28 في مين 36: 661)
في هذه الأيام الكلية الجلال والوقار، شهوة اشتهيت أن اقضي معك، يا يسوع، الأسبوع الأخير بل الأسابيع الأخيرة. رافقتك والجموع محيطة بك إلى قبر لعازر صديقك فأقمته في اليوم الرابع، فهلل لك الشعب ونقم المجمع اليهودي الأكبر (السنهدريم) حسداً وخوفاً على سلطته الواهية من زحفك المظفر. وهللت لك مع الجموع الخارجة لاستقبالك في أحد الشعانين وإن كان تذمر تلاميذك وعلى الأخص يهوذا الخائن من دفق مريم أخت لعازر الطيب عليك عشية السبت قد آلمني. هؤلاء الشهود العيان لشخصك الأعظم وآياتك الباهرة استكثروا عليك قاروروة طيب. لقد تعلموا منك أهمية الاحسان فإذا بهم يبخلون عليك باسم الاحسان، فإذا بهم يقترون عليك باسم الخير يا ينبوع كل احسان وخير وصلاح.
وكان دخولك أورشليم سبباً لزلزلة نفسية أصابت السكان. وهاج الصدوقيون والفريسيون والسنهدريم اليهودي يطلبون القضاء عليك، فوجدوا في يهوذا خازن جماعتك الضالة المنشودة لبيعك بثلاثين من الفضة يا خالق الذهب والفضة وكل الكون. وشئت، طاعة للآب السماوي، أن تساق كمجرم، فخرجت إلى بستان الزيتون في الجسماني تدخل في مرحلة توجع مفجع حتى تصبب العرق منك قطرات دم. وألقى الشرط والخدم الأيادي عليك كمجرم خطير، ففر تلاميذك الذين كانوا يبتارون قبل سويعات قليلة في الإعلان عن وفائهم حتى الموت. وساقك المهاجمون بدلالة قبلة يهوذا الخائن إلى سيد المفكر والنفاق في أورشليم حنان رئيس الكهنة السابق، فسخر منك وأحالك إلى صهره رئيس الكهنة الحالي قيافا تلميذه البار في النفاق. وخالف القوانين ودعا ليلاً إلى مجمع يحاكمك محاكمة مختزلة ومزورة للقضاء عليك بأسرع وقت ممكن كما يفعل أي رجل دولة معدوم الضمير والأخلاق للخلاص من اي خصم ولو كان خلاصة الشرف. وتعرضت للاحتقار والصفع. وفشل في استحضار شهود يشهدون عليك بمنكر ما. فاحتال عليك لانتزاع اقرار منك يحكم عليك بموجبه. فسألك عما إذا كنت المسيح ابن الله. لم تخف بل علمتنا أن نعترف بالحقيقة ببطولة نادرة. وبدلاً من أن تخامره الوساوس أمام هذا الإقرار كما خامرت للحظات بيلاطس، انتزع من المجمع قراراً بالقضاء عليك بتهمة التجديف التي تستوجب الموت. وغطى محاكماته الليلية الباطلة بمجابهة نهارية صوريّة في الصباح الباكر. وساقك محفوفاً بجماعته إلى الوالي بيلاطس البنطي (2) صاحب الحق الوحيد في تسليمك إلى الصليب. واندس رؤساء الكهنة والكهنة والفريسيون في صفوف الشعب يوغرون عليك الصدور لإرغام بيلاطس على اصدار الحكم عليك بالصلب. ونسي الشعب قيامة لعازر وما لا يحصى من عجائبك. واعترف بيلاطس بأنه لا يجد فيك سبباً ليقضي عليك. وأحالك إلى هيرودوس رئيس ربع الجليل لأنك جليلي فسخر منك. وتصالح مع بيلاطس على حسابك وأعادك إليه لتخضع لمحاكمة اعتباطية تجري فصولها بين ترددات بيلاطس ووساوسه التي أملتها براءتك وصورتك الطاهرة وكلماتك المدهشة وانذار زوجته من جهة، وبين ضغط الجمهور الهائج الصاخب بدسائس رؤساء الكهنة وحلفائهم الأشرار. كان بيلاطس يعلم أنهم اسلموك حسداً. غسل يديه المملوءتين من الرشى والظلم أمام الشعب تبرؤا من دمك ليعود بعد هنيهات إلى إصدار الحكم عليك بالصلب تجنباً للنقمة الشعبية القابلة للانقلاب إلى بلبلة واسعة. وخضعت في أثناء ذلك غلى ألوان من اللطم واللكم والجلد والهزء والبصاق وإكليل الشوك وكل ما هو معروف من ضراوات كان يرتكبها العسكر الروماني ضد الثائرين على السلطة الرومانية. وساقوك إلى الصليب مدمة قد خارت قواك من شدة ما قاسيت من آلام. فسخروا سمعان القيرواني ليحمل صليبك. آه! تعبت، أصابك الإرهاق تحت وقر الصليب الذي حملك إياه بنو آدم. وأتيت إلى الجلجلة فبسطوك على الصليب يا باسط الكون. وثقبوا يديك ورجليك بالمسامير لتثبيتك على الصليب يا من اقمت الكون ثابتاً بلا عمد ولا مسامير على قواعد فيزيائية هي معجزة من معجزاتك في كل الحقول. وأبيت أن تناول أي شراب يخفف من وطأة آلامك وذلك لكي تشرب الكأس التي سقاك إياها بنود آدم مترعة. وتعرضت مجدداً للهزء وجدف عليك اللصان المصلوبان إلا أن أحدهما تأثر بك فعاد عن ضلاله ليدخل الفردوس في اليوم نفسه. وكنت منهوكاً مع أنك تقبلت كل شيء طوعاً وببطولة. فلم يطل بك الأمر فأسلمت روحك بين يدي أبيك السماوي. ومع هذا لم تنسى والدتك الناظرة إليك فألقيت إليها بنظرة وأودعتها لدى التلميذ الحبيب الوفي يوحنا الذي انفرد ونساء تبعتك من الجليل -من دون تلاميذك جميعاً- بالجرأة على مشاهدة آلامك ودفنك. وغالى الجند فما رضي أحدهم بموتك فأقدم على التمثيل بك. والتمثيل أمر مستفظع. فتناول حربة ونحر بها جنبك الطاهر فجرى منه مسيل دم وماء، لتكون ذبيحة عهد جديد بالدم الطاهر دم ابن الله الذي نسخ إلى الأبد دماء ثيران وكباش العهد القديم. هذه الحربة هي السكين التي تم بها نحرك يا ابن الله وحمله الرافع خطايا العالم، لا كما ينحر اليهود الخراف بقطع الرأس. بل بفتح الجنب اشعاراً لنا بأن ذبيحتنا الفصحية هي ميلاد جديد لنا. ألم تخلق حواء من جنب آدم في يوم الجمعة؟ ألم تخلق الإنسان من ماء وتراب جبلتهما ومن نفخة من روحك في أنفه؟ واليوم تخلقنا بصورة أرفع جداً في فردوس جديد ألمع من الفردوس الأرضي السابق. خلقتنا بدءاً بأمر منك ونفخة. اليوم تخلقنا وأنت شهيد مدمى بالجراح حباً بنا. تجبلنا بدمك يا أزكى الشهداء وإمامهم! تجبلنا بماء جسمك. حواء الجديدة أي الكنيسة خرجت اليوم من جنبك قائمة على المعمودية والقربان المقدس والروح القدس. الروح القدس أتى إلينا أقنومياً لنكون أقانيم كنيستك الواحدة في فردوس جديد أعظم من الفردوس القديم. شجرة الحياة في هذا رمز لصليبك شجرة الحياة الحقة التي نأكل منها فلا نموت مثل آدم.
الكنيسة عروسك ولحم من لحمك وعظم من عظامك. هل تذكرت أمك العذراء ما قلته لها في عرس قانا الجليل: “ساعتي لم تأتِ بعد”؟ هل أدركت أن هذه هي ساعتك المرسومة في مقاصد الله الأزلية لخلاص البشر؟ هل أدركت أن عرس قانا الجليل رمز ورسم لهذا العرس الإلهي الذي يجري على خشبة الصليب بينك وبين الكنيسة حواء الجديدة ممهورة بالخمر الجديدة (أي دمك الطاهر) مهراقة مدرارة للسرور والغبطة الأبديين؟
فطوبى ليوحنا حبيبك، طوبى للنساء حاملات الطيب، شهود هذا العرس الإلهي! طوبى ليوسف ونيقوديموس حاملي جسدك الإلهي إلى وليمة الخلاص في القبر من حيث أشرق شمس البر بهياً زاهياً وعاقداً معنا فصحاً أبدياً وعرساً خالداً في الاغتباط والتحلي بالتأله الكثير الأنوار السماوية.
أنت قلت إن موتك معمودية (لوقا 21: 50). لقد شهدت شهادة حسنة واعترفت الاعتراف الحسن أمام مجمع اليهود وبيلاطس وقضيت نحبك شهيداً مؤسساً معمودية الشهادة ليكون كل المعتمدين باسمك معترفين وشهداء يسخرون من الموت والصعوبات ليرضوك وحدك.
نحن اليوم فيك أقانيم مخلوقون، آلهة مخلوقون، قد خلقنا الروح القدس. لم نعد بعد نفخة منك. نحن مجبولون بروحك القدوس لنكون “لحماً من لحمك وعظماً من عظامك”. وإذ نحن موجودن فيك، قائمون فيك، نغتذي بجسدك ودمك ونترعرع في روحك القدوس بنمو في رضوانك والنسك والأ‘مال الصالحة حتى نبلغ ملء قامتك حيث تكون أنت الكل في الكل. فأي نعيم في الدنيا أو أي فردوس مفقود يعادل قطرة واحدة من هذا الفردوس الجديد؟ فيا له من سر محبة لا يوصف: الله مذبوح على الصليب، المدفون في قبر في بستان هو مائدة فصحنا الأبدي اللذيذة وفردوسنا المشتى وقيامتنا من موت الخطيئة والفساد.
ولم تردع الظلمة المنتشرة على الأرض ولا الزلزلة ولا تمزق حجاب الهيكل أصحاب الرقاب الصلبة والقلوب الحجرية. يوسف ونيقوديموس -كممثلين للبقية التي تنبأ عنها أشعيا النبي، البقية التي ستخلص من آل إسرائيل بعد هلاك الباقين إلى يوم القيامة- من أعضاء المجمع تلميذاك السرّيان خرجا من السر إلى العلن وقدما يشتركان في مراسم دفنك. ودفنوك سريعاً لاقتراب السبت الذي كان الفصح في تلك السنة واقعاً فيه. وتواقح رؤساء اليهود فطلبوا إلى بيلاطس حماية القبر ففوض الأمر إليهم مقدماً بعض الجند. فأقاموا حراساً على القبر وختموه. وتوهمت النساء أنك بحاجة إلى طيوب تقي جسدك الطاهر من سرعة البلى، وهن لا يدرين أنك لن تبقى في القبر. وقمت ساحقاً الموت والجحيم وكل قوات العدو، فسعى الحراس إلى الرؤساء يخبرونهم بالحدث الجلل، فأمعن هؤلاء في الضلال ورشوا الحراس ليقولوا أن التلاميذ أتوا ليلاً وسرقوك بينما كانوا نياماً. ووعدوهم بتغطية هذه الكذبة لدى الوالي بيلاطس المعروف تاريخياً بالتلوث بالرشى ولكن كيف علموا بالسرقة وهم نيام؟ لقد اتفق الفرقاء على الباطل ومقاومة الحق حتى النهاية فكانوا مجدفين كباراً على الروح القدس الذي هو روح الحق.
ولكن في هذه السياحة الطويلة معك كنت أتجول في ثنايا نفسي لأجد فيها يهوذا وحنان وقيافا والكهنة والفريسيين ووجهاء الشعب وبيلاطس والعسكر والشعب المتقلب وبطرس وباقي التلاميذ وكل الجبناء والضعفاء والمتقلبين والحساد والسفاحين والخونة وسائر ألوان المجرمين مع فارق كبير. الفارق الكبير هو أن هؤلاء جميعاً كانوا يجهلون هويتك الحقيقية، فصليت أنت من أجلهم لكي يغفر لهم الأب السماوي، لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون. ألم يقل بولس رسولك العظيم أنهم لو علموا لما صلبوا رب المجد؟ أما أنا فأعلم أنك رب المجد الإله من الإله. ومع هذا خطئت دوماً وأخطأ إليك عن علم بكل ما خطئوا به إليك عن جهل مرة واحدة وتذكرت ما جاء في الرسالة إلى العبرانيين عن الوجود في صلب إبراهيم، فقلت أني موجود في صلب آدم فلا غرابة أن تختفي في طيات نفسي كل إمكانات الإجرام التي ارتكبها نسل آدم منذ عدوانه على وصية الله حتى يوم القيامة، وأن الشيء من معدنه لا يستكثر. فأنا سليل آدم، إذاً: مجرم خطير.
وقلت لنفسي، هذا الذي ذاقه يسوع البار من عذاب أليم هو ما تستحقينه أنت أيتها النفس المحشوة بالآثام حشواً منقطع النظير. وتضايقت في داخلي. كيف أقدم بنو آدم على إيذاء يسوع ابن الله ايذاء تستحقه أعمالهم الرديئة لا براءته وطهره. كيف عاملته أنا تكراراً بمثل هذه المعاملة التي أنا وحدي أستحقها؟ وهبطت بي نفسي إلى قعر جحيم الغمّ لأرى يد خفية تنتشلني من وهدة اليأس. فإذا بها يد يسوع، ليسمعني من فمه العذب: هكذا شاء الآب السماوي أن يسحقني بالآلام لأكون مسحوقاً طيباً يشفي آلامك. هكذا شاء أن أقرب نفسي بروح إلهي محرقة، لم تشوّ بالنار بالعذاب والروح، لأكون بالروح القدس محرقة حية قائمة من بين الأموات لا محرقة تفنى بالنار أو في الجوف، لأكون طعاماً حياً لا ميتاً، تتناوله في القربان لتحيا إلى الأبد، لتتحول جذرياً من ذاتك الملوثة إليَّ أردت بمحرقتي تحويلك. ونظرت أنا إلى أثار المسامير والحربة في جسدك الناهض من القبر مستفسراً عن سبب وجودها بعد قيامتك في جسدك السماوي النوراني لأسمع من عذوبتك إن حبك للبشر قوي إلى حد احتفظت معه بها في جسدك النوراني، لأن هذه هي مرضاة الآب السماوي أن تكون سمات المحبة المتألمة أقوى من الموت.
أيها الآب السماوي، لديك أبواب لا تعد ولا تحصى لإعادتنا إلى الفردوس. ابنك يسوع أقام الموتى وصنع العجائب التي لا تحصى حتى إن هدب ثوبه صنع معجزة. لماذا لم ينقذنا بغير هذه الطريقة؟ ولماذا لم تختر له طريقاً آخر؟ ودوى في أذني قول يسوع: “ليس لأحد حب أعظم من هذا أن يبذل نفسه عن أحبائه” (يوحنا 15: 13)، “هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية” (يو 3: 16).
فأدركت للحال أن هذا هو سر محبة الله الآب لنا وأن الحب بدون استشهاد هو كلام فارغ وادّعاء كاذب. فلا حبّ إلا في الدم المهراق.
الله الآب بذل ابنه. الابن الوحيد بذل ذاته محرقة على الصليب في الروح القدس. إله تألم من أجلي، كأنه أخطر المجرمين. الصليب هو عنوان محبة الثالوث القدوس لنا. فيا ذهني كن مصلوباً مع المسيح، يا عقلي كن مدفوناً مع المسيح، يا لساني اخرس، يا قلبي مت، يا نبضي قف، بما أنكم لا تطيقون احتمال هذا السر الرهيب. أنتم مهددون بالفناء عند ملامسته إن لم تدرككم رحمة ذبيحة الصليب. آه! لقد أصبت من القلوب مقتلاً أيها الثالوث القدوس. إن سهام حبك ألغت كل السهام الأخرى يا يسوع. فاجرحنا بها اجرحنا ما شئت، حتى تظهر فينا سماتك، حتى يتم التصاقنا الكامل بتجسدك وآلامك ودفنك وقيامتك وصعودك إلى السماء، لنجلس عن يمين الآب حاملين في ذواتنا مجدك الموعود. اعتبرت الصليب مجد. والقيامة هي مجدك أيضاً. فمجدك معك بهما غالبين فيك الخطيئة والموت والجحيم وكل قوات العدو (3).
ولا شيء يعادل في الروعة أناشيد الأرثوذكس في أيام الخميس والجمعة والسبت العظيمة والفصح المجيد. وقد أنشأتها أقلام لاهوتيين مذهولين.
وفي السنكسارات وعبارات ختام الصلوات تعابير لاهوتية حية:
1- سنكسار صلاة سحر الجمعة التي نقيمها عادة مساء الخميس:
“في يوم الجمعة العظيم المقدس نقيم تذكار آلام ربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع المسيح المقدسة الخلاصية الرهيبة، أعني: البصاق واللطمات والضربان والشتائم والضحك ولباس البرفير والقصبة والأسفنجة والخل والمسامير والحرية وعلى الأخص الصليب والموت والآلام التي احتملتها طوعاً لأجنا. ونقيم ايضاً تذكار الاعتراف الإلهي الخلاصي الذي ابداه اللص الشكور على الصليب.
أيها الميت العريان، كلمة الله الحي الذي من الآب قد ولد
أنت هو إله حي ولئن كنت رفعت على عودٍ وأُمِتَّ”.
عبارة الختام: “يا من احتمل البصاق والسياط والتقريعات والموت لأجل خلاص العالم أيها المسيح إلهنا…”.
2- البيت والسنكسار المقولان في الجناز:
“إن الضابط الكل قد رُفع على الصليب، والخليقة بأسرها انتحبت لما رأته معلقاً على الخشبة عارياً، والشمس أخفت أشعتها، والكواكب لم تعطِ ضوءها والأرض مادت مضطربة، والبحر توارى، والصخور تفطرت، والقبور تفتحت، وأجساد رجال قديسين نهضت، والجحيم تنهدت أسفل، واليهود تفكروا في اختراع أكاذيب لاخفاء قيامة المسيح، والنسوة صرخن هاتفات: هذا هو السبت المبارك الذي فيه رقد المسيح وسيقوم في اليوم الثالث”.
السنكسار: “في يوم السبت العظيم المقدس نعيد لدفن الجسم الإلهي وانحدار ربنا ومخلصنا يسوع المسيح إلى الجحيم، الذي به أعاد جنسنا من الفساد ونقله إلى حياة أبدية. فبتنازلك الذي لا يوصف أيها المسيح إلنها ارحمنا آمين!”.
وحدث عن روعة قصائد الجناز ولا حرج. فليراجعها القارئ الكريم. عبارة الختام: “يا من لأجلنا نحن البشر ولأجل خلاصنا اقتبلت بالجسد الآلام الرهيبة والصليب المحيي والدفن الاختياري أيها المسيح إلهنا…”.
3- أما ترانيم الفصح المعروفة باسم قانون الفصح الذي نظمه اللاهوتي الملهم يوحنا الدمشقي فهي أعجوبة الترانيم. تتكرر فيه كثيراً ترنيمة:
“المسيح قام من بين الأموات ووطئ الموت بالموت ووهب الحياة للذين في القبور”.
ومن أجملها هذه الترنيمة المستوحاة من خطبة غريغوريوس اللاهوتي (45: نهاية 28): “ايها المسيح المخلص، إننا أمس قد دفنا معك، فنقوم اليوم معك بقيامتك، أمس قد صلبنا معك، فأنت مجدنا معك في ملكوتك”. ففيها عمق لاهوتي كبير طرقه بولس الرسول وجعل منه غريغوريوس مادة دسمة جداً في خطبه للتعبير الرائع عن اشتراكنا في كل أحداث حياة يسوع. فيجعلها احداث حياتنا الخاصة: ولدنا معه،.. دخلنا أورشليم معه يوم الشعانين، تألمنا معه، صلبنا معه، دفنا معه، صعدنا معه إلى السماء، جلسنا عن يمين الآب.
وأيضاً: “إن المسيح الذي هو إكليل السنة المبارك منَّا، قد ذبح عن الكل باختياره كحمل حولي، فصحاً مطهراً، ثم اشرق لنا شمس البر، من القبر بهياً زاهياً”.
وايضاً:”يا مخلصي، يا من هو القربان الحي غير الذبيح، بما أنك إله، لقد قربت ذاتك للآب باختيارك، ولما قمت من القبر أقمت معك آدم بذريته كلها”.
البيت: “… جسماً حاملاً الحياة ودفيناً، جسدك مقيمأً لآدم الساقط الطريح في الضريح…” وفيه مقارنة طيوب النساء بهدايا المجوس.
السنكسار: “في أحد الفصح العظيم المقدس نعيد لقيامة ربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع المسيح المحيية. إن المسيح وحده انحدر لمحاربة الجحيم متنازلاً، فصعد إذ أخذ غنائم الظفر الجزيلة سالباً، فله المجد والعزة إلى أبد الدهور آمين!”.
وهذه القطعة الرائعة: “إذ قد رأينا قيامة المسيح فلسنجد للرب القدوس يسوع… لصليبك أيها المسيح إلهنا نسجد ولقيامتك المقدسة نسبح ونمجد، لأنه هو ذا بالصليب قد أتى الفرح لكل العالم… لأنه إذ احتمل الصليب من أجلنا حطم الموت بالموت”.
وأيضاً: “إن الذي أنقذ الفتية من الأتون لما صار إنساناً تألم بما أنه مائت، وبآلامه سربل المائت جمال عدم الفساد، أعني به إله آبائنا تبارك وتمجد وحده”.
وأيضاً: “المسيح فصح جديد وذبيحة حية، حمل الله الرافع خطايا العالم”.
وأيضاً: “لما رقدت أقمت المائتين منذ الدهر، وأيقظتهم زائراً ملوكيا مثل أسد من يهوذا”.
وأيضاً: “يا من أشرف، يا ما أحب، يا ما ألذ نغمتك أيها المسيح…”.
وأيضاً: “أيها المسيح الفصح الأجل الأمثل،… أنعم علينا بأن نساهم فيك بأوفر حقيقية، في نهار ملكك الذي لا يغرب أبداً”. (4)
ويزيد في روعة هذه الترانيم مبنى ومعنى، توقيعها الموسيقي البيزنطي المدهش. فالموسيقى البيزنطية قمة الموسيقى الشرقية وأمها. وقد قارن الموسيقار الكبير ركريا أحمد بها الموسيقى الغربية، فقال إن هذه تشبه السمن الصناعي بالنسبة للشرقية التي تشبه السمن البلدي.
وفي ختام هذا الاستعراض يحلو لي أن ابدي الملاحظات التالية:
1- إن المؤلفين المعاصرين يهملون الاستشهاد بأناشيد الكنيسة مع أنها مرجع لاهوتي كبير. وهي تسد الثغرات حين فقدان النص في كتابات الآباء الأُخرى. أشار لوسكي إليها عرضاً مع أنها تحوي خلاصة فكر الآباء في سر الفداء (5).
2- أناشيد الكنيسة الأرثوذكسية تكريس رسمي يومي في الصلوات لتحديدات المجامع المسكونية حول شخص يسوع الواحد الذي ننسب إليه صفات اللاهوت والناسوت. وإذا علمنا أن أناشيد الدمشقي مستوحاة إلى حد بعيد من غريغوريوس اللاهوتي أدركنا رسوخ كنيستنا في التمسك بنسبة الآلام والصلب إلى أقنوم يسوع. وهذا ليس نجاحاً منفرداً للاهوت كيرلس في المجمع الخامس المسكوني بل نجاحاً للاهوت الكنيسة المستمر منذ الرسل حتى اليوم.
3- تعارض لاهوتنا بقوة مع النسطورية.
(1) [حاشية مرتبطة بعنوان الفصل “في أسبوع الجلجلة”… (الشبكة)]
الفداء على الصليب وفي القبر والقيامة سيكون يوماً موضوع كتاب على حدة. فاللاهوتيون المعاصرون لم يشبعوه درساً. ترامبيلس اليوناني نقل عن مارتنسن البروتستانتي نظريات أنسلموس الغربي. ميرالوت بورودين لفتت الانتباه إلى العظة 45 من غريغوريوس اللاهوتي دون إهمال سواه وبخاصة الدمشقي (التأله، ص 55-66 و211-216). فلاديمير لوسكي طرق الموضوع في “اللاهوت الصوفي” (1944) وفي مقال في مجلة سوبورنوست الأنكليرية (1949) وظهر فرنسياً “على الصورة والمثال” (95-109) يرد فيه ضمناً على تحليلات ريفيير الكاثوليكي وينحاز بقوة إلى عظة غريغوريوس اللاهوتي رقم 45 دون تبيان السبب. ولكنه أحسّ مثل بورودين أن غريغوريوس هو أستاذنا أيضاً في عقيدة الفداء: “لزمنا أن يتجسد الله ويموت لكي نستطيع أن نحيا… لا شيء منها يستطيع أن يعادل معجزة خلاصي: بضعة قطرات من الدم تعيد تأليف الكون برمته” (45: 28 و29). إنه سر المحبة المغموسة في الدم. إلا أن لوسكي عاد في دروسه العقائدية الأرثوذكسية إلى نظرة شاملة تضم جميع عناصر الموضوع دون أن يدخل في التفاصيل (العدد 50، ص 94-99). لوسكي لاهوتي محترف مشغوف بالله.
(2) في العربية اسمه غلط. في اليونانية اسمه بونتيوس بيلاتوس.
(3) هذا الفصل يذكر على نطاق واسع بالكتاب المقدس وآباء الكنيسة وآباء البرية. وعلى الأخص غريغوريوس اللاهوتي وكيرللس وأندراوس الدمشقي أسقف كريت ومكسيموس المعترف والدمشقي وكتبة الترانيم الأرثوذكسية وسمعان اللاهوتي الحديث. وفي الأسلوب كنت قلبياً مع الأول والثالث والأخير.
(4) في أناشيد عيد الصعود دفعة أُخرى رائعة عن جلوس طبيعتنا عن يمين الآب وتألهها.
(5) إن ليتورجية كنيستنا الأرثوذكسية هي أبهى وأجمل وأعمق مرآة لاهوتية تعكس الإيمان الأرثوذكسي… (الشبكة)