Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
☦︎
☦︎

كلمة لابد منها

أصابني أرق في ليل 20/21 حزيران 1979، فقمت أتناول هذا الكتاب، وأضع آخر اللمسات على بعض صفحاته. وكان البطريرك الطوباوي الياس الرابع مائلاً في ذهني خلال ذلك. ولا عجب في ذلك. فقد كان-أوسع له الله في رحماته العظمى- دوماً في خاطري. فرغت من الكتاب في تمام الساعة الثانية والنصف. فإذا بها-كما يقول البعض-ساعة انتقال الطوباوي إلى مجد الله. وهكذا ارتبط هذا الكتاب في ذهني بذكره الطيب. وخشيت على الكتاب من أن يطويه الدهر حتى جاء، أمس، قدس الأب الخوري ابرهيم سروج يحيي الأمل الضائع. حقاً: “رُبَّ آخٍ لم تلده أمك”. فالأخ ابراهيم هو إحدى تعزياتي الكبرى عادة. وما دام الكتاب يدور حول التجسد الإلهي الذي نعيّد له اليوم، فليقبل ابن الله الصائر ابنا للناس أن يباركه وبيته بكل قوة ملء اتحاد ناسوته بلاهوته، في الروح القدس، لمجد الله الآب، وفرح المؤمنين بسكنى الله القوية بين ظهرانينا. فالكتاب ثمرة جهود مضنية لإشراك البشر في سر سكنى ملء اللاهوت جسدياً في يسوع ليعودوا هياكل حية لله. أهّلنا الله جميعنا لهذا الحظ السعيد الأوحد، ونقلنا من الالتصاق بالتراب إلى الإلتصاق بالله.

اسبيرو
25/3/1980

الإهداء

في عيد الأقمار الثلاثة باسيليوس الكبير وغريغوريوس اللاهوتي ويوحنا فم الذهب. ينتصب أمام نظري تاريخ عملاق، إذ احتفلنا في بدء العام بمرور 16 قرناً على انتقال الأول إلى حبيبه يسوع. وسنحتفل في العام القادم بمرور 16 قرناً على انعقاد المجمع السادس المسكوني الذي شجب بدعة المشيئة الواحدة. وكيف أذكر غريغوريوس اللاهوتي ولا أذكر محميه بطريركنا المفضال غريغرويوس حداد لمرور 50 سنة على وفاته (12/12/1978) وتلميذه العلملاق البطريرك ثيودوسيوس لمرور 580 سنة على بطريركيته اللامعة (4/11/1978)، وخليفته في المحبة والإحسان والسخاء بلا حساب الشهيد في الكهنة الخوري حبيب بن الشهيد الخوري نقولا خشة (16/7/78) لمرور 30 سنة على استشهاده.

فإلى أرواحهم أهدي كتابي هذا ملتمساً بركتهم ورضوانهم وسائلاً الله أن يعصمني فيه من الزلل، ويحفظني في خط المجامع المسكونية وآباء الكنيسة قويم الإيمان، ويغمر والديَّ وأجدادي بعفوه ولطفه في ملكوته الأبدي (بصلوات القراء الأحباء) ثواباً لهم على ما أورثوني من صلابة أرثوذكسية راسخة.

 30/1/1979

مقدمة

الأخوة الأحباء في البلمند وطرابلس واللاذقية ألحّوا عليّ جداً في العام الماضي بنشر مؤلفي في التجسد الإلهي. ولم أستطع أن أقاوم رغبتهم الغالية. فاستعنت فوراً بالأخ العزيز إيليا شلهوب لموافاتي بنسخة من كتاب ايفانس عن لاونديوس البيزنطي –طال انتظاري لها- فوافاني بها على جناح السرعة.

لقد سبق لي أن ترجمت مقالاً لاستاذي المرحوم بول افدوكيموف ظهر في “النور” الغراء (العام 1947). وفي عهد المثلث الطوباوي البطريرك ثيودوسيوس قمت في العام 1965 بكتابة المقال اللاهوتي للنعمة فكانت 4 منها في سر التجسد. وفي العام 1967 كتبت له عظة الفصح ومقالاً عنه ظهراً في عدد أيار من مجلة “النعمة”. وفي فصح 1968 كتبت له المنشور الفصحي الموزع في دمشق.

وكتبت أيضاً القسم اللاهوتي في كتاب التعليم المسيحي في صف البكالوريا بسوريا (1965). وفي أيلول 1972 ظهر لي في “ملحق النهار” مقال مكثف جداً عن مرحلة ما بعد المجمع الرابع المسكوني. وفي 18/4/19777 ألقيت في ندوة أحباء في طرابلس حديثاً عن “ما بعد خلقيدونية”. وفي العام 1965-1966 صببت المقالات الأربع كتاباً. فقدت أصله وبقيت نسخة ناقصة قليلاً عنه. وطلب مني إعداد محاضرة عن الفرق المسيحية قبل الفتح العربي للإلقاء في كلية التاريخ في الجامعة اللبنانية بطرابلس فكان أمر. فألقاها أحدهم.

هذا كله لم يدخل -كما هو- في هذا الكتاب وإلا كان مؤلفاً صناعياً. فكان لا بد من صب الأمور صبة جديدة إلى حد كبير وإعادة النظر في الموضوع بصورة شاملة. فالموضوع المطروح لا يقبل مني إلا أن أذيب دماغي مجدداً في مطالعة مئات بل آلاف الصفحات أن أنسحق في الصلاة وتأمل أنوار القضايا اللاهوتية المطروحة التي لا يجوز أن أرفع فهمي إليها إلا متوكلاً على رحمة الله ومكحلاً عيني المظلمتين بنور الروح القدس. هذا السر أي سر تدبير الله لم يتعلمه الملائكة إلا في الكنيسة (1). فمن أنا لكي أتنطس للمهمة؟ فمنذ سنوات أتردد جداً في تجشم المشقة مع أني طالعت بعد 1966 ألوفاً من الصفحات وأعددت الملفات.

وقفت أمامها مثقلاً لعدة أسباب منها:

1. لم يعد نظري -كما كان قبلاً- قادراً على السياحة بلمحات بصر بين صفحات الكتب مهما تعدّدت أمامي على طاولة واحدة.

2. كلما أعدت مطالعة المخطوط وجدته عسير الفم، يزيده تعقيداً أسلوبي الحقوقي الرفيع السوية في المرافعات الحقوقية. وتفكيكه صار عسيراً علي.

3. قناعتي بأن المسيحيين العرب تهافتوا -ككل العرب- منذ عصر النهضة على ظواهر الثقافة الغربية، فذهلوا بعلومها وحضارتها المادية ولم ينفذوا إلى جوهرها. ولذلك نالوا قسطاً مما ذكر، بينما بقوا بلا فكر عميق. ومن أين لهم ولسواهم الفكر العميق إن لم يعودوا إلى الفكر الأصيل في الفلسفة اليونانية وآباء الكنيسة؟ لذلك بقوا بلا فكر ديني وجافوا في مطالعة الكتب الدينية حتى صار الدين لديهم قشوراً كما كان في العصر العثماني كما وصفه أنعام الجندي:

فهرس الكتاب

كلمة لا بدَّ منها 5
الإهداء 6
مقدمة 7-12
في مغارة بيت لحم – دعاء 13-15

القسم الأول: تاريخ عقيدة التجسد الإلهي

الفصل الأول: ما قبل المجمع المسكوني الأول 19-23
الفصل الثاني: الصراع حول عقيدة الثالوث 24-31
الفصل الثالث: الصراع حول عقيدة التجسد الإلهي المجمع الثالث (أبوليناريوس، ثيوذوروس المصيصي، نسطوريوس) 32-26
الفصل الرابع: المجمع الرابع المسكوني ونتائجه أوطيخا، وديسقوروس 37-43
الفصل الخامس: المجمع الخامس المسكوني 44-49
الفصل السادس: المدرستان الأنطاكية والإسكندرانية 50-57
الفصل السابع: المدرسة الأوريجنسية 58-61
الفصل الثامن: نظرة إجمالية – جدول مقارنة 62-64
الفصل التاسع: أبعاد عقيدة التجسد الأخرى  
       1- الإلهام الإلهي 65
        2- الحياة الروحية والاتحاد بالله 65-66
        3- الأنتروبولوجيا 67-75
        4- علاقة الجسد بالروح 75-77
        5- الرجل والمرأة متساويان 78-79
الفصل العاشر: خلاصة البحث (الثالوث والشخص) 80-83
المراجع 84-90
دعاء: أيها الآب السماوي 91-92

القسم الثاني: التجسد الإلهي

الفصل الأول  
        1- مدخل 95-100
        2- نبذة تاريخية 100-103
الفصل الثاني: المجامع المسكونية  
        – المجمعان الأول والثاني 104
        ب- دستور الإيمان النيقاوي 104-106
        ج- المجمع المسكوني الثالث 106-108
        د- المجمع المسكوني الرابع 108-117
        هـ- المجمع المسكوني الخامس 117-119
        و- المجمع المسكوني السادس 119-122
الفصل الثالث: تعليم الآباء 123-128
الفصل الرابع: تعليم الكنيسة في الطبيعتين 129-138
        أ- مفهوم التقنيم 132-134
        ب- نوعية الاتحاد 134-135
        ج- كيفية الاتحاد 135-136
        د- نتائج الاتحاد 136-138
الفصل الخامس: تعليم الكنيسة في المشيئتين 139-140
الفصل السادس: الجهل لدى يسوع 141-142
الفصل السابع: العذراء مريم 143-144
الفصل الثامن  
        أ- دوام اتحاد الطبيعتين 145-146
        ب- خاتمة في الاختلاف الخريستولوجي 146-148
الفصل التاسع: ناسوت آدم وناسوت المسيح 149-154
الفصل العاشر: في أسبوع الجلجلة 155-165
الفصل الحادي عشر: القيامة 166-175

القسم الثالث: الألفاظ اللاهوتية

الفصل الأول: استعمال كيرلس الاسكندري للألفاظ اللاهوتية 179-194
الفصل الثاني: الألفاظ اللاهوتية في النسطورية 195-198
الفصل الثالث: الأقنوم  
        1- لفظة شخص في العربية 199-200
        2- الأقنوم في اللاهوت المسيحي 200-206
        3- ما هو الأقنوم 206-214
        4- أقنوم يسوع كلمة الله المتجسد 214-216
الخاتمة 217-218

إلى هنا ينتهي الكتاب الموجود على الشبكة

 
دعاء: أيها الروح القدس 219-220
ملحق عن الاجتماعات بين الأرثوذكس واليعاقبة 221-235
        1- تعليقات على الأبحاث 222-228
        2- إعلان 1972 228-235
دعاء أخير 236
فهرس الكتاب 237-239

“كان الحكم العثماني أعدى أعداء الفكر والمعرفة مهما كانت بسيطة. وقد شهدت بلادنا زوال مؤسساتها الفكرية والاجتماعية زوالاً تاماً” (2).

وفي العلوم الدينية مازلنا على هذا. فمنذ ظهور كتاب “الهداية القويمة إلى الأمانة المستقيمة” لبطريرك أورشليم أنثيموس (العام 1791) لا أعرف للأرثوذكس أثراً لاهوتياً قيّماً خالياً من الأخطاء. وليس حال سوانا بأفضل منا، مع أن القارئ الكريم سيرى في متن الكتاب أن اللاهوت نشاء في ديارنا، في الأرض الواقعة بين الإسكندرية وأنطاكية فكبدوكية…

4. صعوبة تصريف الكتاب الديني لأن مطالعة الجرائد والمجلات تكتسح اهتمام الناس وتتفق مع مزاجهم السطحي ورغبتهم في الإطلاع على التوافه من حال الناس والمجتمعات (3).

ولكن حب البلمنديين والطرابلسيين واللاذقيين للمعرفة اللاهوتية والتعمق اللاهوتي تغلب على اعتراضاتي. وإذا استمر معهد اللاهوت في البلمند على نشاطه المعهود خلال هذا العام مشمولاً بدعم غبطة البطريرك الياس الرابع السامي الاحترام، فلا أستبعد أن نكون مع إطلالة القرن الحادي والعشرين مزودين بلاهوتيين عميقين. فغبطته صاحب الفضل الأكبر في إقناع المثلث الرحمة المطران أنطونيوس بشير برصد ربع مليون دولار لإنشائه. وكان ذلك في 20/5/1964 في فندق سيميراميس في دمشق، بحضور صاحب السيادة مطران طرابلس الياس وحضوري. وكرر -رحمه الله- الوعد أمام المثلث الرحمة المطران أغناطيوس حريكي وصحبه من المطارنة على ماجاء في رسالة الأخير إليّ في 1/7/1964. ومازال غبطته يضع معهد اللاهوت على رأس اهتماماته حصراً.

وبعد هذا الاستطراد أعود إلى الموضوع. لقد راعيت في الكتاب القارئ العربي قدر المستطاع. فتخليت كثيراً عن قالبي الحقوقي واللغوي لأكون مفهوماً قدر الإمكان. ولم أستفض أو أستنفد كل الموضوع. فظروف الطباعة تفرض ذاتها عليّ. فلو أردت إيراد كل ما في ذهني من الحواشي لجاء الكتاب في 4/5 حواشي أغلبها الساحق في اللغات الأجنبية. ومن جهة أخرى فالقارئ العربي لا يتحمل بعد هذا اللون من التفكير اللاهوتي العميق. فقد انقطع عن تراثه الأصيل المكتوب أساساً في اللغة اليونانية. فأنقل الأن إليه ما صنعه أجداده ونقله عنهم الأوروبيون ومسيحو العالم كتلاميذ في مدرسة أولئك الأجداد الأبرار. فهو لذلك آبائي قلما يستشهد بالكتاب المقدس.

وهذه خطتي العامة:

القسم الأول إطالة للمحاضرتين المذكورتين. هو اضعافهما. إلا أني حافظت على الأسلوب الخطابي لتسلس وعورة الموضوع. فهو إجمالاً تاريخ للعقيدة. المقالات الأربع في مجلة “النعمة” محبوكة بصورة يتعذر عليّ فكها. فالحواشي فيها فاحشة. والأسلوب متين. وإعادة طبعها عسيرة. فاكتفيت بتقسيمها إلى فقرات كثيرة، وتصحيح الأخطاء الطباعية والسهو، وحذف أجزاء لتصبح فصولاً جديدة. وإعادة النظر كلياً أو جزئياً هنا أو هناك، وحذف بعض الفقرات نهائياً لعدم اللزوم إليها.

وأعدت صب الفصل المتعلق باستعمال القديس كيرلس الإسكندري للألفاظ اللاهوتية حتى عاد سلساً نسبياً ومفوماً. وحذفت مناقشة. وأبقيت إجمالاً على فصل “الأقنوم”. إلا أنه عسير جداً على غير الاختصاصيين. ومع هذا مهّدت له بالحديث، في عدة فصول، عن “الأقنوم”. فأضحى هذا الفصل تتمة له. فمن شاء كدَّ ذهنه ليفهم فليكده. وقد جعلته الفصل الأخير لعل الله ينير المطالع للفصول السابقة فيحتمل وعورة هذا الفصل.

أما ما كتبته للمرحوم ثيودوسيوس وظهر باسمه فخضع لحذف مقاطع.

واكتفيت بالقدر الوارد في هذا الكتاب ولو جاء ناقصاً. ومع هذا فهو الآن أضعاف كتاب 1966 غالباً.

أما طريقة التأليف فهي خاصة جداً. فأنا قادر على التأليف بدقة علمية أوروبية وترتيب أوروبي دقيق كأن الأمر رياضيات أو فيزياء. إلا أني أرفض رفضاً قاطعاً أن أسلك هذا السبيل في اللاهوت. هذا علم الإلهيات. يسوع قال أنه “الحياة” (يوحنا 14: 6). فكيف أتحدث عنه بلغة الجماد والحيوان؟ وقد سلخت عمري الديني في مطالعة الكتاب المقدس وآباء الكنيسة والبرية، فتعلمت أن أجعل حديثي في الإلهيات صلاة وتسبيحاً وتمجيداً في ذهول بمن أحبنا وبذل نفسه عنا. فلا أرضى في اللاهوت أن أكون تلميذاً أوغست كونت وأسلافه وخلفائه بل تلميذ قيثارات الروح القدس الآباء الملهمين عاشقي الله المتيمين. فمن أنعم الله عليهم بعشق الله -كالآباء- لا يذكرون اسمه إلا وهم خاشعون ساجدون. ففي عماوس تعلمنا كيف نسمع الكتاب المقدس: “أو لم تكن قلوبنا مضطربة فينا، إذ كان يخاطبنا في الطريق، ويفسّر لنا الكتب؟” (لوقا 24: 32). القلب المبرد لا يستقبل يسوع وكلامه. يسوع ينزل كنار لاهبة.

وقد استعملت أسلوباً تربوياً-نفسياً يساعد الشرقي على التذكر. فالتكرار الصرف أو التكرار الناقص هنا وهناك يذكران القارئ بما سبق أن قرأه. فقد يرى فروع الموضوع الواحد هنا وهناك.

ومسائل التجسد الإلهي هي التي مزّقت شرقنا فرقاً. ومع اعمادي نسبة ممكنة من الموضوعية والحياد، أبقى أرثوذكسياً حتى مخيخ العظام. ولجهة الأقباط والأرمن والسريان والأحباش عرضت الموضوع بأقصى حدود النزاهة مبيناً سطحية الخلاف. وقد التقى لاهوتيون منهم ومنا في الأعوام 1964 و1967 و1970 و1971 و1972. وأجروا في العامين 1964 و1967 دراسات لاهوتية وصدرت عنهم توصيات وحدويّة تعلن وحدة الإيمان الأساسية (4).

لكني لم أستعمل لهم اسم “غير الخلقيدونيين”. فالنساطرة أيضاً ومن سبقهم غير خلقيدونيين. آثرت الإبقاء على اسمهم المشهور “يعاقبة” (نسبة إلى يعقوب البرادعي) وإن كان هذا من رجال القرن السادس لا الخامس. المسألة اصطلاح لأتجنب ما شاع عنهم من تسمية “القائلين بالطبيعة الواحدة” أو “المونوفيزيتيين” ولكن استغربت التصريح الذي صدر عن اجتماعهم بلاهوتيين كاثوليك كبار في فيينا من 7 إلى 12 أيلول 1971 تعود فيه نغمة الخلاف على الألفاظ، مع أنها حلت في لقاءاتنا. ونحن والكاثوليك واحد في هذا الباب. وكان حاضراً غريلمايير سيد هذه الحلبة؛ فكيف قبل بهذا البيان السطحي مع أن الدراسة استغرقت 170 صحفة (5) ؟(6)

وفي ختام هذه المقدمة ألفت انتباه القارئ الكريم إلى أمر بالغ الخطورة. الأغلبية الساحقة تتوهم أن الدين يتطلب بساطة. وهذا منتهى الضلال إن قصدنا بالبساطة الغفلة والجهل والسذاجة. فالمعرفة اللاهوتية هي أعلى درجات المعرفة. بل هي فوق كل معرفة لأن العقل عاجز عن إدراكها. الروح القدس وحده يمنحنا إياها إكليلاً لشوقنا وجهدنا. وقد شكا إلي أحباء كثيرون عسر كتابي “يهو أم يسوع” مع أنه نزل إلى أدنى حد ممكن من التبسيط. وإنما تحتاج كتبي إلى تجنب لأسلوب مطالعة الجرائد والمجلات. إنها تتطلب صبراً وتأنياً والعودة إلى ساحة المطالعة تكراراً. حتى كتابي “نصف إنسان” المبسط جداً في حوار ممتع يحتاج إلى المطالعة 3 مرات. فهناك كثافة أفكار في قدر محدود من الصفحات بما أن مضطر إلى ذلك ما دام المسيحي العربي لا يشتري ولا يطالع الكتاب الديني إلا إذ كان قياسه محدوداً. لقد فقد عمق السلف الصالح. وامصيبتاه!

فأسأل من خرق الحدود جميعاً ولبسني وصبغني بجمرة دمائه القانية وأنهضني من المزبلة إلى الجلوس عن عرش أبيه في مجد أسنى أن يجعل هذا الكتاب نوراً للمطالعين وقرباناً اقدمه على مذبحه السماوي لغفران ذنوبي وجرائمي وتطهيري من شروري بصلوات المطالعين الأحباء ورضوانهم. آمين (7).

في مغارة بين لحم (8)

دعاء

 اللهم! يا من بعلم النجوم فتحت أذهان المجوس العلماء المتتبعين حركات النجوم والكواكب والقمر، الساهرين في الليل لهذا الغرض، اللهم! يا من بالنور الذي أحاط بالرعاة الساهرين ليلاً في الفلاء على قطعانهم وبشرى الملاك، أعلمتهم بأنك “المسيح الرب” الإله المولود في بيت لحم مدينة داود وأعطيتهم علامة على تنازلك الذي لا يوصف ألا وهي آية (9) اضطجاعك مقمطاً بأقمطة في مذود للبهائم، ليفتشوا عنك يارب المجد لا في الدور والقصور والمنازل بل في حظيرة البهائم.

اللهم! يا من اخترت المجوس لينزلوا اورشليم بنبأ ولادتك ملكاً، أعطى الله النجم آية قادتهم للدلالة على مولدك،

اللهم! يا من اخترت الرعاة الساجدين السذَّاج أول المنادين المبشرين بربوبيتك، كما اخترت فيما بعد صيادي السمك صيادي المسكونة، فبشروا في المغارة بما رأوا وسمعوا عن الصبي المولود،

اللهم! يا من اخترت فئة العلماء المشتغلة بالنجوم وفئة الرعاة السذج الساهرين ليلاً مثلاً أولئك مع القمر والنجوم والكواكب لا سمير لهم سواها،

اللهم! يا من قبلت من المجوس لا ذهب الخضوع فقط لملكيتك بل لبان السجود للاهوتك ومرّ تضميخ جسدك أيها المولود سلفاً لتموت من أجلنا صلباً، فأنبأوا سلفاً أنك آتٍ لتموت وأن دم الشهادة يلاحقك منذ مولدك،

اللهم! يا من ولدت فاضجعت في مذود البهائم لتقدس بهيميتي أنا الذي بسقطة جديّ آدم وحواء لم أتحول فقط إلى بهيمة بل صرت أرتكب الشرور ما لا ترتكبه الأفاعي وأضرس وحوش الغاب وأفتك الجراثيم والأوبئة،

اللهم! يا من لم تجد مكاناً في نزل بيت لحم وبيوتها، فاستقبلك فيها مزود البهائم، مع أن زكريا أبا المعمدان قد تنبأ قبل أقل من 3 أشهر أنك آتٍ لتفتقد شعبك،

اللهم! يا من فرح بمولدك جند السماء ونادوا بمجدك في العلى وبشروا يوم مولدك بسلام يحل على الأرض ويغمر الذين يُرضونك،

اللهم! ارفع عقول الناس وقلوبهم جميعاً إلى السماء ليقرأوا في سجل هذا الكون البديع الذي خلقته نشائد الحمد لاسمك وليرتفعوا من الانغماس في الأرض وشؤونها وشجونها إلى تأمل عظائمك التي لا توصف، واجعل لنا في النجوم وكل إيماء علوي يومئ لنا به جود صلاحك آية تنتزع من قلوبنا لك هياماً وولهاً يشدّان كل أشواقنا إليك،

وأسند عقولنا لئلا تتطاير كالشظايا حين تتأمل تنازلك المذهل، لتضطجع في مذود البهائم، يا من الأكوان جميعاً قامت بكلمة أمره، وتُوجد بعنايته، وتزول بإشارته؛ بل اغمرها بالنور الذي أضاء حول الرعاة جاعلاً إياه ينيرها من الداخل لا من الخارج فقط،

وطهِّرنا من بهيميتنا واسحق رؤوس أهوائنا،

ولا تجعلنا ننام غافلين يوم تأتي لافتقادنا، كما غفلت عنك بيت لحم، بل اجعلنا على أتم الاستعداد لاستقبالك في مذود القلوب بعد أن يكون روحك القدوس قد أحرق شروره وزيّنه بالفضائل فأضحى طاهراً تحل فيه على الرحب والسعة ضيفاً كريماً يملك على قولبنا إلى الأبد، يسجلنا في سجل احصاء مملكته، يا من تنازل فأُحصي في سجلّ إحصاء اوغسطس قيصر الأمبراطور الروماني الوثني، فقضي بهذا التنازل على ممالك الوثنية،

ولا تمر علينا ضيفاً نسيّاً منسياً كما وقع لك في بيت لحم، بل املأنا يقظة روحية لكي نقتنصك كصيادين ماهرين، كلما لاح في الأفق أنك عازم على المرور على ديارنا، زائراً بين لحم ولبنان والعالم أجمع.

ماراناثا! أيها الرب يسوع تعال! تعال أيها الرب يسوع تعال ولا تبطئ!

تنبيه

يعتذر المؤلف عن الإهداء لأنه تخلى عن حقوقه جميعاً لدار النشر، إذ أنها تحملت أعباء ثقيلة في طباعة الكتاب، فاستحقت شكره الجزيل وتبرعه المتواضع.

اللاذقية عيد الميلاد 1965 ومغارة بيت لحم 2/1/966 وميلاد 1965 (حساباً شرقياً أي 7/1/1966) والبلمند في ميلاد 1978.

 

 


(1) راجع مقالي في الظهور الإلهي الحاشية 3 من الصفحة 76 من العدد 3/1979 من مجلة “النور” الغراء.

أضف إليها: نصوصاً من ايريناوس أوردها قاموس الروحانية (7: 1949-1950)، والدفترين 1 و2 من دروس الأب بوريس بوبرنسكوي في الثالوث القدوس (بالفرنسية) ولوسكي في كتابه “على الصورة والمثال” (ص: 131 و133) ومقال أوليفيه كلمان في Messager لعام 1959 (ص: 153) وسيرج فيرخوفسكوي في الصفحتين 139 و140 من أماليه في معهد القديس فلاديمير باميركا، وعنوانها “الله والإنسان” فضلاً عن رسالة أملاها على صديق بهذا الخصوص.

راجع غريغوريوس بالاماس الثالوثية (1: 3، 6 وعدة مواضيع أخرى).

(2) دراسات في الفلسفة اليونانية والعربية، ص 12.

لو عاد مفكرو العرب القدماء إلى الحياة لكانوا أقدر منا على استيعاب الفكر الأوربي، نظراً لرسوخهم في الفكر اليوناني وما اكتسبوه منه من خصوبة ومنطق وتحليل.

(3) … لا يعلم أي منا ما هو نفسه. نحن ميالون إلى معرفة السماء أكثر من ميلنا إلى معرفة أنفسنا. هذا رأي باسيليوس (عن أصل الإنسان، ص 169). واحسرتا!

(4) نشرت الأبحاث والتصاريح في مجلة

The Greek Orthodox Theological Review; Brooklyn

وقد خصصت الأمر بملحق. [نظراً لضيق الوقت لم نقم بنقل الملحق… (الشبكة)]

(5) Wort und Wahrheit, Dec. 1971; Vienna, p 11-181; Communiqué, p 182-3.

(6) {هنا لابد لنا أن نراعي التطور التاريخي الذي حدث بعد تاريخ كتابة هذا الكتاب. إذ أن نفس المؤلف، الشماس اسبيرو جبور قال، في كتاب “سألتني فأجبتك” المنشور في سنة 2005 أي بعد ربع قرن من تاريخ نشر هذا الكتاب، رداً على السؤالين التاليين:

س163- ما هي الفروقات الرئيسية بين الكنيسة الأرثوذكسية والكنائس اللاخلقيدونية؟ وهل توجد وحدة في الإيمان؟

ج 163- ….. واستغربت حديثاً عودتهم إلى التمسك بعباراتهم السابقة والطعن في خلقيدونيا، والدفاع المبطّن عن أوطيخا ضد فلافيانوس القسطنطينية، وعن قداسة مجمع 449 وبطله برصوما… وهذا تنصل من بيان البلمند في 5/3/1972. فإن سعوا إلى تراخينا في التشبّث بخلقيدونيا كما فعلوا دوماً منذ 451 فقد خاب فألهم. لا أرثوذكسية بدون المجمعين 4 و6 ومكسيموس المعترف وبالاماس.

س239- ما هو أصل الكنيسة القبطية؟

ج 239- ….. فشلت عبر التاريخ كل محاولات الصلح. ومحاولات القرن العشرين باءت عملياً بالفشل. فقد عادوا والسريان إلى التمسك بالقديم والطعن في خلقيدونيا والبابا لاون والإمبراطورة بولخاريا وو… واستغربتُ حديثاً ما جاء في كراسة البطريرك شنودة: يرفض استعمال كلمة “إله وإنسان” ليسوع. هو ملكي أكثر من الملك. بولس الرسول استعمل كلمة “يسوع الإنسان” (رو6: 16 و اتيمو2: 5-6). وهل هو إنسان بدون طبيعة إنسانية؟ دستور الإيمان قال فيه: “تجسد وتأنس” أي صار إنساناً. ويتهمنا بالقول بثلاث طبائع. ما لم يدركوه من إيماننا هو أن يسوع أخذ طبيعة بشرية لا شخصاً بشرياً على ما قال كيرلس…إلخ (راجع الرد الكامل على السؤالين هنا)

كما أننا سنأتي على الكثير من الفقرات في الكتاب ونضيف ونوضح في الحواشي بعضاً من الأمور الذي لم يركز عليها الشماس مراعاةً منه للجو العام السائد حينها والذي كان يُبشر خيراً بعودة الشركة والتي أصبحت الآن بعيدة جداً بعد إصدار كتاب “بدع حديثة”، فضلاً عن كتاب “طبيعة المسيح”، وبعض التصرفات التي كان أخرها عدم توجيه دعوة للكنيسة الأرثوذكسية في مصر للمشاركة في قانون الأحوال الشخصية الموحد للمسيحيين.} (الشبكة)

(7) ارتبكت في ترتيب مراجع الكتاب أمام صعوبات الطباعة من جهة وأمام ذهنية القارئ. فمبدئياً إما يثبتها المؤلف في أسفل الصفحة أو في نهاية الفصل أو في المتن. لجأت إلى الأساليب الثلاثة لتلطيف الصعوبات.

القسم الأول هو أكثر الأقسام جمعاً للأسلوب المثلث. فالمراجع في نهايته غالباً ما عدا “مين”.

(8) في نهاية هذا الدعاء 4 تواريخ وردت في الأصل 3 منها. فالكتاب جديد حتى نهاية هذا الدعاء

(9) في اليونانية اللفظة واحدة لكلمتي آية وعلامة.

Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF

معلومات حول الصفحة

عناوين الصفحة

محتويات القسم

الوسوم

arArabic
انتقل إلى أعلى