يتساءل ايفانس ما إذا كان من الضرروي أن يُطرح موضوع وجود مدرسة ثالثة غير مدرستي الإسكندرية وأنطاكية، هي المدرسة الأوريجنسية. أوريجنس اسكندراني كان رفيق دراسة وصديقاً للفيلسوف الوثني أفلوطين. كان عبقرياً وكتب كثيراً. وهو أبرز شُراح مدرسة الإسكندرية. إلا أنه تأثر بأفكار أفلاطون وبخاصة في مسألة سبق وجود الأرواح وسقوطها وعودتها. وهذا يتنافى مع الكتاب المقدس. فالروح والجسد مخلوقان سوية بدون أن يكون للروح وجود سابق. لا أزلية للأرواح. والسقوط ثم بالخطيئة التي ارتكبها إبليس وآدم وحواء. والعودة إلى الفردوس تكون بتجسد يسوع لا بصورة تلقائية كأن هناك قدراً محتوماً.
تأثر بهذه الأفكار ايفاغريوس حتى صارت مسنداً رئيسياً في تفكيره. في العام 400 حارب ثيوفيلوس الإسكندري ذلك. واتهم الذهبي الفم بأنه أوريجنيسي. امتد الخطر إلى فلسطين فغزا الرهبان وبخاصة في دير مار سابا. وأتى مار سابا نفسه الأمبراطور حوستنيانوس في العام 531 طالباً منه مكافحة الأريوسية في الغرب والنسطورية والأوريجنيسية. ويرى بعض في هذا الجمع بين النسطورية والأوريجنسية في تلك الحقبة احساساً بالروابط بين الاثنتين. لا شك أن أرسطوية الطرفين واضحة. فأوريجنسيو فلسطين خلقيدونيون اسماً ولكن على طريقة ايفاغرية.
من أبرز ممثلي النزعة أنذاك لاونديوس البيزنطي المترهب في دير مار سابا والذي افترق عن مار سابا في القسطنطينية، فأثر على التقي النافذ أفسابيوس، فتوصل إلى دفع اثنين من البارزين إلى الصدارة، فكان أحدهما ثيوذورس اسكيداس الذي صار المستشار اللاهوتي لجوستنيانوس.
في الجدل الدائر منذ مطالع القرن السادس كانت مسألة كيفية اتحاد طبيعتين في يسوع الشغل الشاغل للصراع بين الأرثوذكس واليعاقبة. فظهر دفاع عن خلقيدونية (514-518) بقلم يوحنا النحوي وذلك في كيليكا السورية فكان له بعد كبير في التوفيق بين خلقيدونية وكيرللس (مايندورف 96-97). وبرز في الصف الأرثوذكسي أيضاً أفرام بطريرك أنطاكية ولاونديوس الأورشليمي وسواهما.
ولكن لا بد من استطراد حول بداية طرح الموضوع. لم يجد آباء الكنيسة في اللغة اليونانية وعلوم زمانهم ألفاظاً صالحة للتعبير عن كيفية الاتحاد. فاستعملوا لفظة Crasis (المزج) ومشتقاتها المستقاة من الفلسفة الرواقية (1). كان اغناطيوس الأنطاكي قد استعمل في رسالته إلى الأزميريين لفظة “حامل الجسد” إلا أن لفظة “مزج” سادت حيناً طويلاً. غريغوريوس اللاهوتي بعبقريته الفذّة لم يقبل اللفظة بحرفيتها لدى الرواقيين. فالرواقية -بالرغم من نبرتها الأخلاقية- مشوبة بالمادية. غريغوريوس حاول في رسالته إلى كليدونيوس أن يفسرها تفسيراً روحياً متكلماً عن الاتحاد بين الكائنات الروحية.
ولكن اللفظة تعرضت للنقد. فطعن فيها كيرللس (مين 76: 401 و332) وثيوذوريتوس (مين 76: 400) وسويروس الأنطاكي نفسه (لوبون 230)، وسقطت من الاستعمال.
فدخلت المعركة ألفاظ أخرى أخلدها “الاتحاد الأقنومي”، “الاتحاد بحسب الأقنوم”.
لاونديوس البيزنطي أرسطوي حاول تفسير لفظتي جوهر واقنوم (قاموس اللاهوت الكاثوليكي 15: 1994) وحاول أيضاً تفسير خلقيدونية تفسيراً أوريجنسياً ايفاغريوسياً. اختلط في ذهن الناس دهراً مع لاونديوس أخر هو الأورشليمي. لفت الأنظار إليه في العام 1887 لوفس. ثم تتالت الأبحاث. أهمها أبحاث مرسيل ريشار (2). وصدرت أخيراً أطروحة الدكتور داود ايفانس تناقش السابقين وتعطي تحليلاً وافياً. خصه مايندورف بصفحات بالاستناد إلى معلومات استقاها من ايفانس. إلا أن هذا يبقى افضل مرجع. خلاصة رأيه في الاتحاد هي:
لاونديوس البيزنطي متأثر بايفاغريوس، واوريجنس. قال بأن كلمة الله موجود سرمدياً. ويتحد به أزلياً nous (روح). هذا “النوس” هو المسيح. كل الأرواح سقطت بدرجات مختلفة. “نوس” المسيح لم يسقط وإنما اتخذ جسداً. وينصرف إلى تحليلات فيها قرابة من النسطورية وتأثير أرسطوي. يقول بوجود طبائع ذات أقنوم وبطبائع ليس لها أقنوم وإنما تقنّمت في سواها. الطبعية الإلهية والجسد مقنمتان (1). الأقنوم هو الـ “نوس” أي المسيح. تم اتحاد الألوهة والجسد بواسطة الـ “نوس” (راجع 14 و15 مصادر).
طبعاً هذا ضلال مبين. لذلك اعتبره معاصروه وريشار وايفانس ومايندورف وكل المعاصرين الآن أوريجنيسياً هرطوقياً. ويتساءل ايفانس عما إذا كان إنكار أبوليناريوس لوجود “نوس” في ناسوت المسيح متأثراً برد الفعل على الأوريجنسية.
هذا الضلال لقي مقاومة ممتازة من لاوندويوس الأورشليمي (الذي يرجع الفضل إلى ريشارد في اكتشافه لنا) والأمبراطور جوستنيانوس والشجب القوي من المجمع الخامس المسكوني الذي بدا لآباء الكنيسة التالين له (مايندورف) مجمعاً موجهاً ضد الأوريجنسية أي ليس كما كان يذكر العلماء قبل حين أنه موجه ضد النسطورية. ولكنه ضرب المبتدعين معاً (3)، على ما نرى في المجمع السادس (4)، وانتهينا إلى القول بأن كلمة الله الموجود سرمدياً اتخذ من مريم طبيعة بشرية لها جسد وروح عاقل. وهذه الطبيعة بلا شخص. ولكنها طبيعة بشرية تامة كالطبيعة التي نراها في الأفراد. لو كانت شخصاً لما كانت طبيعة عامة ولانحصر الخلاص بفرد واحد، ولَما كان يسوع آدم الثاني الذي يتجدد ويلد فيه جميع الناس. ولكن هذه الطبيعة تحتاج في وجودها إلى مسند. فإن كانت بلا أقنوم فإن مسندها الأقنومي هو أقنوم كلمة الله، هذا الأقنوم الأزلي يحوي سرمدياً الطبيعة الإلهية. وصار في الزمن يحوي أيضاً الطبيعة البشرية. ومفهوم الاحتواء والتملك هذا مفهوم آبائي قديم نراه بخاصة لدى الكبادوكيين. الطبيعة الإلهية لا تقبل تأليفاً ولكن الشخص يقبل التأليف. بعد التجسد أقنوم يسوع يتألف من طبيعتين. لاهوته غير قابل للآلام وإنما نستطيع أن ننسب الآلام إلى أقنومه الإلهي مع أن ناسوته (5) هو الذي تألم. واتحاد ناسوته بلاهوته اتحاد أقنومي بينما نتحد نحن بالله بواسطة النعمة.
وبهذه الصورة ينحل معنا إشكال لاهوتي كبير جداً. فالطبيعة الإلهية، الجوهر الإلهي مشترك بين الأقانيم الثلاثة يمكلكه كل منهم بتمامه بدون أي تجزئة بينهم. هو بتمامه للآب وبتمامه للابن وبتمامه للروح القدس. إن قلنا أن الطبيعة الإلهية قد تجسدت نكون قد قلنا أن الثالوث القدوس قد تجسد. ولكن إن قلنا أن أقنوماً من الثالوث القدوس قد تجسد فإننا نحصر التجسد بشخص ابن الله. طبعاً نبقى في حدود السر الإلهي الذي لا تدركه أفهام الملائكة أنفسهم بل تسجد له خاشعة في سبح دائم.
(1) راجع 12 مصادر.
(2) اللفظة قديمة أيضاً. استعملها أبوليناريوس والقديس أبيفانيوس كما ذكر ريشار في مقاله عن “الأقنوم”.
(3) استطراد: وأذكر أني طالعت في الدفتر رقم 6 من دروس الأب بوريس بوبرنسكوي (ضاع فلم أستطع مراجعته) أن فكرة اتحاد كلمة الله بالروح البشري في يسوع هي فكرة أفلاطونية لا مسيحية. فضلال ايفاغريوس ولاونديوس البيزنطي شيء وآراء آباء الكنيسة من أمثال غريغوريوس وأوغسطين والدمشقي شيء آخر. فالفرق كبير. الافلاطونيون يقولون بسبق وجود الأرواح. ونحن نقول خلاف ذلك (غريغوريوس، الخطبة 45: 9 والرسالة إلى كليدونيوس 10. وأوغسطين، الرسالتان 187: 8 و140: 12. والنيصصي، ضد أبوليناريوس 41. والدمشقي 3: 6 و18 وبالاماس….)
(4) المجمع السادس يذكر عن الخامس انعقاده “ضد ثيودوروس وأوريجانس وديديموس وايفاغريوس وكتابات ثيوذوريطوس ضد فصول كيرللس.. والرسالة… هيباس…” (مجموعة التشريع ص 512).
(5) راجع 16